منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
By احمد العثمان 80
#56195
روسيا وتركيا في سوريا.. ألغاز الغاز والنفوذ وحروب الوكالة
الربيع الاقتصادي!
استغرب كثيرون لماذا لم يقم أردوغان بالهجوم على سوريا منفردًا، بعد أن سقطت القذائف الصاروخيّة السوريّة في عمق تركيا، وأسقطت قتلى وجرحى، ولماذا تحوّل احتجاز طائرة ركاب مدنيّة سوريّة إلى قضيّة روسيّة - تركيّة، ولماذا صار الردّ على تهديدات أردوغان باقتحام سوريا، من مسؤوليّة الصحافة الروسيّة والمسؤوليين الأمنيين الرّوس، فلم يقم الأسد ونظامه بالتوعّد ولا حتى الرد على الاتهامات التركيّة. فما هي الخيوط التي تُدير ملفات الصراع التركي الروسي، والتي ستجعل قضيّة إنزال الطائرة حادثًا هامشيًا، في دولة "ترانزيت" مثل تركيا التي تستثمر الأحداث لتأمين مستقبلها وحسم هويتها الراجحة، فهي في فرصة تاريخيّة، بين الاتجاه نحو أوروبا، أو تدشين المشروع العثماني رسميًا، وعلى أقل تقدير تأمين "الربيع الاقتصادي" على حساب الشعوب الثائرة.

رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يستقبل النائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي
في مساء الأربعاء 10 أكتوبر(تشرين الأول) أجبَرت القوات التركية طائرة ركَّاب مدنيّة تابعة للخطوط السّورِّية قادِمة من العاصمة الرّوسية “موسكو” على الهبوط في مطار “أسن بوغا” بالعاصمة التركيّة “أنقرة” وأخضعتها للتفتيش الإجباري، وفي وقتٍ لاحق أعلن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أنّهم وجدوا (ذخائر على متن الطائرة؛ قامت شركة روسيّة متخصصة في الصناعات الميكانيكيّة والكيميائيّة بإرسالها إلى وزارة الدِّفاع السُّوريّة)، لكنّ روسيا اعتبرت الخطوة التركيّة بمثابة القرصَنة الجويّة، وقال محللون إنّ تركيا تبحث عن سبب لضرب سوريا. وتولّت روسيا كل مفاصل الحملة المهاجمة لخطوة تركيا التّصعيديّة، ومارست ضَغطًا دبلوماسياً كبيرًا تمثّل في تأجيل الرئيس الروسي فلادمير بوتين زيارته إلى تركيا، كان القيصر الروسي، يحمل اتفاقيات كبرى في قطاع الطاقة.

سبق ذلك تصعيد تركيٌّ ضِدّ سوريا، تمثّل في إحالة تركيا ملف التقاذف الحدودي المتبادل على الحدود (السورية – التركية) إلى الناتو، ولكنّه لم يتعجّل باتخاذ قرارات متسرعّة واكتفى بالدعوة إلى ضبط النّفس، وفي أكثر الإجابات تفاؤلاً تحدّث الأمين العام للحلف أندرس فوغ راسموسن قائلاً “بكل وضوح يمكن أن تعتمد تركيا على تضامن الناتو، ولدينا كافة الخطط الضروريّة لحماية تركيا والدفاع عنها إذا اقتضى الأمر، ونأمل ألا يكون ذلك ضروريا”، وكما هو واضح فإنّ الحديث ينصب على خطط لـ”الدفاع” عن تركيا، من دون ورود احتمالات واضحة تتبنى خيار الهجوم على سوريا.

عودة التاريخ
في عام 1998، على صفحة مجالة السِّياسة الدولية المصريّة، في ملف 17، ص 200، كتب جاسر الشاهد “ولا شك أن القضايا الخلافية بين تركيا وروسيا من تنافسٍ لبسط الهيمنة على هذه الجمهوريات (يقصد جمهوريات آسيا الوسطى) بدافع الميراث التّاريخي، والخلافات حول المرور في مضيق البسفور، والتّنافس على نقل بترول آسيا الوسطى، تتعلق كلها بأحداث الإشكاليات المُدرَجة على أجندة العلاقة بين الدولتين، والتي تتسع لقضايا خلافيِّة أخرى مثل قضيّة النِّزاع حول حول منطقة “ناغورنو كارباخ”، بين كل من “أذربيجان” وأرمنيا، وموقف الدّولتين منها، والقضيّة القبرصية والدّعم الرّوسي لليونان، ومشكلة الشِّيشان والموقف التّركي منها، فكل هذه القضايا لا يمكن فصلها عن التّنافس على جمهوريات آسيا الوسطى، فهي تؤثّر وتتأثر ببعضها البعض”.

