- الجمعة ديسمبر 07, 2012 8:34 am
#55995
أولاً : الشرعية
نظام الحكم فى الدولة الإسلامية تحكمه ضوابط وقيود شرعية ، ولا يمكن بحال أن نتصور أنه متروك لأهواء الحاكم وبطانته ، يحكمون بما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم ، ثم يضفون على هذه الأهواء الصبغة الدينية ويتحكمون فى رقاب الناس باسم الدين ، كما يظنه بعض من يجهلون حقيقة هذا النظام .
إنه نظام شرعى ، محكوم بشرع الله تعالى وحاكم به ، قال تعالى : " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " ( البقرة : 256 ) . والطاغوت هو كل معبود متبوع مطاوع من دون الله تعالى .
وقد نهى القرآن الكريم عن عبادة الأشخاص وإن كانوا علماء الدين ، وعن متابعة الأهواء والأغراض مع الإعراض عن شرع الله تعالى ، فنعى على أقوام " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " ( التوبة : 31 ) يحلون لهم الحرام ، ويحرمون عليهم الحلال فيطيعونهم . ونعى على آخرين اتباع الأهواء " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ " . ( الجاثية : 23 ) .
ولهذا قال الله تعالى لنبيه : " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" ( المائدة : 49 ) .
فالحكم بشريعة الله هو الأساس المتين والقاعدة الراسخة التى يقوم عليها نظام الحكم فى الإسلام .
وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على التمسك بأهداب الشرع من بعده " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى كتاب الله وسنتى " (1) .
ونحن نعلم يقيناً أن محمداً هو خاتم الأنبياء المبعوث للناس كافة ، وأن شريعته خاتمة الشرائع يصلح الله بها فساد كل زمان ومكان ، ونعلم بالضرورة أن نصوص الشرع محدودة متناهية ، وحوادث الزمان المتجددة غير متناهية ولهذا قررت الشريعة مبدأ الاجتهاد ، والاجتهاد فى فهم نصوص الشرع وتطبيعها ، لا الاجتهاد فى نبذها والإعراض عنها ، فليس هناك اجتهاد مع النص .
ويؤدى الاجتهاد بضوابطه إلى تطور الفقه الإسلامى وخصوبته ومرونته .
ومن هنا فإن الشريعة تعطى الحق للمجتهدين وأولى الأمر ف التشريع ، ويكون التشريع محكوماً بضوابط .
أولها : ألا يخالف شرع الله الثابت نصاً أو روحاً وإلا وقع التشريع باطلاً .
الثانى : أن يكون مبنياً على تحقيق مصالح الناس ودفع الضرر عنهم .
وتمتد هذه التشريعات لتشمل التشريعات واللوائح التنظيمية والتنفيذية ، بل والتشريعات المستقلة فيما لا نص فيه ، وهو ما يعرفه الأصوليون بـ " حق أولى الأمر فى تقييد المباح " وعليه أمثلة كثيرة فى السوابق التاريخية فى عهد الراشدين منها :-
جمع الناس على مصحف واحد لنبذ الفرقة والاختلاف فى عهد عثمان .
;منع عمر الصحابة من الزواج بنساء أهل الكتاب بعد انتشار الفتوح لمنع الضرر بالمسلمات .
;إن الشرعية الإسلامية تحتكم إلى شريعة ربانية من حيث مصدرها وغايتها ووجهتها ، ومن ثم فهى معصومة من التناقض والتطرف والاختلاف الذى يصيب تشريعات البشر .
وتمتاز هذه الشريعة بالوسطية ، لذا كانت الأمة الوسط هى التى تقيم الشريعة الوسط ، فتتأهل بها إلى منزلة الشهادة على الأمم يوم القيامة " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " .
(1) صحيح . رواه مالك فى الموطأ معضلاً ، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الحاكم ، ومن حديث أبى هريرة ، وانظر المشكاة ( رقم 186 ) ، والصحيحة .
ثانيا : كفالة الحقوق والحريات
وإذا كانت الأنظمة المتقدمة فى عالم اليوم قد اهتمت بهذا الأساس ، بدءاً من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وانتهاءاً بإنشاء المنظمات ، بل والمحاكم التى تعنى بحقوق الإنسان ، فإن الشريعة الإسلامية ومنذ أربعة عشر قرناً ، قد بلغت فى ذلك إلى الحد الذى اعتبرت معه هذه الحقوق بمثابة ضرورات وواجبات لا ينبغى التفريط فيها بحال .
