- السبت ديسمبر 24, 2011 12:58 am
#45479
كان الفيلسوف الكبير «توماس هوبز» من معاصري الثورة الإنكليزيّة، التي فتحت عهدا جديدا في تاريخ بريطانية . وبالرغم من أنّ الثورة سرعان ما انتكست، فإنّ الرجوع للماضي الإقطاعي لم يكن ليستمرّ طويلا.. وفي خضمّ الصراع ضدّ الايديولوجيّة الإقطاعيّة انبرى المفكّرون لطرح المسائل المتعلّقة بالدين والتسامح الديني والحقّ، وعملوا على تفسير ظهور المجتمع والدولة انطلاقا من قوانين الطبيعة البشريّة وسماتها.. وكانوا يعتبرون الطبيعة البشريّة نتاجا للعالم الخارجي، فسحبوا فهمهم الميكانيكي لظواهر الطبيعة ليشمل الحياة الاجتماعيّة أيضا.. هذه الاتجاهات والنزعات كلّها انعكست جليّة في فلسفة هوبز..
تلقّى هوبز تعليمه بجامعة أوكسفورد، حيث انكبّ على مطالعة أرسطو والفلاسفة الاسميّين.. وبعد جولة، طاف خلالها فرنسا وإيطاليا، عمل سكرتيرا لفرنسيس بيكون.. وفي باريس، التي كانت مركز البحوث الرياضيّة في ذلك العصر، انصرف إلى دراسة العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة، وكان يجتمع باستمرار بالفيلسوف الفرنسي غاسندي، الذي اشتغل بتبسيط فلسفة أبيقور ونشرها.. وقد لعبت مذاهب كوبرنيك وكبلر وغاليليه وهارفي دورا كبيرا في تطوره العلمي.. وقد عني بمسائل المجتمع.. وهو من علماء العصر الحديث، الذين حاولوا فهم ماهية الدولة والحقّ لا في ضوء التعاليم الكنسية، بل انطلاقا من الطبيعة البشريّة، باعتبارها جزءا من الطبيعة ككل.. ولذا جاءت آراؤه الاجتماعيّة امتدادا لآرائه الماديّة في الطبيعة وقوانينها..
الطبيعة , قام هوبز بصياغة آراء بيكون الماديّة مذهبا فلسفيّا متّسقا ومتكاملا.. وهو يرى أنّ العالم هو مجموعة من الأجسام، فلا وجود لغير الجسمي.. فالقول بجوهر غير جسمي هو من التناقض، تناقض القول بجسم غير جسمي.. ومن المتعذّر فصل التفكير عن المادّة المفكّرة.. والمادّة ذات، حاملة، التغيّرات كافّة.. وللأجسام كلّها، وللكيفيّات التي تلازمها، وللتغيّرات التي تطرأ عليها، علّة وحيدة، هي الحركة.. والحركة تخضع لقوانين الميكانيك، فلا يمكن أن تنتقل من جسم إلى آخر إلاّ عن طريق الدفعة.. وتحت تأثير الدفعة يحدث في الجسم جهد، لا يلبث أن يتحوّل إلى حركة إذا لم يقاوم بجهد معاكس.. ولكن الجهد بحدّ ذاته لا يدرك حسّيا، وإنّما تجتمع الجهود في مجرى واحد، فتصبح مدركة، لكنّها تبدو لنا حركة، لا جهدا..
وإلى الحركات والجهود تردّ جميع مظاهر الحياة النفسيّة مركّبة من الأحاسيس.. ولكن أحاسيس الإنسان لا تؤثّر أبدا على الجهود والحركات الجارية في الدماغ والقلب، فهي ليست أكثر من تعبير ذاتي عن هذه العمليات الموضوعيّة.. والإنسان كالحيوانات كلّها، آلة معقّدة، تتحدّد كافة أفعاله بالتأثيرات الخارجيّة، غير أنّ هذه الآلات تختلف عن الجمادات بأنّها تملك أعضاء تحتفظ بالانطباعات السابقة، وبأنّها تملك القدرة على مقارنة الانطباعات الجديدة مع السابقة.. وهذه المقارنة شرط ضروري للتمييز، الذي يشكّل، بدوره، شرطا أساسيّا للمعرفة..