بنفس السيناريو، لا يمكن إهمال التاريخ القريب، والسلوك المزدوج لفهم التّصارع التركي الروسي، في الحالة السوريّة، ورغبة كل منهما في تفكيك الصورة، لتنتهي لصالح نفوذه، ولا يمكن إهمال دور ملفات الغاز والسِّلاح الروسي والنفوذ الاستراتيجي لمنفذها “الافتراضي” الوحيد على البحر الأبيض المتوسّط. فمهما كانت الصفقات البينية فإنّ، حسابات حساسة تجبر تركيا على مراعاة إيران، وسوريا، سياسيًا، حتى تضمن مقعدها في صراع الكبار حول الطاقة.

ومهما بلغ تفاؤل البعض لحماسة الجانب التركي للتدخل العسكري، فإنّهم يتناسون أن لتركيا مشاكل رئيسة يمكن أن تصنّف مثل الحالة السوريّة، وهي مشاكل الأكراد وتمرّدهم، وتنظّمهم للقيام بثورة، فلا يمكن أن تقبل تركيا حلاً يمكن أن يطيّق عليها، وهي لا تختلف الآن عن روسيا التي بجانب ملفات الطّاقة والنفوذ، فإنّها تستحضر التمرّد الشيشاني، ولا تقبل أن يتمّ تغيير النظام أو التدخل في الشأن السوري عسكريًا، بالكيفية التي يمكن أن تشجّع الشيشان على التفكير في خيارات مشابهة، وأو تشرعّن تغيير النظم بدعوى ثورة الشّعوب.

الإمبراطوريتان ودُوار الهوية.. حينما تدفع فاتورة الماضي..
للعلاقات التّركيّة الرّوسيّة؛ عمقها التّارِيخي المرتبط بالماضي الإمبراطوري القيصري والعثماني، ولكن التّأسيس الحديث للعلاقة بين تركيا الحديثة وروسيا السوفياتية كان في 2 يونيو(حزيران) من عام 1920. وفي عام 1923 أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والاتحاد السوفياتي. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي اعترفت تركيا بروسيا الاتحادية وارثة لحقوقه واتفاقياته، وهذا العمق يلقي بحمولة باهظة على الجانبين، عمق العثمانية الإسلامي والسوفيات الشيوعي، يظل يصيبهما بدوار في تكييف الهوية والأهداف الاستراتيجية، ويخلق منهما قوى براغماتية، تحاكي حال من فقد مجده ولا ينفكّ يحاول استعادته بأي ثمن، وبأي حساب، ليس طلبًا للمجد فحسب، بل لأن الآخرين لا يقبلونه على حالته الجديدة.


فتركيا ظلّت لسنوات طويلة، ما قبل الحرب الباردة، تعتبر نفسها حائط الصدّ “الأوروبي” الأول ضدّ الشيوعيّة، وتمارس دورها بحيوية ونشاط، فهيّ تقاوم الشيوعيّة والإيديولوجيّة الإسلاميّة، فانسلخت من هويّة الدّين وانخرطت في هويّة جديدة تحديثية مدنيّة محميّة بطاقم عسكري، ولكنها سرعان ما تجرّعت كؤوس الخيبة، بعدما أدبرت أوروبا وتمنّعت عليها، فوهدت قوة العسكر “الحامية للمدنية التحديثية ” والدافعيّة المدنية؛ وأصبح الطموح العثماني هو البديل “القوي” وإن كان خفيًا، فلا يمكنك أن تخسر الغرب والشرق معًا، فمرّت تبعًا لذلك السِّياسة التركية بمرحلة انتقاليّة “صفرية المشاكل مع الجيران”، وتحرّك مشروعها الجديد مستصحبًا شرط أن لا تخسر مكتسبات التحديث، وتناغي الأشواق الإسلاميّة “بحذر” لا يفزع الاتحاد الأوروبي.