وإذا كانت دول العالم الثالث ، ومنها بلاد المسلمين تعانى من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان ، فإن ذلك يرجع إلى بعد هذه البلاد عن التطبيق الأمثل لشريعة الله عز وجل .
(1) المساواة :
لقد قررت الشريعة الإسلامية المساواة بين بنى الإنسان ، فلم تعترف بفروق مصطنعة على أساس الجنس أو اللون أو اللغة فالناس فى أصل الخلقة سواء " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً " . ( النساء : 1 ) .
إن الأساس الذى يتفاضل به الناس عند خالقهم هو التقوى وهو أمر قلبى لا يعرف حقيقته إلا رب العالمين " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " . ( الحجرات : 13 ) .
وفى حجة الوداع يقول النبى صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى فضل على عجمى ، ولا لعجمى فضل على عربى ، ولا لأحمر فضل على أبيض ، ولا لأبيض فضل على أحمر إلا بالتقوى . ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد " (1) .
ويربى الإسلام فى الإنسان هذا المبدأ وينميه ، ويحوله إلى واقع عملى ، ففى الصلاة يصطف الناس خلف إمامهم بلا تمايز ، وفى الصوم يمتنع الجميع عن الطعام والشراب طوال النهار ، ويجتمعون عليه فى وقت واحد ، وفى الحج يلتقى المسلمون وقد نزعوا ثيابهم وزينتهم ، ولبسوا جميعاً ثياباً أشبه ما تكون بأكفان الموتى ، فلا تمايز بينهم وكلهم فى هذا الموقف سواء.
·المساواة أمام القانون :-
والمساواة أمام أحكام الشريعة أصل من أصول الإسلام يتساوى فيه الحاكم والمحكوم ، والشريف والوضيع . والنبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (2) .
وتسوى الشريعة بين الولاة والرعية ، وقد كان عمر يحذر ولاته من أن تأخذهم نشوة السلطة فتنسيهم هذا الأصل وكان يخطب الناس فيقول : أيها الناس إنى لم أبعث عمالى عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم ، وليقسموا فيئكم بينكم ، فمن فُعل به غير ذلك فليقم ، من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علىّ ، ليرفعها إلىّ حتى أقصه منه ، فيقول أحد الولاة : أرأيت إن أدب أميرٌ رجلاً من رعيته ، أتقصه منه ؟
فيقول عمر : وما لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه (3) .
·المساواة أمام القضاء :-
والمساواة أمام القضاء من المظاهر التى لم تعرفها كثير من دول العالم على النحو الذى عرفه المسلمون الأوائل حين التزموا شريعة الله ، وقد تخاصم أمير المؤمنين علىّ مع رجل من أهل الذمة إلى شريح القاضى ، فقضى للذمى على أمير المؤمنين ، وهذا فى زمن فتنة وحرب أهلية تبيح للحاكم فرض حالة الطوارئ وقوانين الضرورة فى أرقى دول العالم اليوم (4) .
·المساواة بين المسلم والذمى :-
وتقرر الشريعة الإسلامية المساواة بين المسلم والذمى إلا فيما يتعلق بأمر العقيدة والعبادة .
قال على بن أبى طالب : إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ، ودماؤهم كدمائنا .
والأصل الفقهى أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
·المساواة بين الرجل والمرأة :-
وتسوى الشريعة بين الرجل والمرأة ، ولكنها لا تغفل أن لكل منهما دوره ووظيفته ، فالمرأة مكلفة بكل أركان الإيمان والإسلام ، وبكل أحكام الشرع وآدابه وأخلاقه إلا ما استثنى كترك الصلاة والصوم حال الحيض ، وعدم وجوب الجهاد على المرأة ، وكذلك أحكام العدة والنفقة وغير ذلك . والنظام الإسلامى يجعل للمرأة وظيفتها كما أن للرجل وظيفته ولكن الوظيفة الرئيسية للمرأة تتعلق ببيتها وأولادها ، وليس معنى هذا أن عمل المرأة خارج البيت حرام ، فللمرأة أن تعمل بشرط مراعاة الآداب والأخلاق والضوابط الشرعية فى تعاملها مع غير محارمها ، وليس العمل خارج البيت بضرورة بالنسبة للمرأة لما لها من حق النفقة والكفالة على الرجل ، ولما يؤدى من نتائج سلبية سيئة تنعكس على الأسرة وعلى المجتمع .
