- الاثنين يوليو 23, 2012 4:57 pm
#53176
لكل شيءٍ إذا ما تم نُقصانُ
فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كماَ شاهدتُها دولٌ
من سَرّه زمنٌ ساءته أزمانُ
هكذا رثى أبو البقاء الرندي في مرثيته الأندلس وضياعها وضياع غرناطة، لكننا اليوم، وبعد أكثر من خمسمائة عام من سقوط غرناطة، مازلنا نتغنى بها لكونها تعبّر عن رفاهية حضارة العرب ومكان تعايش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود في تسامح لسنوات طويلة، اليوم تعود غرناطة لتتسامح مرة أخرى مع تاريخها العربي، فتعدّه جزءًا من نسيج تاريخها تعتز به، خاصة أن اقتصادها يقوم على السياح الذين يأتون من كل حدب وصوب لزيارة معالمها خاصة قصور الحمراء التي سلبت بروعتها ورشاقتها عقول الفنانين والأدباء، دعوني أصطحبكم إلى غرناطة، التي طالما راودت مخيلتي أحلام زيارتها.
كانت الدعوة من معهد الدراسات العربية في غرناطة للمشاركة في مؤتمر علمي أقيم لدراسة الحضارة العربية ومنجزاتها، فشاركت ضمن مشاركين من تونس وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهالني عند وصولي أن المعهد في حي البيازين، ذلك الحي الذي بكى أهله ونكل بهم حين سلمت غرناطة لإيزابيلا وفرناندو، المعهد جعلني أستعيد على الفور صورة منازل الفسطاط وبخاصة فناؤه الذي يفتح عليه سقيفة تتشابه مع ماتبقى من منازل الفسطاط، وكأن القبائل اليمنية، التي شاركت في فتح مصر ثم في فتح الأندلس قد نقلت معها موروثًا معماريًا، لتدلل على التواصل الحضاري من شرق إلى غرب المتوسط، المعهد به مكتبة رائعة وعلماء إسبان كرّسوا حياتهم لدراسة تاريخ وحضارة الأندلس، غير أن قلة منهم يتحدثون العربية، وهو ماقد شكك في قدراتهم على التواصل مع تراث العرب في الأندس.
البازين.. أسفل وأعلى
تنقسم البازين إلى البازين السفلي، التي يقع بها المعهد، والبازين العلوي، السفلى محاذية لنهر حدرة الذي يفصلها عن تلة السبيكة حيث قصور الحمراء، وبها مقاهٍ تقدم الشاي الأخضر ومحلات الحرف التقليدية والعديد من الفنادق التي تكتسب الطابع العربي في بنائها.
أما البازين العلوي فتصعد إليها عبر أزقة ملتوية تشاهد خلالها بقايا من المنازل العربية بحدائقها الغناء وعمارتها المكتسية بالبياض، لكن في صعودك ستجد نظرك يذهب كل برهة تجاه قصور الحمراء أعلى تلة السبيكة، وفي كل مرة ستكتشف أن كل شارع وكل زاوية تعطي لك وجهة نظر مختلفة لقصور الحمراء، هذا ما جعلني شغوفًا أكثر فأكثر للصعود إلى أقصى قمة التلة، حيث يعيش الغجر الذين اشتهروا برقصاتهم المميزة في العالم، وهناك أعلى التلة ساحة تتقدم كنيسة سان نيقولاس ببرجها الشهير، كانت مسجدًا حول بعد الاستيلاء على غرناطة إلى كنيسة، لكن مع ظهور روح التسامح في إسبانيا المعاصرة، سمح ببناء مسجد صغير لمسلمي غرناطة إلى جوارها سمّي بمسجد سان نيقولاس، حيث اشترت ليبيا الأرض، وتبرّع الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة ببناء المسجد، فجاء بناءً تميز بالبساطة والروح الأندلسية، في المسجد. سألت عن مسلمي غرناطة، فوجدت منهم ذوي أصول إسبانية وإنجليزية وإيطالية وأمريكية، مايزيد على مائتي مسلم يعيشون في هدوء تام، ويشد انتباهك لهم التزامهم الإسلامي في العمل اليومي والعبادة، ومن بين 350 ألفًا يعيشون في غرناطة اليوم، هناك ما يزيد على 15 ألف مسلم معظمهم من أصل مغربي وقلة قليلة من تونس والجزائر ومصر، يعملون في المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية، لكن استوقفني من المغاربة مصطفى بوجرين المغربي الذي تحرص بلدية غرناطة على تقديمه كنموذج للمواطن الغرناطي، مصطفى يقدم في مطعمه أكلة الكسكسي المغربي بشتى أنواعها، فضلاً عن الشاي بالطريقة المغربية، حتى صار علمًا يزوره كبار الشخصيات السياسية والثقافية والفكرية، فمطعم الريحان في غرناطة، كقهوة الفيشاوي في القاهرة، من لم يزره اليوم لم يزر غرناطة.