قبل أن تعدّل تركيا اتجاهها من جديد، لإحياء العثمانية، كانت القوى الدّولية قد هيّأتها لدور “شرطي الشرق الأوسط”، فهي عضو حلف الناتو الذي يطلُّ على أقاليم جيوستراتيجية بالغة الأهميّة “الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، والقوقاز”، فتركيا المنفتحة توقِّع اتفاقيّة “تعاون عسكري” مع إسرائيل، مبيّنة أنّها انفكّت من عقدة كراهية إسرائيل، وفي الوقت نفسه هي طموحة لمجدها على الرغم من صعود نجم نظرية “صفريّة المشاكل مع دول الجوار” آنفة الذكر التي تقتضي انكفاءً على الداخل، إلا أنّ مفهومًا كامنًا مثل “أتراك الخارج” كان حاضرًا، ولعله المفهوم الوحيد الذي يفسّر تدخل تركيا في البلقان في التسعينات وهو الأجدر على شرح مفهوم جديد شبيه بمفهوم أتراك الخارج “أمانة الأجداد” وهو ما قاله رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام (الشعب السوري أمانة أجدادنا في أعناقنا، ونحن لا ننظر في سياستنا الخارجية من منظار مذهبي، فجميع الحكام العرب الذين سقطوا في الربيع العربي هم من أهل السنة). (وكالات، 10، اكتوبر، 2012)، وعلى ذلك فقد ظلّ الطموح العثماني واضحًا في صراع تركيا مع إيران (الشيعية) من جهة، ومع روسيا من جهة أخرى، في بسط النفوذ على دول “الفراغ السّوفياتي”.

هذا الطموح يصطدم بمظان نفوذ روسيا، سواء في آسيا الوسطى، وجمهوريّاتها السّنية، أو سوريا التي تشكّل صداعًا لتركيا، بسبب التركيبة الإثنيّة، فسوريا حليفة روسيا، والجمهوريات السنية حليفة تركيا المفترضة، وحليفة الغرب الذي تخافه روسيا ويخافها.
ولكن من هي روسيا ما بعد الحرب الباردة، وهل تعاني أيضًا من دوار الهويّة؟

روسيا
روسيا، كما ينقل عن الأديب الروسي دوستيفسكي “دوما ما تبدو آسيوية للأوروبيين وأوروبية للآسيويين”، فقد بدأت مسيرتها الجديدة، وهي تدرك أن بينها وبين أوروبا فكر مختلف وثقافة متباينة وطبائع متغايرة مردّها إلى الاشتراكية الماركسية والإيديولوجية المرتبطة بالديكتاتورية، لذلك يقول بوتين “إن روسيا عبارة عن كيان شاسع، متعدد الأعراق أقيم على أنقاض الإمبراطوريتين السوفياتية والروسية، ولا يستطيع أن يحيا كـ”بوتقة صهر” على النمط الأميركي أو كـ”مجتمع متعدد الثقافات” مثل بعض الدول الأوروبية، ولذلك فإنه يتعين على روسيا العثور على طريقها الخاص”، هذا على المستوى الداخلي، وعلى المستوى الخارجي، فإنّ نفوذها الذي يتضعضع لن يقوم على أنقاض الإيديولوجيا، كما كان في الحقبة السوفياتية، فعلى ماذا يقوم إذًا؟

ظهرت في التسعينيات روسيا وهي تفكِّر في دورٍ جديد، فقرأت خارطة “الطّاقة” وصراعاتها، فهي أولى دول العالم في تصدير الغاز والطاقة النووية، ومن الأوائل في تجارة السّلاح، وقد أسعفها الحظّ أو أنّها أدركت في وقت مبكِّر التوسّع في استهلاك الطاقة، والعوامل التي أدّت إلى انتقال التركيز إلى الغاز الطبيعي والصخري والطاقة النووية، بسبب أسعار النفط أو بسبب “اتفاقية كيوتو للحد من انبعاث الغازات 1992″، ولاعتبارات أخرى توفّق الغاز الروسي في الحضور على طاولة اتِّخاذ القرارات الروسيّة، وأضحى سلاحًا حاسمًا في رسم الاستراتيجية الروسيّة عقب انهيار الشيوعية، وقد مرّت روسيا بتطورات رئيسة، وتمكّن مفكروها من تغيير الموروثات، ويدل على التغيّر حسبما يشير الباحثون، أن شركة “غازبروم” صارت نموذجاً لشركة رأسمالية عملاقة عابرة للقارات والقوميات، تضخ في الموازنة الروسية نحو 25 في المئة من عائدات الضرائب من القطاعات الاقتصادية الروسية كلها. (عاطف عبدالحميد، الحياة اللندنية، 17 ـ 6 ـ 2006).