والإسلام يصون المرأة عن كل ما يؤذيها ويشينها ، ولهذا فقد منع النبى صلى الله عليه وسلم المرأة من كل عمل يؤدى إلى تبذلها وينافى ما يجب لها من صيانة وستر ، فقال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (5) .
وأجمع أهل العلم على أن المرأة لا تلى منصب الخلافة والرئاسة وذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز توليها القضاء .
(2)العدالة :-
والعدالة من الأسس التى عليها عمار الكون وصلاح العباد ، لذا حث عليها الإسلام فى شتى المواطن حتى مع العدو ، وفى زمن الفتنة " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ " ( النساء : 58 ) .
" فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا " ( الحجرات : 9 ) .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " ( المائدة : 8 ) .
والنبى صلى الله عليه وسلم يرسى دعائم العدل قولاً وعملاً " والمقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، هم الذين يعدلون فى حكمهم وأهلهم وما ولوا " (6) .
" وإن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل " ( 7 ) .
وحين دخل عبد الله بن رواحة على يهود خيبر ليخرص عليهم ثمارهم ، عرضوا عليه الرشوة ، فقال لهم : لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملنى حبى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . قالوا : بهذا قامت السماوات والأرض . (8) .
وتقوم فلسفة الإسلام على أن فساد الرعية لا ينصلح إلا بالعدل ، وشريعة الله تعالى هى العدل المطلق ، والإمام العادل هو الذى يتبع أمر الله تعالى بوضع كل شىء فى موضعه من غير إفراط ولا تفريط .
شكى بعض الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز سوء حال رعيته ، وسأله : آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة ، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة ؟ فكتب إليه عمر : خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله .
يقول الوالى : ففعلت ، فصارت من أصلح البلاد وأقلها سرقة (9) .
والعدالة فى الإسلام تعم العدل الاجتماعى والتكافل الاجتماعى ولهذا جعل الله تعالى فريضة الزكاة حقاً للفقراء ولبنة فى بناء العدل الاجتماعى ، حتى أن النبى صلى الله عليه وسلم يجعل بيت المال – خزانة الدولة – وارثاً لمن لا وارث له وعائلاً لكل فقير أو ضعيف .
" من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ضياعاً فإلىّ وعلىّ " (10) حتى إن بيت المال ليقوم بسداد ديون المدينين ، وتجهيز الفنادق لاستضافة المسافرين فى عهد عمر بن عبد العزيز (11) .
(3) كفالة الحقوق والحريات :-
قال تعالى : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ " ( الإسراء : 70 )
ولاشك أن الحرية والمساواة هى أعظم تكريم لهذا الإنسان ولقد جعل الله تعالى حرية الإرادة مناطاً للتكليف ، فمن سُلبت إرادته سقط عنه التكليف وأصبح عالة على غيره .
وقد كفل الشرع للإنسان حريته كاملة ولكنه ضبطها بمجموعة من الضوابط حتى لا تصطدم حريات الأفراد بعضهم ببعض ، ولا يطغى بعضهم على بعض ويستعبد بعضهم بعضاً وحتى لا يسير الإنسان وراء شهواته ونزواته فتنحط ذاته ويفقد أساس كرامته وتفضيله على سائر المخلوقات .
الحرية الدينية :-
وهى كون الشخص أهلاً لإبرام العقود والتصرفات ، وهى ما تعرف بالأهلية ، أهلية الوجوب وأهلية الأداء .
أما أهلية الوجوب وهى التى تجعل الشخص صالحاً للتملك فقد قررها الشرع لكل إنسان بغير قيد ، حتى الجنين فى بطن أمه جعل له نوعاً من هذه الأهلية .
أما أهلية الأداء ، وهى كون الشخص أهلاً للتصرف فى ماله فهى مكفولة لكل أحد ، إلا من ساء تصرفه فكان وبالاً على نفسه وعلى المجتمع كالسفية والمجنون فقد قرر الشرع ضوابط لحمايته " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا .. " الآية ( النساء : 5 ) .