إن زائر غرناطة اليوم سيجد نفسه بين ثلاثة من الطرز المعمارية، أحدها في البيازين وتلة السبيكة، وثانيها في امتداد شارع الملكين الذي يبدأ في الميدان الجديد Plaza Nueva، ومنه إلى ميدان يتوسطه تمثال لإيزابيلا وهي تقابل كولمبس، يرمز إلى اندفاع إسبانيا نحو الغرب. مازالت بقايا المدينة القيمة قائمة على يسار ويمين شارع الملكين، غير أن الطرز المعمارية المعاصرة هي الغالبة في البنايات الرئيسية في الشارع، وفي الداخل ستجد بنايات بعضها ذو طابع عربي، منها فندق الفحم الذي يقع في شارع فرعي، وهو بالقرب من مركز بريد غرناطة، وهو بناء قديم، له مدخل معقود به كتابة كوفية تقرأ {قل هو الله أحد}، ومن الباب تدخل إلى دركاة تفضي إلى فناء مربع تتوسطه نافورة ماء حوله بوائك تحمل غرف إقامة التجّار، كان هذا الفندق يستخدم قديمًا لإقامة تجار الغلال، واستعمل بعد سقوط غرناطة مخزنًا للفحم، فعرف بدار الفحم، وقد تحول في القرن السادس عشر الميلادي إلى مسرح عرضت فيه الأعمال المسرحية الكلاسيكية، وهو اليوم معلم من معالم غرناطة السياحية، تتخذ مؤسسة تراث الأندلس من طوابقه العلوية مقرًا لها، وهي مؤسسة ترعاها حكومة إقليم الأندلس، تهدف لمد جسور التعاون مع الوطن العربي، فأقامت العديد من المعارض التي تبين العلاقات العربية الأندلسية كمعرض تألق الأمويين في بلاد الشام والأندلس، ومعرض مثلث الأندلس الذي أقيم احتفاءً باختيار الرباط عاصمة للثقافة العربية، ثم إقامة معرض عصر ابن خلدون قيام وسقوط إمبراطوريات، فضلاً عن تبني المؤسسة العديد من الدراسات التي تبرز دور العرب في إقامة حضارة الأندلس، منها دراسة رائعة عن الماء وتقنياته ف
فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كماَ شاهدتُها دولٌ
من سَرّه زمنٌ ساءته أزمانُ
هكذا رثى أبو البقاء الرندي في مرثيته الأندلس وضياعها وضياع غرناطة، لكننا اليوم، وبعد أكثر من خمسمائة عام من سقوط غرناطة، مازلنا نتغنى بها لكونها تعبّر عن رفاهية حضارة العرب ومكان تعايش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود في تسامح لسنوات طويلة، اليوم تعود غرناطة لتتسامح مرة أخرى مع تاريخها العربي، فتعدّه جزءًا من نسيج تاريخها تعتز به، خاصة أن اقتصادها يقوم على السياح الذين يأتون من كل حدب وصوب لزيارة معالمها خاصة قصور الحمراء التي سلبت بروعتها ورشاقتها عقول الفنانين والأدباء، دعوني أصطحبكم إلى غرناطة، التي طالما راودت مخيلتي أحلام زيارتها.
كانت الدعوة من معهد الدراسات العربية في غرناطة للمشاركة في مؤتمر علمي أقيم لدراسة الحضارة العربية ومنجزاتها، فشاركت ضمن مشاركين من تونس وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهالني عند وصولي أن المعهد في حي البيازين، ذلك الحي الذي بكى أهله ونكل بهم حين سلمت غرناطة لإيزابيلا وفرناندو، المعهد جعلني أستعيد على الفور صورة منازل الفسطاط وبخاصة فناؤه الذي يفتح عليه سقيفة تتشابه مع ماتبقى من منازل الفسطاط، وكأن القبائل اليمنية، التي شاركت في فتح مصر ثم في فتح الأندلس قد نقلت معها موروثًا معماريًا، لتدلل على التواصل الحضاري من شرق إلى غرب المتوسط، المعهد به مكتبة رائعة وعلماء إسبان كرّسوا حياتهم لدراسة تاريخ وحضارة الأندلس، غير أن قلة منهم يتحدثون العربية، وهو ماقد شكك في قدراتهم على التواصل مع تراث العرب في الأندس.
البازين.. أسفل وأعلى
تنقسم البازين إلى البازين السفلي، التي يقع بها المعهد، والبازين العلوي، السفلى محاذية لنهر حدرة الذي يفصلها عن تلة السبيكة حيث قصور الحمراء، وبها مقاهٍ تقدم الشاي الأخضر ومحلات الحرف التقليدية والعديد من الفنادق التي تكتسب الطابع العربي في بنائها.