على الرغم من الخلافات.. غاز إيراني إلى تركيا!
اعتمدت روسيا في سياستها الجديدة، على بناء نفوذ عبر “سياسة” الطاقة، وتأسيس تعاون مع الدول الناميّة، خاصة المطرودة من الرضى الغربيّ أيًا كانت أسباب طردها أو خلافاتها، فشكّلت ـ روسيا – حماية ناعمة لها. ورسمت روسيا خطوط أنابيبها لتصدير النفط والغاز، ويمكن تشبيه الصراعات التي تنشأ بسبب مسار خط هذه الأنابيب، بحروب طريق الحرير والتوابل، ومضيقات البحار في القرون الماضية.

أمن الطاقة
الدور الجيوسياسي لغاز روسيا واستثماراتها في قطاع الطاقة شكّل نفوذًا عالميًا، وصل إلى أوروبا، وشمال إفريقيا (ليبيا، الجزائر) فتخوّف منه المنافسون والمستهلِكون على حدٍ سواء، معتبرين أن الارتهان للغاز الروسي لا يقل تهديداً عن التمدد الجغرافي أو التهديد العسكري، وهي مخاوف صارت تتردد تحت مسمى الهيمنة الروسيّة على أمن الطاقة في عهد ما بعد الشيوعيّة، فالشركة الرّوسية “غازبروم” تفاوض دولاً عدة في شرق آسيا بشأن إعداد البنية الأساسية لتصدير لغاز الرّوسي، بعدما صارت روسيا تزوّد الدّول الأوروبيّة بأكثَر مِن 80 من المائة من الغاز الطبيعي ونصف النفط.

تبلّور في وقت مبكّر مفهوم أمن الطاقة، وصار الغاز الطبيعي “الروسي بشكل خاص” سلاحًا استراتيجيًا يُهاب جانبه ويحسب حسابه، فصارت جهود روسيا لبسط نفوذه واضحة، فالمراقب يرى أن شركة الغاز الروسيّة حاضرة، في كل زيارات فلادمير بوتين لأي دولة.
وكانت تركيا هي “عقدة” الحل البديل، وهي مخزن تصدير الغاز البديل، الذي يعوّض الغاز الروسي، مستفيدة من تجربة “مضيق البسفور” الذي استخدمته تركيا كورقة ضغط على الدول التي تعتمد عليه في تصدير نفطها لبسط نفوذها، في فترة سابقة،.

نابوكو لكسر الارتهان لروسيا.. عبر تركيا
اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبيّة؛ الغاز الرّوسي، أداة للابتزاز، خاصة في أعقاب أزمة الغاز بين روسيا وأوكرانيا في شتاء 2007/2008، وتطوراتها التي دفعت نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في عام 2009 للقول “روسيا تبتز بشكل أساسي بلدًا وقارة بالغاز الطبيعي”، رافق ذلك تنامي إرادة تأمين أوروبا من النفوذ الروسي، فبدأت الجهود المتضافرة لإحياء مشروع “نابوكو” الذي يؤمّل أن يوفّر الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى والبحر الأسود وبحر قزوين، مرورًا بتركيا “كمخزن وعقدة لخارطة التصدير”، ومنها إلى بلغاريا ورومانيا؛ والأهم أن كل ذلك يأتي بعيدًا عن روسيا، فتكون بذلك تركيا هي الترانزيت الآمن للغاز “الخالي” من النفوذ الروسي. وكما هو متوقّع، فإن روسيا لم تدع الأمر يمر بسلام، ولن تسّلم بسعولة، حيال خسارتها لورقتها المهمة.