والمعرفة عند هوبز تتمّ من خلال «المعاني» (الأفكار Ideas)، الأحاسيس هي المصدر الوحيد لمعانينا.. وهنا يرفض هوبز المبدأ الديكارتي «أنا أفكّر، إذن، أنا موجود»، ومعه القول بوجود أفكار فطريّة في الدماغ.. فالتجربة ترينا أنّ النّاس، المستسلمين لنوم عميق بدون أحلام، لا يفكّرون، ممّا يعني أنّه ليس ثمّة أفكار لديهم في ذلك الوقت.. وبذلك يبطل القول بأفكار فطريّة، فإنّ ما هو فطري يجب أن يكون ماثلا دوما للعيان.. وعلى هذا النحو لا تكون حواسنا الخارجية مصدر أفكارنا فحسب، بل وأصل معرفتنا عامّة.. تؤثّر الأجسام الخارجيّة على الحواسّ فتتولّد عند الإنسان المعاني الأوليّة.. فاهتزازات الأثير تولّد معنى الضوء، واهتزازات الهواء، معنى الصوت.. ثمّ أنّ محتوى هذه المعاني يرتبط دوما بوعي الإنسان.. ولكن هذا المحتوى يخضع، في مرحلة لاحقة، للمعالجة الذهنيّة.. وعلى هذا الطريق يميّز هوبز قدرات الذهن: مقارنة المعاني والتأليف بينها وتقسيمها..
وعلى أساس هذا الفهم لطبيعة المعاني ولطريقة معالجتها من قبل الذهن يبني هوبز آراءه في المعرفة...
الدولة والحقّ
لاقت آراء هوبز عن الدولة والحقّ شهرة واسعة.. وهنا يبدأ الفيلسوف بإرجاع الظاهرة المعقّدة - ظاهرة الدولة - إلى العناصر البسيطة المكوّنة لها، ثمّ يعمل لتفسير هذه العناصر بالاعتماد على قوانين الطبيعة.. ومن ذلك يخلص إلى ضرورة التمييز بين حالتين يكون عليهما المجتمع البشري: طبيعيّة ومدنيّة.. فالحالة الطبيعيّة تعني مجمل العلاقات البشريّة إذا طرحنا منها ما يتّصل بوجود الدولة.. وفيها يتصرّف النّاس وفقا لقانون حفظ البقاء، ويحقّ لكلّ فرد الاستئثار بما يستطيع أن يأخذه ويستولي عليه.. وهذا الحقّ يعني القوّة، ممّا يجعل من هذه الحالة، حالة «حرب الكلّ ضدّ الكلّ» ففيها «الإنسان للإنسان ذئب، والكل ُفي حرب ضدّ الكلّ، والواحد في حرب ضدّ المجموع».. ولكن هذه الحرب تتناقض مع نزعة حفظ البقاء، ممّا يدفع النّاس إلى طلب السلم، وهذا، بدوره، يتطلّب أن يتنازل كلّ فرد عن قسم من حقّه المطلق في تملّك كلْ شيء.. ويتمّ هذا التنازل بواسطة عقد، الأمر الذي يعني انتقال المجتمع من الحالة الطبيعيّة إلى الحالة المدنيّة..
