منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#49259
من المؤسف أن يتحول حقل العلاقات الدولية وخصوصا الأخلاقية منها إلى نوع من الممارسات السياسية التي تتجاذبها المتغيرات الدولية وتسيرها الأهواء والمصالح المبنية على العلاقات الظرفية او اللحظية , إلى درجة تتحول فيها تلك المظاهر الأخلاقية والتقليدية للعلاقة ما بين الأمم والشعوب في مختلف دول العالم إلى شكل من أشكال الشد والجذب بسبب تلك التحولات السلبية والمظاهر السياسية التي شابت تلك العلاقة الإنسانية لسبب او لآخر والتي يفترض أن تكون علاقة ود وترابط وتعارف وتسامح لا علاقة صدام وتعنت وانتهاك للحقوق والحرمات القانونية والإنسانية والأخلاقية للبشرية .
وبمعنى آخر أن بروز بعض المظاهر والتحولات السياسية الحديثة وخصوصا العالمية منها - أي - تلك التي شكلت الصورة العامة للتاريخ السياسي الحديث , كنوع من صور المعالجات الأمنية والسياسية والاقتصادية لبعض القضايا الدولية كالإرهاب وثورة المعلومات والعولمة وقضايا الحدود والخطابات السياسية وردود الأفعال الدولية على بعض تلك المتغيرات والخلط ما بين بعض المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية والفواصل والمعايير القانونية والحقوقية كعدم التفريق ما بين مفهوم الإرهاب الدولي بمعطياته الظاهرة كالعنف والقتل والمقاومة كحق مشروع لردع العدوان على سبيل المثال وغيرها الكثير , كان له الدور الأكبر في تلك الانتهاكات الدولية لحقوق الإفراد والشعوب في مختلف دول العالم , مما ترتب علية تراجع مفهوم حسن الإدارة العامة للعلاقات الدولية.
بحيث أننا نستطيع أن نؤكد بأن تلك التحولات السياسية العالمية سالفة الذكر كان لها الدور الأكبر والأبرز في الإساءة لمفهوم العلاقات الدولية بمفهومها التقليدي والأخلاقي , والتأثير سلبا على العلاقات ما بين الأمم والشعوب في جل أنحاء الأرض , بحيث تم استغلالها بشكل سيء للغاية من قبل بعض الدول أو الأفراد الذين يقتاتون على الفوضى والحروب , وقد كان بروز الولايات المتحدة الأميركية كإمبراطورية متفردة وانهيار الاتحاد السوفيتي بسبب دخوله إلى المستنقع الأفغاني الفتيل الذي أشعل العالم وأيقظ شياطين الفتنة النائمة تحت الرماد , حيث ( تمخض عن تفكك الاتحاد السوفيتي مثلا حشد من الحركات القومية النشيطة التي طرحت خيارات جديدة على الأطراف الدولية الفاعلة , ما لبثت جملة الأحداث الأخيرة على مستوى الاقتصاد الكوكبي أن أطلقت حركة الآلاف من اللاجئين الاقتصاديين - وقد أدى اتساع مدى هذه الحركة بالذات إلى تكوين زحمة من المشكلات الجديدة التي لم يسبق لها أن كانت متوقعة ) فانهارت على اثر ذلك الكثير من التوازنات السياسية والإستراتيجية العالمية التي مهدت لبروز تلك المظاهر والتحولات السياسية التي أثرت على مفهوم العلاقات الدولية.
وبالتالي فأن ما أحدثته تلك المظاهر والمتغيرات السياسية الحديثة من أثار سلبية جعلت الكثير من الدول والحكومات تتعامل في علاقاتها مع الآخرين بأساليب مستحدثة لمواكبة تلك المتغيرات لم تعهدها المجتمعات والشعوب من قبل , وقد استخدمتها بشكل سيء للغاية وتحت شعارات غير منطقية كحماية أمنها القومي من الإرهاب , والتصنت على الشعوب والدول الأخرى تحت نفس الذريعة والقيام بالكثير من الانتهاكات الحقوقية والسيادية للعديد من الدول والشعوب بنفس المنطق , او بخرق الحدود والاعتداء على حقوق الجوار والإساءة إلى شعوب الدول الأخرى بتضييق الخناق عليهم بمختلف الوسائل التي يتضح من ظاهرها المشروعية والقانونية , ويكمن في باطنها التعنت والإساءة إلى مفهوم تلك العلاقة الأخلاقية السامية- أي - علاقة " شعوب وقبائل لتعارفوا " كما وصفها القرآن الكريم , وعرفتها الأديان السماوية والقوانين الأرضية والعلاقات الإنسانية في القديم والحديث , وغيرها من الأساليب التي نتجت بشكل او بآخر عن تلك التحولات الدولية والمتغيرات العالمية سالفة الذكر.