ولا يفرق الشرع بين الناس على أساس الدين أو الجنس ، بل المسلم وغيره سواء ، والرجل والمرأة فى ذلك سواء .
الحرية الدينية :-
يكفل الشرع الإسلامى حرية الاعتقاد " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " ( البقرة : 256 )
" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " . ( يونس : 99 ) .
فالإسلام لا يعرف الإكراه ولا يعترف به ، بل يرفع معه التكليف ، والدعوة إلى الله لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة .
ولكن حين يقوم كبراء الناس ليصدوا عن سبيل الله ويمنعوا من وصول الدعوة إلى غيرهم فهنا يتعين على المسلمين جهادهم " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ " ( التوبة : 12 ) .
لقد راسل النبى صلى الله عليه وسلم الملوك ودعاهم إلى الإسلام فلم يستجب أكثرهم ، أما من استجاب منهم فلم يطلب منه أن يجبر الناس على دخول الإسلام ، بل كل المطلوب منه أن يتحرك الإسلام كعقيدة يتحاور مع غيره من العقائد ، والغلبة دائماً للحق ، وأما من أعرض وأبى فلم يقاتل إلا حين منع الدعوة وصد عن سبيل الله .
وبهذا الفهم نجد أن المسلمين الأوائل لم يفكروا فى لحظة أن يفتحوا بلاد الحبشة كما فتحوا بلاد الفرس والروم رغم أن سكان الحبشة لم يدخلوا جميعاً فى الإسلام ، وكذلك اليمن ، وذلك لأن طريق الدعوة مفتوح ، ولهذا كانت وصية النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " إنك تأتى قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً فإن هم أطاعوا لذلك . وفى رواية – فإذا عرفوا الله – فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات ..
الحديث (12) .
ودلالة الحديث واضحة ، فإن هم أطاعوا ، أما إذا لم يطيعوا فالأصل الثابت " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " .
ولو كان الإكراه جائزا أو معمولاً به ، لما وجدنا لغير المسلمين وجود فى بلاد المسلمين ، فالواقع خير شاهد على نفى الإكراه وقد كان لعمر بن الخطاب غلاماً نصرانياً ، فكان عمر يعرض عليه الإسلام فيأبى ، فيقول عمر " لا إكراه فى الدين " .
وليس معنى الحرية هنا أن يتمرد المسلم على دينه وشريعته ولهذا جعل الإسلام للارتداد حداً شرعياً " من بدل دينه فاقتلوه " (13) .
الحرية الفكرية :-
الإسلام دين يحترم العقل ويدعو إلى التأمل والتدبر ، ويحذر من عاقبة التقليد الأعمى .
" أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ " ( ق : 6 ) .
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " ( البقرة : 170 ) .
وحرية الفكر مكفولة ما لم تتصادم مع نصوص الشرع ، لأن فى ذلك تطاول عقلى وقول على الله بغير علم .
" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " ( الإسراء : 36 ) .
وفى المناظرات الفقهية التى تزخر بها كتب الفقه والتاريخ خير شاهد على مدى تمتع الأفراد بحرية الفكر والرأى والتعبير ، وإذا كانت بعض فترات التاريخ الإسلامى لا تشهد لذلك ، فالعيب ليس فى شريعة الله بل فى بعد المسلمين عن هذه الشريعة .
المراجع :
(1) أحمد 5/441 – ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد ج3 ص 269 صحيح .
(2) البخارى – كتاب الحدود – حديث رقم 6787 .
(3) ابن سعد – الطبقات الكبرى – المجلد الثالث – القسم الأول ص 201 وإسناده صحيح .
(4) البداية والنهاية ج8 ص5 – وتاريخ الخلفاء ص 172 .
(5) البخارى ك المغازى ح رقم 4425 ، وشرح السنة ج10 ص 76-77 .
(6) مسلم ك الإمارة ح رقم 1827 ، شرح السنة ج10 ص 63 .
(7) ضعيف : الترمذى ك الأحكام 1329 وشرح السنة ج10 ص 65 وفى سنده عطية العوفى وهو ضعيف .
(8) أبو داود ح رقم 3410 . وابن ماجه ح رقم 1820 ، وإسناده حسن .
(9) السيوطى – تاريخ الخلفاء ص 221 .
(10) متفق عليه .
(11) تاريخ الرسل والملوك للطبرى ج6 ص 567 .