ولتوجيه الأفراد إلى الهدف المشترك، ولمنعهم من الأفعال التي تهدّد الوئام والسلم، لا بدّ من سلطة مركزيّة، تعبّر عن إرادة الجميع.. ولذلك ينبغي على كلّ فرد أن يخضع إرادته الشخصيّة لفرد، أو لمجموعة من الأفراد، الذين يجب أن تعتبر إرادتهم إرادة الجميع.. وعلى هذا النحو تظهر الدولة.. ويعتبر هوبز الملكيّة المطلقة أفضل أشكال الحكم... ويذهب هوبز إلى أنّ حقّ السلطة لا يقتصر على سلوك الفرد، وإنّما يشمل معتقداته أيضا: الدينيّة والأخلاقيّة، حتّى والعلميّة منها.. كما أنّ السلطة الروحيّة يجب أن تخضع للسلطة الدنيويّة، وعلى الفرد أن ينصاع لتوجهات الدولة حتّى لو تعارضت مع الدين.. فالمؤمن يجب أن يخضع لقوانين الوطن خضوعا تامّا.. ولكن هوبز يضطرّ إلى التسليم بإمكانيّة ظهور تعارض، في بعض الأحيان، بين إرادة السلطة وبين نزعة الفرد الطبيعيّة إلى حفظ البقاء، وعند الحاجة القصوى يسمح، حتى، بانتفاضة الرعيّة ضدّ السلطة التي تنتهك حقّهم الطبيعي، فلكلّ مواطن الحقّ في الدفاع عن النفس.. وعندما يكفّ المواطن عن التمتّع برعاية السلطة السابقة، يكون حرّا في الخضوع لسلطة جديدة... وهنا يظهر أنّ ما يرمي له هوبز ليس الحكم الملكي بذاته، بل سلطة حكوميّة مطلقة، بغضّ النظر عن شكل الحكم.. وكانت حقوق سلطة الدولة، كما فهمها هوبز، تتفق تماما مع مصالح من قام بالثورة في إنكلترا أواسط القرن السابع عشر..
لقد كانت القيمة التاريخيّة لآراء هوبز الاجتماعيّة عظيمة للغاية من وجهة نظر أوربا.. فهو يعارض الفهم الإقطاعي الديني للدولة بنظريّة، ترى في ظهور الدولة تعبيرا عن ضرورة طبيعيّة في تطور المجتمع ذاته، لا تجسيدا لمشيئة الربّ على الأرض.. كما أنّه كان على صواب في نظرته إلى الدولة على أنّها جهاز للعنف والقسر..
كانت آراء هوبز تقدميّة في ظروف القرن السابع عشر، فقد عمل على تنقية ماديّة بيكون من شوائبها الدينيّة.. كما ساهمت فلسفته في تحرير العقول من أسر الأوهام الدينيّة، وتضمّنت بدايات جنينيّة للفهم المادي للظواهر الاجتماعيّة..
وليقنعنا بذلك، يدعونا هوبز إلى تخيّل نزاع دون «سلطة مشتركة»: إنّها حالة الطبيعة.. في هذه الحالة تكون الكائنات البشريّة متساوية على وجهين.. في البداية هم متساوون «على مستوى الجسم والرّوح»، ثمّ على «مستوى حقّهم الطبيعي»، فللكلّ الحرّية للقيام بالضروري للمحافظة على حياتهم، بما في ذلك مهاجمة الآخرين على سبيل الاحتياط.. ويواصل القول، أنّ مثل هذه الحالة هي حالة حرب.. فبالفعل إنّ تساوي الكفاءات «يولّد التساوي في الأمل الذي لدينا في بلوغ أهدافنا».. بحيث أنّه في حالة تنازع مصالح، لا أحد يكون مستعدّا نفسيّا ولا مجبرا أخلاقيّا عن التنازل.. والأسوأ: هو خوفنا من أن نكون ضحايا اعتداءات الآخرين، فيكون من المعقول أن نهاجم الأوّلين.. وبما أنّه لا توجد قوّة مشتركة لفرملة الشهوات الفرديّة يمكن «لحرب الكلّ ضدّ الكلّ» أن تبدأ..
كيف الخروج من مثل هذا الجحيم؟.. الحلّ بسيط: «تعاقد للكلّ مع الكلّ» عن طريقه يتخلّى الجميع عن حقّهم الطبيعي في الحكم الذاتي لفائدة «رجل» أو «مجلس» يكون متوليّا «القوّة المطلقة».. هذا هو العقد الاجتماعي الذي يأذن بميلاد الدولة.. وهكذا يخرج الكائن البشري من حالة الطبيعة وبفضل الخوف من العقاب الذي تهدّد به الدولة تبتعد حرب الكلّ ضدّ الكلّ.. وحتى يكون العلاج ناجعا يجب أن يضاف إلى هذا العقد بند له طابع المطلق: على قوّة الدولة أن تكون بلا حدود، «لا يمكن لأيّ ذات أن تستطيع التحرّر من الخضوع لتبعيّتها».. إنّ دولة هوبز مؤيّدة للقيام بما تريد للحفاظ على السلام.. وفي هذا الإطار هي الحكم الوحيد ولا أحد يمكنه أن يشتكي من أعمالها.. وبمقتضى العقد يكون كلّ فرد، بالفعل، «من يقوم بكلّ مهام وكلّ أحكام الدولة».. وهكذا يكون التشكّي من الدولة، عبارة عن تشكّي من الذات.. لهذا، لا أحد يمكنه، ببساطة، أن ينتقد قراراتها، ومن باب أولى وأحرى أن يعصيها.