روسيا ترد.. السيل الجنوبي
اعتبرت روسيا مشروع نابوكو عدوًا للمصالح الروسية، فبدأت بحملة من التحركات، وفي عام 2007 اتفق فلاديمير بوتن مع زعماء تركمانستان على بناء خط أنابيب جديد شمال روسيا، ليحرم نابوكو من إمدادات غاز محتملة، وفي ذلك العام ذاته سافر بوتن إلى تركيا ليعقد اتفاقية تتيح لـ”غاز بروم” لتقوم بإجراء فحوص بيئية وزلزالية لبناء السيل الحنوبي بعد شهر واحد من توقيع حكومات أوروبية على اتفاقية عبور مع أنقرة بشأن خط أنابيب نابوكو. ودشّنت القمة التاسعة لمنظمة التعاون الاقتصادي بين دول البحر الأسود التي انعقدت في مدينة “سمسون” التركية في عام 2007 الصورة النهائية لفكرة خط أنابيب الغاز “السيل الجنوبي”، وتمّ ذلك بعد التعهد بأن تمر الأنابيب بالمياه الإقليمية التركية.

تركيا ظلّت ميّالة إلى المشروع الأميركي الغربي، الذي يمكنها من حمل ورقة ضغط، فتركيا بالنسبة لدعاة هذا المشروع، أهون أمرًا من أن تتحكم في الطاقة كما تفعل روسيا، ولكن تركيا لم تقتنع بكفاية ذلك، لما رأت مساحة لاقتناص الفرصة، صادف أنّ الرّوس يجيدون استخدام المغريات.

تركيا.. زاغ البصر وطغى
كانت تركيا تلعب بالخيوط كلّها، فقد رأت في التنافس، فرصة لأن تدفع باتجاه الضغط على أوروبا ومن يقف وراء “نابوكو” الذي يعتمد عليها بشكل رئيس، لحصد مكاسب سياسية، ففي 19 يناير 2009، أعرب رئيس وزراء تركيا رجب طيب إردوغان عن أن تركيا قد تنسحب من مشروع نابوكو إذا ما استمرت المعوّقات لبدء محادثات انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، (“رويترز”،19 يناير2009 )، ولكنه أجبر لاحقًا على أن يؤكد أنه تركيا لن تستعمل خط الأنابيب كسلاح في الخلافات السياسية.


في الوقت نفسه، لم تنفصم عن مصالحها من روسيا، وحاولت أن يصب الخياران في أرضها، ولكنّ الروس، لهم تجارب كثيرة جرّها الماضي النفطي، ومشاكل تصدير النفط، ومضيق البسفور، جعلهم يدركون سقف الثقة، فروسيا تمول أكبر محطة طاقة في تركيا، بقدر ما تتفاءل فهي تتصرّف مع الملف التركي بحذر كبير.

كلاهما قد يعمل
تقدر تكلفة خط “السيل الجنوبي” بما لا يقل عن 15,5 مليار يورو أو 22,3 مليار دولار، وهو ما يقارب ضعف تكلفة خط أنابيب نابوكو المتوقعة، ما يعزى في المقام الأول إلى أن خط أنابيب نابوكو لن يمر تحت كتلة هائلة من المياه كالبحر الأسود وإلى أن نابوكو سينقل كميات أقل من الغاز؛ ولا تزال مصادر الغاز الذي ستملأ الأنابيب شبه مجهولة، ويشير الخبراء، إلى أنّ الأنابيب يستحيل ملؤها ما لم تكن إيران عضوًا في المشروع، وهو تحدٍ كبير في ظل خارطة الصراع السياسي الحالية، خاصة أنّ إيران مدّت خط أنابيبها ليعبر العراق وصولاً إلى سوريا، فتكون سوريا هي ميناء التصدير، وهذا يصبّ بشكل أو بآخر في مصلحة روسيا، إذ تضمن أن أنابيب “نابوكو” حتى لو اكتملت، وتضمّن أنها تمضي في “أنابيب صديقة، وأراضي مرتبطة بالطاقة النووية الروسية، وبالسلاح الروسي.