مع أن المنطق والعقل السياسي الناضج يستطيع أن يدرك بأن تلك التحولات الدولية أو كما يطلق عليها البعض " العلاقات العابرة للقارات " لا يمكن السيطرة عليها بتلك الطرق " الهمجية " وغير الأخلاقية وخصوصا بمفهوم تضييق الخناق على الأبرياء والشعوب المسالمة , كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال في العديد من قضاياها الدولية السياسية منها أو العسكرية وغيرها من الدول التي لم تقدر قيمة العلاقة ما بين الأمم والشعوب, فجرت نفسها إلى طريق الصراعات والصدامات مع الآخر , رغم وجود العديد من الحلول الإيجابية المتوفرة لحل مجمل تلك القضايا , وكما يقول الأستاذ جوزيف 0 س 0 ناي وهو عميد معهد كندي لأنظمة الحكم في جامعة هارفارد ( وأما قاع رقعة الشطرنج فانه مجال العلاقات عابرة القومية التي تتخطى الحدود الخارجة عن سيطرة الحكومات , وهو مجال يشمل العناصر الفاعلة من غير الدول , وهي عناصر شتى مختلفة كالفرق بين الصيارفة الذين يحولون عن طريق البريد الاليكتروني مبالغ اكبر من معظم الميزانيات الوطنية من جهة , وبين إرهابيين يشنون هجمات ومفسدين يعبثون بعمليات الانترنت من جهة أخرى , وعلى هذا القاع من الرقعة فان القوة مشتتة على نطاق واسع ) بحيث يستحيل على تلك الحكومات العالمية ومهما وصلت بها القوة من احتواء تلك الظواهر والمشاكل السياسية الدولية , فالدول الكبرى بوجه عام والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص ( تنقصها الشروط المسبقة دوليا ومحليا لحل صراعات هي من الشؤون الداخلية للمجتمعات الأخرى ).
ولنضرب هنا بعض الأمثلة على تلك الصور والانعكاسات اللاخلاقية والتي أحدثتها تلك المتغيرات على صعيد الإساءة للعلاقة ما بين الدول والشعوب في مختلف دول العالم , ولنبدأ أولا بأكبر وأهم تلك التحولات السياسية وهي قضية " مكافحة الإرهاب " ولنأخذ مثال على ذلك تصرف الحكومة الأميركية من الناحيتين الأمنية والأخلاقية مع هذه القضية من حيث التشدد وتحجيم الحريات الشخصية والاعتقالات غير القانونية والتصنت على الآخرين وغيرها من أساليب المعالجات الأمنية المتصلبة , والتي أساءت كثير إلى شعوب الكثير من الدول في كل أنحاء العالم وخصوصا الدول العربية والإسلامية , وفيما يمكن أن نطلق عليه بأكبر حملة انتهاكات للحريات الشخصية شهدتها البشرية , ونستدل في هذا الخصوص على ما قاله الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في كتابه " Our endangered values, America's Moral Crisis " " قيمنا المعرضة للخطر , أزمة أميركا الأخلاقية " حيث وضح من أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت اكبر ذريعة للقيادات الأصولية الأميركية والتي اسماها بالمحافظين الجدد من اجل انتهاك تلك الحريات الإنسانية والقانونية والتي كفلها الدستور الأميركي منذ القديم .