تلقّى هوبز تعليمه بجامعة أوكسفورد، حيث انكبّ على مطالعة أرسطو والفلاسفة الاسميّين.. وبعد جولة، طاف خلالها فرنسا وإيطاليا، عمل سكرتيرا لفرنسيس بيكون.. وفي باريس، التي كانت مركز البحوث الرياضيّة في ذلك العصر، انصرف إلى دراسة العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة، وكان يجتمع باستمرار بالفيلسوف الفرنسي غاسندي، الذي اشتغل بتبسيط فلسفة أبيقور ونشرها.. وقد لعبت مذاهب كوبرنيك وكبلر وغاليليه وهارفي دورا كبيرا في تطوره العلمي.. وقد عني بمسائل المجتمع.. وهو من علماء العصر الحديث، الذين حاولوا فهم ماهية الدولة والحقّ لا في ضوء التعاليم الكنسية، بل انطلاقا من الطبيعة البشريّة، باعتبارها جزءا من الطبيعة ككل.. ولذا جاءت آراؤه الاجتماعيّة امتدادا لآرائه الماديّة في الطبيعة وقوانينها..
الطبيعة , قام هوبز بصياغة آراء بيكون الماديّة مذهبا فلسفيّا متّسقا ومتكاملا.. وهو يرى أنّ العالم هو مجموعة من الأجسام، فلا وجود لغير الجسمي.. فالقول بجوهر غير جسمي هو من التناقض، تناقض القول بجسم غير جسمي.. ومن المتعذّر فصل التفكير عن المادّة المفكّرة.. والمادّة ذات، حاملة، التغيّرات كافّة.. وللأجسام كلّها، وللكيفيّات التي تلازمها، وللتغيّرات التي تطرأ عليها، علّة وحيدة، هي الحركة.. والحركة تخضع لقوانين الميكانيك، فلا يمكن أن تنتقل من جسم إلى آخر إلاّ عن طريق الدفعة.. وتحت تأثير الدفعة يحدث في الجسم جهد، لا يلبث أن يتحوّل إلى حركة إذا لم يقاوم بجهد معاكس.. ولكن الجهد بحدّ ذاته لا يدرك حسّيا، وإنّما تجتمع الجهود في مجرى واحد، فتصبح مدركة، لكنّها تبدو لنا حركة، لا جهدا..
وإلى الحركات والجهود تردّ جميع مظاهر الحياة النفسيّة مركّبة من الأحاسيس.. ولكن أحاسيس الإنسان لا تؤثّر أبدا على الجهود والحركات الجارية في الدماغ والقلب، فهي ليست أكثر من تعبير ذاتي عن هذه العمليات الموضوعيّة.. والإنسان كالحيوانات كلّها، آلة معقّدة، تتحدّد كافة أفعاله بالتأثيرات الخارجيّة، غير أنّ هذه الآلات تختلف عن الجمادات بأنّها تملك أعضاء تحتفظ بالانطباعات السابقة، وبأنّها تملك القدرة على مقارنة الانطباعات الجديدة مع السابقة.. وهذه المقارنة شرط ضروري للتمييز، الذي يشكّل، بدوره، شرطا أساسيّا للمعرفة..