(12) متفق عليه .
(13) متفق عليه .
نظام الحكم فى الدولة الإسلامية تحكمه ضوابط وقيود شرعية ، ولا يمكن بحال أن نتصور أنه متروك لأهواء الحاكم وبطانته ، يحكمون بما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم ، ثم يضفون على هذه الأهواء الصبغة الدينية ويتحكمون فى رقاب الناس باسم الدين ، كما يظنه بعض من يجهلون حقيقة هذا النظام .
إنه نظام شرعى ، محكوم بشرع الله تعالى وحاكم به ، قال تعالى : " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " ( البقرة : 256 ) . والطاغوت هو كل معبود متبوع مطاوع من دون الله تعالى .
وقد نهى القرآن الكريم عن عبادة الأشخاص وإن كانوا علماء الدين ، وعن متابعة الأهواء والأغراض مع الإعراض عن شرع الله تعالى ، فنعى على أقوام " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " ( التوبة : 31 ) يحلون لهم الحرام ، ويحرمون عليهم الحلال فيطيعونهم . ونعى على آخرين اتباع الأهواء " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ " . ( الجاثية : 23 ) .
ولهذا قال الله تعالى لنبيه : " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" ( المائدة : 49 ) .
فالحكم بشريعة الله هو الأساس المتين والقاعدة الراسخة التى يقوم عليها نظام الحكم فى الإسلام .
وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على التمسك بأهداب الشرع من بعده " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى كتاب الله وسنتى " (1) .
ونحن نعلم يقيناً أن محمداً هو خاتم الأنبياء المبعوث للناس كافة ، وأن شريعته خاتمة الشرائع يصلح الله بها فساد كل زمان ومكان ، ونعلم بالضرورة أن نصوص الشرع محدودة متناهية ، وحوادث الزمان المتجددة غير متناهية ولهذا قررت الشريعة مبدأ الاجتهاد ، والاجتهاد فى فهم نصوص الشرع وتطبيعها ، لا الاجتهاد فى نبذها والإعراض عنها ، فليس هناك اجتهاد مع النص .
ويؤدى الاجتهاد بضوابطه إلى تطور الفقه الإسلامى وخصوبته ومرونته .
ومن هنا فإن الشريعة تعطى الحق للمجتهدين وأولى الأمر ف التشريع ، ويكون التشريع محكوماً بضوابط .
أولها : ألا يخالف شرع الله الثابت نصاً أو روحاً وإلا وقع التشريع باطلاً .
الثانى : أن يكون مبنياً على تحقيق مصالح الناس ودفع الضرر عنهم .
وتمتد هذه التشريعات لتشمل التشريعات واللوائح التنظيمية والتنفيذية ، بل والتشريعات المستقلة فيما لا نص فيه ، وهو ما يعرفه الأصوليون بـ " حق أولى الأمر فى تقييد المباح " وعليه أمثلة كثيرة فى السوابق التاريخية فى عهد الراشدين منها :-
جمع الناس على مصحف واحد لنبذ الفرقة والاختلاف فى عهد عثمان .
;منع عمر الصحابة من الزواج بنساء أهل الكتاب بعد انتشار الفتوح لمنع الضرر بالمسلمات .
;إن الشرعية الإسلامية تحتكم إلى شريعة ربانية من حيث مصدرها وغايتها ووجهتها ، ومن ثم فهى معصومة من التناقض والتطرف والاختلاف الذى يصيب تشريعات البشر .
وتمتاز هذه الشريعة بالوسطية ، لذا كانت الأمة الوسط هى التى تقيم الشريعة الوسط ، فتتأهل بها إلى منزلة الشهادة على الأمم يوم القيامة " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " .
(1) صحيح . رواه مالك فى الموطأ معضلاً ، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الحاكم ، ومن حديث أبى هريرة ، وانظر المشكاة ( رقم 186 ) ، والصحيحة .
ثانيا : كفالة الحقوق والحريات
وإذا كانت الأنظمة المتقدمة فى عالم اليوم قد اهتمت بهذا الأساس ، بدءاً من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وانتهاءاً بإنشاء المنظمات ، بل والمحاكم التى تعنى بحقوق الإنسان ، فإن الشريعة الإسلامية ومنذ أربعة عشر قرناً ، قد بلغت فى ذلك إلى الحد الذى اعتبرت معه هذه الحقوق بمثابة ضرورات وواجبات لا ينبغى التفريط فيها بحال .