حيث يقول الرئيس الأميركي جيمي كارتر في هذا الجانب الأخلاقي لأزمة العلاقات الدولية من أنه و( في أعقاب الهجمات سارعت الأجهزة الأميركية إلى اعتقال 1200 شخص بريء في الأراضي الأميركية معظمهم من العرب والمسلمين دون توجيه اتهامات لهم ودون أن يكون لهم أي علاقة بأنشطة إجرامية أو إرهابية , لقد حرمتهم من الحصول على النصيحة القانونية ، وأجبرت بعضهم على مغادرة أميركا , ولكي تبرر هذه الإجراءات سارعت الإدارة إلى فرض قانون الحماية الوطنية الذي يعتبره كثيرون انتقاصا للحريات المدنية 00 و يرى كارتر أن هذا التوجه بات يهدد الفصل بين السلطات الثلاث في الولايات المتحدة : السياسية والتشريعية والقضائية كما يهدد صورة الولايات المتحدة خارجيا ، بسبب ما يتبناه المتشددون من أطروحات لا تعبأ بالقانون الدولي وتفضل المصالح "الاستعمارية" على المصالح الوطنية).
المثال الآخر والذي يوضح صورة الإساءة إلى مفهوم العلاقات الدولية بسبب تلك العوامل والمظاهر السياسية ولكن بشكل اقل عن مفهوم الإرهاب هو سوء استغلال مفهوم العولمة بجميع أشكالها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية00 الخ , بحيث قامت العديد من دول العالم وخصوصا الكبرى منها إلى اختراق خصوصيات المجتمعات التقليدية وضخ بعض المفاهيم السيئة والأخلاق المنحلة كوسيلة منها لتحويل تلك المجتمعات إلى ثقافاتها ومفاهيمها الغربية وبالقوة , أو كوسيلة غير مباشرة منها لتحطيم القيم والمثل الدينية والاجتماعية والثقافية لتلك الدول وذلك بهدف الإطاحة بأفكار وسياسات تلك الحكومات , وبشكل أو بآخر فقد شجعت العولمة على انتهاك بعض الخصوصيات وسيادة بعض الدول والشعوب في الشرق الأوسط على سبيل المثال , مما ترتب عليه ظهور ردود أفعال معارضة لتلك المفاهيم الغربية , وبالتالي صدامات داخلية كان السبب فيها " الحرب الثقافية " والفكرية كامتداد لمفهوم العولمة , ( ففي مجتمعات أخرى كإيران وأفغانستان والسودان فإن الجماعات المحافظة تقاوم العولمة بقوة , بل بعنف , إذ أن ردود الفعل على العولمة تساعد على استثارة النزعة الأصولية ) , ولكن وكما تم استغلال تلك الظاهرة العالمية للإساءة لمفهوم العلاقات بين الدول والشعوب , فقد كان للعولمة دور إيجابي كبير لا نستطيع تغافله مطلقا , فقد كانت السبب للانفتاح الحضاري على الآخر , ووسيلة للتقريب بين الأمم والشعوب , وبالتالي فقد كان وسيلة لحسن إدارة العلاقات الدولية في جل دول العالم , ( فهناك عدة بلدان في آسيا الشرقية - على سبيل المثال - كانت أوضاعها سيئة على نحو مماثل , فاستخدمت شبكات العولمة لزيادة ثرواتها ومكانتها في الاقتصاد العالمي , ومن الصعب العثور على أي بلدان ازدهرت بينما كانت منغلقة على نفسها وبمعزل عن العولمة ) .
وختاما فإن ( علينا أن نحشد ائتلافات دولية لمواجهة التهديدات والتحديات المشتركة , وسوف يتعين علينا أن نتعلم كيف نتشارك , وكذلك كيف نقود بطريقة أفضل ) هذا العالم من اجل تحسين العلاقات العامة بمختلف جوانبها بين الأمم والشعوب , وإلا فان النتائج التي ستترتب على انهيار تلك المفاهيم الأخلاقية للسياسة الدولية بسبب تلك المتغيرات والظواهر السياسية ستكون وخيمة وخصوصا على مستوى العلاقات الدولية بين الدول , ففي حقيقة الأمر لا تكمن المشكلة في تصدير تلك المفاهيم والظواهر السياسية كأداة او كفكر جيوبوليتيكي يستعمر الخارطة السياسية الدولية , بل تكمن في طريقة إدارة تلك الأداة او الظاهرة من خلال المستغلين لها من الدول والحكومات والأفراد في مختلف أرجاء الأرض , فقوانين الهجرة وحق اللجوء السياسي والتدخل في الانتخابات والخطابات السياسية والدينية والخلافات الحدودية لا تتعدى كونها وسيلة وأداة من الأدوات السياسية التي ربما يتم استغلالها بشكل سلبي او ايجابي في توطيد او تهييج العلاقات الدولية 0