والمعرفة عند هوبز تتمّ من خلال «المعاني» (الأفكار Ideas)، الأحاسيس هي المصدر الوحيد لمعانينا.. وهنا يرفض هوبز المبدأ الديكارتي «أنا أفكّر، إذن، أنا موجود»، ومعه القول بوجود أفكار فطريّة في الدماغ.. فالتجربة ترينا أنّ النّاس، المستسلمين لنوم عميق بدون أحلام، لا يفكّرون، ممّا يعني أنّه ليس ثمّة أفكار لديهم في ذلك الوقت.. وبذلك يبطل القول بأفكار فطريّة، فإنّ ما هو فطري يجب أن يكون ماثلا دوما للعيان.. وعلى هذا النحو لا تكون حواسنا الخارجية مصدر أفكارنا فحسب، بل وأصل معرفتنا عامّة.. تؤثّر الأجسام الخارجيّة على الحواسّ فتتولّد عند الإنسان المعاني الأوليّة.. فاهتزازات الأثير تولّد معنى الضوء، واهتزازات الهواء، معنى الصوت.. ثمّ أنّ محتوى هذه المعاني يرتبط دوما بوعي الإنسان.. ولكن هذا المحتوى يخضع، في مرحلة لاحقة، للمعالجة الذهنيّة.. وعلى هذا الطريق يميّز هوبز قدرات الذهن: مقارنة المعاني والتأليف بينها وتقسيمها..
وعلى أساس هذا الفهم لطبيعة المعاني ولطريقة معالجتها من قبل الذهن يبني هوبز آراءه في المعرفة...
الدولة والحقّ
لاقت آراء هوبز عن الدولة والحقّ شهرة واسعة.. وهنا يبدأ الفيلسوف بإرجاع الظاهرة المعقّدة - ظاهرة الدولة - إلى العناصر البسيطة المكوّنة لها، ثمّ يعمل لتفسير هذه العناصر بالاعتماد على قوانين الطبيعة.. ومن ذلك يخلص إلى ضرورة التمييز بين حالتين يكون عليهما المجتمع البشري: طبيعيّة ومدنيّة.. فالحالة الطبيعيّة تعني مجمل العلاقات البشريّة إذا طرحنا منها ما يتّصل بوجود الدولة.. وفيها يتصرّف النّاس وفقا لقانون حفظ البقاء، ويحقّ لكلّ فرد الاستئثار بما يستطيع أن يأخذه ويستولي عليه.. وهذا الحقّ يعني القوّة، ممّا يجعل من هذه الحالة، حالة «حرب الكلّ ضدّ الكلّ» ففيها «الإنسان للإنسان ذئب، والكل ُفي حرب ضدّ الكلّ، والواحد في حرب ضدّ المجموع».. ولكن هذه الحرب تتناقض مع نزعة حفظ البقاء، ممّا يدفع النّاس إلى طلب السلم، وهذا، بدوره، يتطلّب أن يتنازل كلّ فرد عن قسم من حقّه المطلق في تملّك كلْ شيء.. ويتمّ هذا التنازل بواسطة عقد، الأمر الذي يعني انتقال المجتمع من الحالة الطبيعيّة إلى الحالة المدنيّة..
ولتوجيه الأفراد إلى الهدف المشترك، ولمنعهم من الأفعال التي تهدّد الوئام والسلم، لا بدّ من سلطة مركزيّة، تعبّر عن إرادة الجميع.. ولذلك ينبغي على كلّ فرد أن يخضع إرادته الشخصيّة لفرد، أو لمجموعة من الأفراد، الذين يجب أن تعتبر إرادتهم إرادة الجميع.. وعلى هذا النحو تظهر الدولة.. ويعتبر هوبز الملكيّة المطلقة أفضل أشكال الحكم... ويذهب هوبز إلى أنّ حقّ السلطة لا يقتصر على سلوك الفرد، وإنّما يشمل معتقداته أيضا: الدينيّة والأخلاقيّة، حتّى والعلميّة منها.. كما أنّ السلطة الروحيّة يجب أن تخضع للسلطة الدنيويّة، وعلى الفرد أن ينصاع لتوجهات الدولة حتّى لو تعارضت مع الدين.. فالمؤمن يجب أن يخضع لقوانين الوطن خضوعا تامّا.. ولكن هوبز يضطرّ إلى التسليم بإمكانيّة ظهور تعارض، في بعض الأحيان، بين إرادة السلطة وبين نزعة الفرد الطبيعيّة إلى حفظ البقاء، وعند الحاجة القصوى يسمح، حتى، بانتفاضة الرعيّة ضدّ السلطة التي تنتهك حقّهم الطبيعي، فلكلّ مواطن الحقّ في الدفاع عن النفس.. وعندما يكفّ المواطن عن التمتّع برعاية السلطة السابقة، يكون حرّا في الخضوع لسلطة جديدة... وهنا يظهر أنّ ما يرمي له هوبز ليس الحكم الملكي بذاته، بل سلطة حكوميّة مطلقة، بغضّ النظر عن شكل الحكم.. وكانت حقوق سلطة الدولة، كما فهمها هوبز، تتفق تماما مع مصالح من قام بالثورة في إنكلترا أواسط القرن السابع عشر..