وإذا كانت دول العالم الثالث ، ومنها بلاد المسلمين تعانى من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان ، فإن ذلك يرجع إلى بعد هذه البلاد عن التطبيق الأمثل لشريعة الله عز وجل .
(1) المساواة :
لقد قررت الشريعة الإسلامية المساواة بين بنى الإنسان ، فلم تعترف بفروق مصطنعة على أساس الجنس أو اللون أو اللغة فالناس فى أصل الخلقة سواء " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً " . ( النساء : 1 ) .
إن الأساس الذى يتفاضل به الناس عند خالقهم هو التقوى وهو أمر قلبى لا يعرف حقيقته إلا رب العالمين " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " . ( الحجرات : 13 ) .
وفى حجة الوداع يقول النبى صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى فضل على عجمى ، ولا لعجمى فضل على عربى ، ولا لأحمر فضل على أبيض ، ولا لأبيض فضل على أحمر إلا بالتقوى . ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد " (1) .
ويربى الإسلام فى الإنسان هذا المبدأ وينميه ، ويحوله إلى واقع عملى ، ففى الصلاة يصطف الناس خلف إمامهم بلا تمايز ، وفى الصوم يمتنع الجميع عن الطعام والشراب طوال النهار ، ويجتمعون عليه فى وقت واحد ، وفى الحج يلتقى المسلمون وقد نزعوا ثيابهم وزينتهم ، ولبسوا جميعاً ثياباً أشبه ما تكون بأكفان الموتى ، فلا تمايز بينهم وكلهم فى هذا الموقف سواء.
·المساواة أمام القانون :-
والمساواة أمام أحكام الشريعة أصل من أصول الإسلام يتساوى فيه الحاكم والمحكوم ، والشريف والوضيع . والنبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (2) .
وتسوى الشريعة بين الولاة والرعية ، وقد كان عمر يحذر ولاته من أن تأخذهم نشوة السلطة فتنسيهم هذا الأصل وكان يخطب الناس فيقول : أيها الناس إنى لم أبعث عمالى عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم ، وليقسموا فيئكم بينكم ، فمن فُعل به غير ذلك فليقم ، من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علىّ ، ليرفعها إلىّ حتى أقصه منه ، فيقول أحد الولاة : أرأيت إن أدب أميرٌ رجلاً من رعيته ، أتقصه منه ؟
فيقول عمر : وما لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه (3) .
·المساواة أمام القضاء :-
والمساواة أمام القضاء من المظاهر التى لم تعرفها كثير من دول العالم على النحو الذى عرفه المسلمون الأوائل حين التزموا شريعة الله ، وقد تخاصم أمير المؤمنين علىّ مع رجل من أهل الذمة إلى شريح القاضى ، فقضى للذمى على أمير المؤمنين ، وهذا فى زمن فتنة وحرب أهلية تبيح للحاكم فرض حالة الطوارئ وقوانين الضرورة فى أرقى دول العالم اليوم (4) .
·المساواة بين المسلم والذمى :-
وتقرر الشريعة الإسلامية المساواة بين المسلم والذمى إلا فيما يتعلق بأمر العقيدة والعبادة .
قال على بن أبى طالب : إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ، ودماؤهم كدمائنا .
والأصل الفقهى أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
·المساواة بين الرجل والمرأة :-
وتسوى الشريعة بين الرجل والمرأة ، ولكنها لا تغفل أن لكل منهما دوره ووظيفته ، فالمرأة مكلفة بكل أركان الإيمان والإسلام ، وبكل أحكام الشرع وآدابه وأخلاقه إلا ما استثنى كترك الصلاة والصوم حال الحيض ، وعدم وجوب الجهاد على المرأة ، وكذلك أحكام العدة والنفقة وغير ذلك . والنظام الإسلامى يجعل للمرأة وظيفتها كما أن للرجل وظيفته ولكن الوظيفة الرئيسية للمرأة تتعلق ببيتها وأولادها ، وليس معنى هذا أن عمل المرأة خارج البيت حرام ، فللمرأة أن تعمل بشرط مراعاة الآداب والأخلاق والضوابط الشرعية فى تعاملها مع غير محارمها ، وليس العمل خارج البيت بضرورة بالنسبة للمرأة لما لها من حق النفقة والكفالة على الرجل ، ولما يؤدى من نتائج سلبية سيئة تنعكس على الأسرة وعلى المجتمع .
