منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#45597
"انهيار العولمة": السقوط المدوّي وإعادة تشكيل العالم



عبد الدائم السلامي

اكتفت أغلبُ دُورِ النشر العربيّة من الفعل الثقافي بتسويق بعضِ نتاجاتِه وفقَ غايات رِبحيّة بحتٍ. حتّى أنّ ذلك أثّر كبيرَ تأثير على جودة المنتوج الذي يُسوّق إلى القارئ وعلى انحسار أنواعه في القصّة والرواية والشعر دون سواها من مناشط الفكر.

وهو أمر زاد من اتساع الهوّة بين الكِتاب والمتلقّي وساعد على إضعاف الرغبة في الفعل القرائي لدى شعوبنا العربية. لا بل وحرّض على عَودة الجهالة القرائيّة إلى أوساطنا الثقافية التي يكتفي الفاعلون فيها بثقافة الاستماع والرؤية.

وهي ثقافة مجّانية غير منتقاةٍ تستهدف إثارة الغرائز على حساب إنارة الفكر بروح التخييل وتسعى إلى تسييج الفعل الإبداعي بأشراط كلفة النشر والترويج على حساب شساعة رغبة المبدِع في الوصول إلى النّاس، وهي تفعل ذلك وتتغيّا منه تحقيق أهداف أهل المصالحِ.

إلاّ أنّنا لا نعدم وجود دُور للنشر يسعى القائمون عليها إلى تمكين القارئ العربيّ من أدوات المعرفة قديمة كانت أو حديثة عبر تجويد اختياراتهم الفكريّة والإبداعيّة واعتبار غَناء الإنتاج العربيّ الإبداعيّ ونهضته مهمّة حضاريّة مقدّسة على غرار ما صارت إليه الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع التي تأسّست عام 1985، ونهضت سياستُها الفكريّة على منهج يخدم الثقافة العربية والإسلامية، ويلتزم في ذلك بصدق الأداء، وأمانة التنفيذ، ونبل الهدف وسمو رسالة التثقيف والتنوير.

وهي تروم في ذلك تحقيق التميّز، واحترام حقوق الإبداع والتأليف، والترويج لألمع الأسماء عطاء فكرا وإبداعا، والجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومواكبة أحدث اتجاهات النشر مع التنويع في أنماط المعرفة. حيث شملت منشوراتها المعارف العامة والفلسفة وعلم النفس والدين الإسلامي والعلوم الاجتماعية واللغات والعلوم البحتة والعلوم التطبيقية إضافة إلى الفنون والأدب والجغرافيا والتاريخ والتراجم والسلاسل والموسوعات وكتب الأطفال.

وما كانت هذه الدّار لتحقّق كلّ هذه الأهداف لولا وجود الأستاذ محمد رشاد رئيس مجلس الإدارة فيها، وهو مثقّف واعٍ بمسؤولياته الحضاريّة والقومية، عشق مهنة النشر واشتغل بها على مدار أكثر من ثلاثين عاما متواصلة. ابتدأ رحلته مع الكتاب فى إحدى دور النشر الكبرى فى لبنان، ثم عاد إلى مصر فى عام 1975 وتولى إدارة دار الكتاب المصرى اللبنانى منذ عام 1975 حتى عام 1985، ثمّ أسس فى العام نفسه الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع.

والجدير بالذّكر أنّ هذه الدّار نالت مجموعة من الجوائز العربية الهامّة منها جائزة "أفضل ناشر مصري" بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، 1997" وجائزة سوزان مبارك لكتب الأطفال عام 1999، وجائزة الإبداع الذّهبية في النشر عام 2003، وشهادة تقدير في مجال النشر للأطفال عام 2004، وجائزة الشيخ زايد للكتاب كأفضل دار للنشر والتوزيع في الوطن العربي لعام 2009. هذا بالإضافة إلى جوائز أخرى عربية ودولية عديدة.

ولعلّ جرأة الدار المصرية اللبنانية في نشر كتاب "انهيار العولمة" للكاتب الكندي جون رالستون سول، الذي عرّبه محمد الخولي، عام 2009، هي التي جعلت من منشوراتها الفكريّة علامة فاصلة في تاريخ النشر بالوطن العربي.

ذلك أنّ نشر هذا الكتاب نهض على تبصُّرٍ كبير من قبل الأستاذيْن محمد رشاد ومحمد الخولي، حيث وقع اختيارهما عليه باعتبار ما فيه من فكر ونظر وتحقيق في المجريات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية العالمية، حيث لم يعتمد فيه كاتبه على التوصيف الشعريّ أو الدراميّ للوافع الإنساني الراهن فقط، ولم يركن فيه إلى كيلِ التُّهم ولا إلى الالتذاذ بذكر مساوئ العولمة ومكر منظِّريها، بل تعدّى ذلك إلى التحليل المنهجيّ والتأويل المشروط بالحقائق العلمية المعيشة.

* انهيار العولمة وإعادة اختراع العالَم

ينقسم هذا الكتاب إلى خمسة فصول كبرى هي:السياق، الصعود، الهضبة، السقوط وأين نذهب الآن. وهي فصول سعى الكاتب فيها إلى تتبّع مراحل العولمة والأسباب التي ساعدت على انتشارها والرهانات التي طرحتها وما تحقّق منها وما بقي في عِدادِ الوعود.
ثمّ نظر في تجلّيات سقوطها من كل جانب، وعلى كل أصعدة تمظرهاتها سواء الاقتصادية منها أو السياسة والثقافية، ووضع أمام القارئ الأسباب التي مكّنت مفكريها الكبار من التأثير على العالم بإطلاق مقولاتهم عن العولمة واعتبارها الدين الجديد، لا بل واعتبارها نهاية للتاريخ البشريّ. كما عرّى ما روّجوه من قيم وعقائد أضّرت بالكثير من دول العالم، بل وساعدت على انهيارها.