لقد كانت القيمة التاريخيّة لآراء هوبز الاجتماعيّة عظيمة للغاية من وجهة نظر أوربا.. فهو يعارض الفهم الإقطاعي الديني للدولة بنظريّة، ترى في ظهور الدولة تعبيرا عن ضرورة طبيعيّة في تطور المجتمع ذاته، لا تجسيدا لمشيئة الربّ على الأرض.. كما أنّه كان على صواب في نظرته إلى الدولة على أنّها جهاز للعنف والقسر..
كانت آراء هوبز تقدميّة في ظروف القرن السابع عشر، فقد عمل على تنقية ماديّة بيكون من شوائبها الدينيّة.. كما ساهمت فلسفته في تحرير العقول من أسر الأوهام الدينيّة، وتضمّنت بدايات جنينيّة للفهم المادي للظواهر الاجتماعيّة..
وليقنعنا بذلك، يدعونا هوبز إلى تخيّل نزاع دون «سلطة مشتركة»: إنّها حالة الطبيعة.. في هذه الحالة تكون الكائنات البشريّة متساوية على وجهين.. في البداية هم متساوون «على مستوى الجسم والرّوح»، ثمّ على «مستوى حقّهم الطبيعي»، فللكلّ الحرّية للقيام بالضروري للمحافظة على حياتهم، بما في ذلك مهاجمة الآخرين على سبيل الاحتياط.. ويواصل القول، أنّ مثل هذه الحالة هي حالة حرب.. فبالفعل إنّ تساوي الكفاءات «يولّد التساوي في الأمل الذي لدينا في بلوغ أهدافنا».. بحيث أنّه في حالة تنازع مصالح، لا أحد يكون مستعدّا نفسيّا ولا مجبرا أخلاقيّا عن التنازل.. والأسوأ: هو خوفنا من أن نكون ضحايا اعتداءات الآخرين، فيكون من المعقول أن نهاجم الأوّلين.. وبما أنّه لا توجد قوّة مشتركة لفرملة الشهوات الفرديّة يمكن «لحرب الكلّ ضدّ الكلّ» أن تبدأ..
كيف الخروج من مثل هذا الجحيم؟.. الحلّ بسيط: «تعاقد للكلّ مع الكلّ» عن طريقه يتخلّى الجميع عن حقّهم الطبيعي في الحكم الذاتي لفائدة «رجل» أو «مجلس» يكون متوليّا «القوّة المطلقة».. هذا هو العقد الاجتماعي الذي يأذن بميلاد الدولة.. وهكذا يخرج الكائن البشري من حالة الطبيعة وبفضل الخوف من العقاب الذي تهدّد به الدولة تبتعد حرب الكلّ ضدّ الكلّ.. وحتى يكون العلاج ناجعا يجب أن يضاف إلى هذا العقد بند له طابع المطلق: على قوّة الدولة أن تكون بلا حدود، «لا يمكن لأيّ ذات أن تستطيع التحرّر من الخضوع لتبعيّتها».. إنّ دولة هوبز مؤيّدة للقيام بما تريد للحفاظ على السلام.. وفي هذا الإطار هي الحكم الوحيد ولا أحد يمكنه أن يشتكي من أعمالها.. وبمقتضى العقد يكون كلّ فرد، بالفعل، «من يقوم بكلّ مهام وكلّ أحكام الدولة».. وهكذا يكون التشكّي من الدولة، عبارة عن تشكّي من الذات.. لهذا، لا أحد يمكنه، ببساطة، أن ينتقد قراراتها، ومن باب أولى وأحرى أن يعصيها.