على كل حال، فإن السوق الأوروبية في عطش متواصل للطاقة، فحتى لو اكتمل مشروع ناباكو، فإنه لن يتمكن من خفض اعتماد أوروبا على روسيا بشكل كبير. فتتوقع شركة بي بي “أن يزداد استخدام الغاز لانتاج الطاقة في الدول الأوروبية من نسبة 40 في المائة الحالية إلى60 في المائة عام2030 ، مع توقع تضاعف واردات أوروبا من الغاز بحلول2030 ، نتيجة لذلك. وبلغت واردات أوروبا من الغاز444 مليار متر مكعب من اجمالي553 مليار متر مكعب، التي استخدمتها دول الاتحاد الأوروبي في عام 2010، طبقا ليوروستات”. (الاقتصادية ـ مشروع نابوكو لأنابيب النفط يشارف على الانهيارـ 5 فبراير/شباط 2012).

التنافس الروسي التركي.. سوريا وظلالها
تعتمد شركة “بوتاس” التركية على الغاز الروسي، بواقع6 مليارات متر مكعّب من الغاز سنويا، حتى عام 2011، وفي أكتوبر(تشرين الأول) 2011، حملت الصحف خبرًا مفاده أن تركيا تقرر عدم تمديد اتفاقية توريد الغاز الروسي عبر الخط الغربي، وكان التفصيل أن وزير الطاقة التركي قد حذر من إمكانية إعادة النظر في الاتفاقية الموقعة عام1986 ، في حال عدم إقدام روسيا على تخفيض سعر الغاز. وكان يفترض أن ينتهى سريان مفعول الاتفاقية، التي تقضي بإمداد تركيا سنويا بنحو6 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي في ديسمبر(كانون الأول)2011، ولكن في ديسمبر من العام نفسه، عادت الصحف لتحمل خبرا جديدًا، إذ قال فلاديمير بوتين خلال اللقاء مع وزير الطاقة التركي تانر يلديز، في28 ديسمبر: “بودي التوجه إلى الحكومة التركية بالشكر الجزيل، على قرار منح ترخيص لشركة غازبروم بإنشاء خط أنبوب الغاز (السيل الجنوبي) في المنطقة التركية الاقتصادية”. وقد أكد المسؤولون أن التصدير سيبدأ في عام 2015، وقال أيضًا “إننا اتفقنا على توريد الغاز إلى تركيا على المدى البعيد، حتى 2021 و2025″.

الاجتماعات الدبلوماسية التي عقدت في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي للتحضير لزيارة بوتين إلى تركيا تناولت “مسائل تمتين العلاقات التجارية والاقتصادية والتعاون التمويلي ومجال الطاقة بما فيها بناء المحطة الكهرذرية أكايا على الأراضي التركية، وتمديد أنابيب الغاز (السيل الجنوبي)، بالإضافة إلى المشكلات الدولية والإقليمية الرئيسة، بما في ذلك مسألة الأمن الأوروبي والأوضاع في سوريا والشرق الأوسط والتسوية القبرصية، والأوضاع في جنوب القوقاز”. (إذاعة صوت روسيا ـ20 سبتمبر 2012).

تركيا التوتر مع سوريا.. خطابان
أعلن وزير الطاقة التركي تانر يلديز الخميس11 أكتوبر 2012، أن سوريا أوقفت قبل أسبوع وارداتها من الطاقة الكهربائية من تركيا بعد حادثة إطلاق النار. وقال “إن سوريا أوقفت مشتريات الكهرباء من تركيا قبل أسبوع”، لكنه أكّد استعداد بلاده لاستئناف شحناتها إذا طلبت جارتها منها ذلك. والمعروف أن أنقرة التي تزود سوريا بحوالى20 في المئة من الطاقة التي تستهلكها، كانت قد هددت دمشق في يناير 2012 بقطع إمدادها بالكهرباء بعد اسقاط طائرة حربية تركية بالدفاعات الجوية السورية.


سوريا استطاعت إقلاق تركيا بأن تركت الشمال السوري للأكراد، ويقوّي موقف سوريا وقوف إيران معها، وهي الأخرى قادرة على إدارة معركة هادئة مع تركيا باستخدام ورقة الأكراد أيضًا، ودخول إيران تقويّة لسوريا وتدعيم لروسيا، فهي شريك قوي في حرب روسيا ضد الإرهاب “الشيشان”، فيبدو حلف المصالح المشتركة متينًا، لصالح سوريا الأسد.