والإسلام يصون المرأة عن كل ما يؤذيها ويشينها ، ولهذا فقد منع النبى صلى الله عليه وسلم المرأة من كل عمل يؤدى إلى تبذلها وينافى ما يجب لها من صيانة وستر ، فقال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (5) .
وأجمع أهل العلم على أن المرأة لا تلى منصب الخلافة والرئاسة وذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز توليها القضاء .
(2)العدالة :-
والعدالة من الأسس التى عليها عمار الكون وصلاح العباد ، لذا حث عليها الإسلام فى شتى المواطن حتى مع العدو ، وفى زمن الفتنة " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ " ( النساء : 58 ) .
" فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا " ( الحجرات : 9 ) .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " ( المائدة : 8 ) .
والنبى صلى الله عليه وسلم يرسى دعائم العدل قولاً وعملاً " والمقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، هم الذين يعدلون فى حكمهم وأهلهم وما ولوا " (6) .
" وإن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل " ( 7 ) .
وحين دخل عبد الله بن رواحة على يهود خيبر ليخرص عليهم ثمارهم ، عرضوا عليه الرشوة ، فقال لهم : لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملنى حبى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم . قالوا : بهذا قامت السماوات والأرض . (8) .
وتقوم فلسفة الإسلام على أن فساد الرعية لا ينصلح إلا بالعدل ، وشريعة الله تعالى هى العدل المطلق ، والإمام العادل هو الذى يتبع أمر الله تعالى بوضع كل شىء فى موضعه من غير إفراط ولا تفريط .
شكى بعض الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز سوء حال رعيته ، وسأله : آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة ، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة ؟ فكتب إليه عمر : خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله .
يقول الوالى : ففعلت ، فصارت من أصلح البلاد وأقلها سرقة (9) .
والعدالة فى الإسلام تعم العدل الاجتماعى والتكافل الاجتماعى ولهذا جعل الله تعالى فريضة الزكاة حقاً للفقراء ولبنة فى بناء العدل الاجتماعى ، حتى أن النبى صلى الله عليه وسلم يجعل بيت المال – خزانة الدولة – وارثاً لمن لا وارث له وعائلاً لكل فقير أو ضعيف .
" من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ضياعاً فإلىّ وعلىّ " (10) حتى إن بيت المال ليقوم بسداد ديون المدينين ، وتجهيز الفنادق لاستضافة المسافرين فى عهد عمر بن عبد العزيز (11) .
(3) كفالة الحقوق والحريات :-
قال تعالى : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ " ( الإسراء : 70 )
ولاشك أن الحرية والمساواة هى أعظم تكريم لهذا الإنسان ولقد جعل الله تعالى حرية الإرادة مناطاً للتكليف ، فمن سُلبت إرادته سقط عنه التكليف وأصبح عالة على غيره .
وقد كفل الشرع للإنسان حريته كاملة ولكنه ضبطها بمجموعة من الضوابط حتى لا تصطدم حريات الأفراد بعضهم ببعض ، ولا يطغى بعضهم على بعض ويستعبد بعضهم بعضاً وحتى لا يسير الإنسان وراء شهواته ونزواته فتنحط ذاته ويفقد أساس كرامته وتفضيله على سائر المخلوقات .
الحرية الدينية :-
وهى كون الشخص أهلاً لإبرام العقود والتصرفات ، وهى ما تعرف بالأهلية ، أهلية الوجوب وأهلية الأداء .
أما أهلية الوجوب وهى التى تجعل الشخص صالحاً للتملك فقد قررها الشرع لكل إنسان بغير قيد ، حتى الجنين فى بطن أمه جعل له نوعاً من هذه الأهلية .
أما أهلية الأداء ، وهى كون الشخص أهلاً للتصرف فى ماله فهى مكفولة لكل أحد ، إلا من ساء تصرفه فكان وبالاً على نفسه وعلى المجتمع كالسفية والمجنون فقد قرر الشرع ضوابط لحمايته " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا .. " الآية ( النساء : 5 ) .
ولا يفرق الشرع بين الناس على أساس الدين أو الجنس ، بل المسلم وغيره سواء ، والرجل والمرأة فى ذلك سواء .