ولعلّ هذا ما جعل "انهيار العولمة" واحدًا من أهم الكتب والدّراسات التى سعت إلى تقييم النظام العولمي، في محاولة للتعُّرف على مصادر قوتّه ونقاط ضعفه، وتحديد مبادئه ومنطلقاته، وتبيّن تأثيراته الكونية على مجالات الاقتصاد والسياسة والأحوال الاجتماعية والإنسانية للبشر والعمران، وربما هو الكتاب الوحيد الذي تنَّبأ بانهيار إمبراطورية التجارة الحرة.

* القومية الإيجابية بديلا عن العولمة

يذكر الدكتور حامد عمّار في تقديمه لهذا الكتاب أن مفكّري العولمة أمثال فوكوياما وأنتوني جيدينز وملتون فريدمان وتوماس فريدمان سنّوا لها عقائد تقوم عليها فلسفتها وتمنحها التفشّي السلس في جميع المعيش البشريّ، وخاصّة منها العودة إلى الدّين واستثماره استثمارًا يُغطّي إجرام التعولم، حيث يقول: "ولم تتأخّر عقيدة العولمة عن إكساب أيديولوجيتها مسحة التديّن واهتداء برسالة السماء في إنقاذ البشريّة من دعاوي النظريّة الكينزيّة، ومن تدخّل الدولة في معالجة الركود الاقتصاديّ في حقبة السبعينات وما قبلها.

ولعلّ هيمنة القوى الاقتصادية والتجارية وتلاقحها مع جماعات التطرّف الدّيني، قد أضافت إلى التشبّث بضرورة حرّية التجارة بُعدًا يدعم مصداقيتها وحتميتها في إنقاذ البشريّة. وليس بعيدًا عنّا مقولات بوش الأب وبوش الصغير، وما تذرّعا به في إشعال نار الحروب من تبرير بدعاوي الأقدار والمشيئة الإلاهية. وهكذا لم تصبح أيديولوجية العولمة حقيقة اقتصادية فحسب، بل وغدت أيضا حقيقة دينية لا تراجع عنها" "ص ص 14-15".

والكتابُ، إذْ يعرُضُ مظاهر العولمة وردّات فعل الواقع البشري على فلسفاتها التي حاولت تنميط المجتمعات على اختلاف ثقافاتها ومعتقداتها، يخلص إلى نتيجة تبيّنها مؤلّفه من خلال الوقائع العالميّة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

ومفادُها أن العولمة إلى اندثار محتّم وأنّ الانتماء القوميّ سيكون عماد نهضة البشريّة القادمة. ذلك أنّ الأسباب التي أنتجت فلسفة العوملة راحت تنحسر طاقاتها عن التأثير في الواقع البشريّ الراهن، لا بل أصبحت أسبابًا ثانويّةً مقارنة بما جدّ من "عصيانٍ" بشريّ لها قادته وقائع جديدة تحترم الإنسان في خصوصيته الثقافية وبالأخص في شعوره القومي الإيجابيّ لم يكن بمقدور منظِّري إيديولوجية العولمة التنبّه إليها.

ولئن كان فوكوياما يؤمن بتحوّل التجارة من فعلٍ ربحيّ إلى ظاهرة فكريّة تقود مصالح الناس وتحرّك جميع القُوى المجتمعية الأخرى وتحكم بقبضتها مسيرة حضارة الإنسان وتعلو على الفعل السياسي فلا تتأثر بتقلّباته مَا يوفّر قدرة الشعوب على التحرّر من حكوماتها الفاسدة، وسيساعد كلّ ذلك على تحطيم الدورات الاقتصادية التاريخيّة التي عاشتها البشريّة ومن ثمة يبلغ التاريخ نهايتَه، فإنّ هذا الكتاب يضع أمام القارئ حقائق رصينة خالية من الوهم تكشف عن أنّ هذه العولمة بلغت مرحلة لم تعد فيها قادرة على التحرُّك خطوة أخرى في اتجاه ما رسمه لها أنصارُها من غايات.

وعليه، فإنّ نهايتها على الأبواب حيث نقرأ له قولَه: "نعرف بيقين أن العولمة، كما أعلنوها ووعدوا بها بل أكّدوها وشدّدوا على حتميتها في عقود السبعينات والثمانينات وفي ردح طويل من التسعينات، قد تهاوت حاليا، ولكن ما برحت شظاياها تتطاير هنا وهناك. وثمة أشلاء أخرى انهارت أو بسبيلها إلى الانهيار، وبعض منها محجوز خلف التيّار.

كما أنّ ثمة دفقًا من قوى أخرى بدأت تفعل فعلها، لتسحبنا إلى عدّة اتجاهات متباينة" "ص 446".
ولأنّ "العالم حافل بالدول القومية التي ما زال أمامها كمّ كبير من الأعمال التي لم تكتمل بعدُ وأنّ القومية الإيجابيّة هي بديلها الإيديولوجيّ.

http://www.alarabonline.org/index.as...2010%208:51:32