أما البازين العلوي فتصعد إليها عبر أزقة ملتوية تشاهد خلالها بقايا من المنازل العربية بحدائقها الغناء وعمارتها المكتسية بالبياض، لكن في صعودك ستجد نظرك يذهب كل برهة تجاه قصور الحمراء أعلى تلة السبيكة، وفي كل مرة ستكتشف أن كل شارع وكل زاوية تعطي لك وجهة نظر مختلفة لقصور الحمراء، هذا ما جعلني شغوفًا أكثر فأكثر للصعود إلى أقصى قمة التلة، حيث يعيش الغجر الذين اشتهروا برقصاتهم المميزة في العالم، وهناك أعلى التلة ساحة تتقدم كنيسة سان نيقولاس ببرجها الشهير، كانت مسجدًا حول بعد الاستيلاء على غرناطة إلى كنيسة، لكن مع ظهور روح التسامح في إسبانيا المعاصرة، سمح ببناء مسجد صغير لمسلمي غرناطة إلى جوارها سمّي بمسجد سان نيقولاس، حيث اشترت ليبيا الأرض، وتبرّع الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة ببناء المسجد، فجاء بناءً تميز بالبساطة والروح الأندلسية، في المسجد. سألت عن مسلمي غرناطة، فوجدت منهم ذوي أصول إسبانية وإنجليزية وإيطالية وأمريكية، مايزيد على مائتي مسلم يعيشون في هدوء تام، ويشد انتباهك لهم التزامهم الإسلامي في العمل اليومي والعبادة، ومن بين 350 ألفًا يعيشون في غرناطة اليوم، هناك ما يزيد على 15 ألف مسلم معظمهم من أصل مغربي وقلة قليلة من تونس والجزائر ومصر، يعملون في المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية، لكن استوقفني من المغاربة مصطفى بوجرين المغربي الذي تحرص بلدية غرناطة على تقديمه كنموذج للمواطن الغرناطي، مصطفى يقدم في مطعمه أكلة الكسكسي المغربي بشتى أنواعها، فضلاً عن الشاي بالطريقة المغربية، حتى صار علمًا يزوره كبار الشخصيات السياسية والثقافية والفكرية، فمطعم الريحان في غرناطة، كقهوة الفيشاوي في القاهرة، من لم يزره اليوم لم يزر غرناطة.
إن زائر غرناطة اليوم سيجد نفسه بين ثلاثة من الطرز المعمارية، أحدها في البيازين وتلة السبيكة، وثانيها في امتداد شارع الملكين الذي يبدأ في الميدان الجديد Plaza Nueva، ومنه إلى ميدان يتوسطه تمثال لإيزابيلا وهي تقابل كولمبس، يرمز إلى اندفاع إسبانيا نحو الغرب. مازالت بقايا المدينة القيمة قائمة على يسار ويمين شارع الملكين، غير أن الطرز المعمارية المعاصرة هي الغالبة في البنايات الرئيسية في الشارع، وفي الداخل ستجد بنايات بعضها ذو طابع عربي، منها فندق الفحم الذي يقع في شارع فرعي، وهو بالقرب من مركز بريد غرناطة، وهو بناء قديم، له مدخل معقود به كتابة كوفية تقرأ {قل هو الله أحد}، ومن الباب تدخل إلى دركاة تفضي إلى فناء مربع تتوسطه نافورة ماء حوله بوائك تحمل غرف إقامة التجّار، كان هذا الفندق يستخدم قديمًا لإقامة تجار الغلال، واستعمل بعد سقوط غرناطة مخزنًا للفحم، فعرف بدار الفحم، وقد تحول في القرن السادس عشر الميلادي إلى مسرح عرضت فيه الأعمال المسرحية الكلاسيكية، وهو اليوم معلم من معالم غرناطة السياحية، تتخذ مؤسسة تراث الأندلس من طوابقه العلوية مقرًا لها، وهي مؤسسة ترعاها حكومة إقليم الأندلس، تهدف لمد جسور التعاون مع الوطن العربي، فأقامت العديد من المعارض التي تبين العلاقات العربية الأندلسية كمعرض تألق الأمويين في بلاد الشام والأندلس، ومعرض مثلث الأندلس الذي أقيم احتفاءً باختيار الرباط عاصمة للثقافة العربية، ثم إقامة معرض عصر ابن خلدون قيام وسقوط إمبراطوريات، فضلاً عن تبني المؤسسة العديد من الدراسات التي تبرز دور العرب في إقامة حضارة الأندلس، منها دراسة رائعة عن الماء وتقنياته ف