الحرية الدينية :-
يكفل الشرع الإسلامى حرية الاعتقاد " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " ( البقرة : 256 )
" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " . ( يونس : 99 ) .
فالإسلام لا يعرف الإكراه ولا يعترف به ، بل يرفع معه التكليف ، والدعوة إلى الله لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة .
ولكن حين يقوم كبراء الناس ليصدوا عن سبيل الله ويمنعوا من وصول الدعوة إلى غيرهم فهنا يتعين على المسلمين جهادهم " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ " ( التوبة : 12 ) .
لقد راسل النبى صلى الله عليه وسلم الملوك ودعاهم إلى الإسلام فلم يستجب أكثرهم ، أما من استجاب منهم فلم يطلب منه أن يجبر الناس على دخول الإسلام ، بل كل المطلوب منه أن يتحرك الإسلام كعقيدة يتحاور مع غيره من العقائد ، والغلبة دائماً للحق ، وأما من أعرض وأبى فلم يقاتل إلا حين منع الدعوة وصد عن سبيل الله .
وبهذا الفهم نجد أن المسلمين الأوائل لم يفكروا فى لحظة أن يفتحوا بلاد الحبشة كما فتحوا بلاد الفرس والروم رغم أن سكان الحبشة لم يدخلوا جميعاً فى الإسلام ، وكذلك اليمن ، وذلك لأن طريق الدعوة مفتوح ، ولهذا كانت وصية النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن " إنك تأتى قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً فإن هم أطاعوا لذلك . وفى رواية – فإذا عرفوا الله – فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات ..
الحديث (12) .
ودلالة الحديث واضحة ، فإن هم أطاعوا ، أما إذا لم يطيعوا فالأصل الثابت " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " .
ولو كان الإكراه جائزا أو معمولاً به ، لما وجدنا لغير المسلمين وجود فى بلاد المسلمين ، فالواقع خير شاهد على نفى الإكراه وقد كان لعمر بن الخطاب غلاماً نصرانياً ، فكان عمر يعرض عليه الإسلام فيأبى ، فيقول عمر " لا إكراه فى الدين " .
وليس معنى الحرية هنا أن يتمرد المسلم على دينه وشريعته ولهذا جعل الإسلام للارتداد حداً شرعياً " من بدل دينه فاقتلوه " (13) .
الحرية الفكرية :-
الإسلام دين يحترم العقل ويدعو إلى التأمل والتدبر ، ويحذر من عاقبة التقليد الأعمى .
" أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ " ( ق : 6 ) .
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " ( البقرة : 170 ) .
وحرية الفكر مكفولة ما لم تتصادم مع نصوص الشرع ، لأن فى ذلك تطاول عقلى وقول على الله بغير علم .
" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " ( الإسراء : 36 ) .
وفى المناظرات الفقهية التى تزخر بها كتب الفقه والتاريخ خير شاهد على مدى تمتع الأفراد بحرية الفكر والرأى والتعبير ، وإذا كانت بعض فترات التاريخ الإسلامى لا تشهد لذلك ، فالعيب ليس فى شريعة الله بل فى بعد المسلمين عن هذه الشريعة .
المراجع :
(1) أحمد 5/441 – ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد ج3 ص 269 صحيح .
(2) البخارى – كتاب الحدود – حديث رقم 6787 .
(3) ابن سعد – الطبقات الكبرى – المجلد الثالث – القسم الأول ص 201 وإسناده صحيح .
(4) البداية والنهاية ج8 ص5 – وتاريخ الخلفاء ص 172 .
(5) البخارى ك المغازى ح رقم 4425 ، وشرح السنة ج10 ص 76-77 .
(6) مسلم ك الإمارة ح رقم 1827 ، شرح السنة ج10 ص 63 .
(7) ضعيف : الترمذى ك الأحكام 1329 وشرح السنة ج10 ص 65 وفى سنده عطية العوفى وهو ضعيف .
(8) أبو داود ح رقم 3410 . وابن ماجه ح رقم 1820 ، وإسناده حسن .
(9) السيوطى – تاريخ الخلفاء ص 221 .
(10) متفق عليه .
(11) تاريخ الرسل والملوك للطبرى ج6 ص 567 .
(12) متفق عليه .
(13) متفق عليه .