الحضور الأميركي.. هل تتدخل تركيا في سوريا؟
قبل أعوام ومن سجل تجارب الصراع (الروسي/التركي/ الأميركي) فإن تجربة مثيلة، جرت في البلقان شهدت دخول تركيا وروسيا وأميركا وحلف الناتو في أتون المعركة، يومها كان من الطبيعي أن ترحِّب تركيا بالانغماس الأميركي/الأطلسي في أحداث إقليم البلقان، على أساس أنه يضعف الدّور الروسي واليوناني، وعلى الرّغم من أن تركيا شاركت في جميع الأعمال العسكرية، التي قام بها حلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية لاحتواء أزمات الإقليم، لكنها كانت مشاركة رمزية لكي لا تثير حفيظة روسيا إن هي بدت واقفة إلى جانب المسلمين في البلقان، وتسعى لتحقيق حلمها بالعثمانية الجديدة، أو تحتضن الأصولية الجديدة، وكل هذه اتهامات كانت كفيلة بعرقلة مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة الأهم، بحسب البروفيسور نزار اسماعيل “الأهم أنها (تركيا) استوعبت الدرس وعواقب التدخل العسكري المنفرد، إذ دخلت إلى جانب أذربيجان في الحرب ضد أرمينيا، حول إقليم ناغورتو كاراباخ، وكادت تجد نفسها في مواجهة عسكرية غير محسوبة النتائج مع روسيا”. (مجلة العلوم السياسية ـ نزار اسماعيل، التنافس الروسي التركي على إقليم البلقان بعد الحرب الباردة، العدد 33، ص215).

خلاصة
تقول الخلاصة، إن تركيا لن تتدخل عسكريًا في سوريا، لأن التدخل فيها، يعني حربا مع روسيا وربما إيران، ولا يضمن أحد بحال من الأحوال، دخول حلف الناتو في مثل هذه الحرب، لأنّها ستكون في الأراضي السوريّة، فهي حرب هجوميّة. كما أنّ تركيا قد تدعم التدخل الغربي، ولكنّها لن تكون أصيلة فيه، فهي وروسيا باقيتان في أرض المعركة، حتى ولو تولّى الآخرون ورحلوا بعد انتهاء المعركة.
وعلى أكثر الفروض إيجابية لدى المتحمسين للتدخل، فإنّ تدخلاً تركياً في سوريا قد ينتهي بدولة مفككة، أو يشجّع على تفتيت سوريا وهو ما يمهّد لقيام دولة كردية لا تريدها تركيا بكل تأكيد، كل هذا يجعل تحرّك تركيا منفردًا، غير وارد، ولو هاجمها الأسد، إلا في حالة واحدة، أنّها حسمت أمرها، ودشّنت مشروع العثمانية الجديدة رسميًا.

بقليل من التحامل يمكننا أن نقول، إنّ تركيا ليست منافسًا كفؤاً لروسيا، بل وكيل نشط لتحالفات أخرى، ولكنّه وكيل أذكى من المطلوب، فقد يتحوّل عن الوكالة في أية لحظة لو سنحت له فرصة، ليلعب لصالح نفسه، فلن تكون مفاجأة مدوية لو انقلبت تركيا في لحظة ما، وأصبحت في خط روسيا!

إلى حين تبيّن الأمور، وحل الأحجية والألغاز، تبقى الجروح المفتوحة والدموع منسكبة، والناس في سوريا بين طريقين لا ثالث لهما، أن يخرج بين النّاس رجل رشيد، يريد إصلاحًا، ويكفّ تيّارات الدّماء، ويوقف شلالات العذاب التي ترهق إنسان سوريا المسكين، وتدمي قلب الإنسانية، ويكون حله الحوار وإصلاح ذات البين والكثير من التنازلات. أو يظهر بين الناس تاجر ماهر، يقدّم التنازلات المناسبة، التي تجعل خسارة نظام الأسّد بالنسبة لروسيا ـ مدفوعة التكاليف- ولا تهز وضع الدب الروسي في خارطة الصراع على الطاقة والنفوذ والغاز.