منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#58795
مذكرات إريك رولو أشهر صحفي ودبلوماسي فرنسي‏
ســـــر الخديعـــــة في حـــرب الأيـــــام الستــــــة
جمال زايدة

ما إن انتهي اريك رولو من شرح ذلك المنعطف الخطير الذي مرت به مصر عقب رفض واشنطن تمويل السد العالي الذي أعقبه العدوان الثلاثي علي مصر عام‏1956‏ و قد فاجأتني صراحة تشارلز يوست


ذلك السفير المحنك, الذي سيصير فيما بعد ممثلا للولايات المتحدة لدي منظمة الأمم المتحدة. إذ عرض علي ما تم خلال محادثاته مع وزير الخارجية المصري آنذاك, محمود رياض, و خلال الحديث- الأكثر حسما- الذي تم عشية اليوم السابق, بين الرئيس المصري جمال عبدالناصر و المبعوث الخاص للرئيس جونسون, روبرت اندرسون(RobertAnderson), الذي كان يعمل بمشاركة بريطانية ـ فرنسية ـ أسرائيلية حتي دلف الي شرح الاتجاه شرقا في السياسة الخارجية المصرية التي أعقبها زيارة تاريخية للزعيم السوفيتي خروشوف قدم خلالها ما كانت تحلم به مصر وعبدالناصر من استكمال تمويل السد العالي وتسليح الجيش المصري ثم تطرق في الحلقة الثالثة التي نعرضها اليوم الي أسرار حرب1967 والدور الذي قامت به الولايات المتحدة لدعم إسرائيل.. يقدم رولو أسرارا قد تعرف للمرة الاولي عن عملية الخداع الكبري التي قامت بها واشنطن ثم يشرح تلك الاجواء المحمومة التي سادت إسرائيل في تلك
المرحلة.
ما يفسر أهمية تلك الحرب الخاطفة التي لم تكن محلية إلا ظاهرا. و هو ما يفسر أيضا ذلك الحشد الكبير من الأساطير, و الأباطيل, و الألغاز, التي خلفتها تلك الحرب وغذتها جزئيا إلي يومنا هذا. و فضلا عن الوقائع الأكيدة التي كشف عنها مؤرخون, من بينهم مؤرخون إسرائيليون, استنادا إلي السجلات الرسمية الخاصة بالقوي المعنية و إلي شهادات الشخصيات الفاعلة في الأحداث أو الشاهدة عليها, سأضيف شهادتي المتواضعة, المبنية علي أثر تحقيقات أجريتها في إسرائيل و في العديد من البلدان العربية, قبل النزاع و في أثنائه و فيما بعده.
كان ذلك الخامس من يونيو( حزيران)1967 هو أول يوم إجازة آخذها منذ وصولي إلي القاهرة, حيث ظللت طوال أسابيع عدة, أطلع قراء صحيفة زس جيرانها, والتي كان من المحتمل أن تفضي إلي نزاع مسلح. وكان يوم الراحة ذاك قد بدا ممكنا نظرا لما لاح من احتمال التوصل إلي تسوية بالتراضي, وهو ما كان يعني استبعاد أي مواجهة عسكرية وشيكة. و قد بنيت آمالي علي المعلومات التي أمدني بها في الثالث من يونيو( حزيران), أي قبل يومين من بداية الحرب, تشارلز يوست(CharlesYost) مبعوث الرئيس جونسون لإدارة الأزمة بالتعاون مع السفير الأمريكي المعين حديثا في منصبه. و قد وافق يوست علي منحي هذا اللقاء بناء علي وساطة أندريه فونتين,(AndrFontaine), رئيس تحرير صحيفة لوموند, الذي كانت تربطه به علاقة صداقة. و كنا قد اتفقنا علي أن تصريحاته ستظل سرية تماما إلي اليوم الذي يمكن نشرها فيه بغير خسائر.

و كان الأخير قد أعرب له عن رغبته في تفادي نزاع مسلح و اقترح أن يرسل إلي واشنطن يوم الأربعاء الموافق السابع من يونيو( حزيران) نائب رئيس الجمهورية, زكريا محيي الدين, لاستكشاف إمكان التوصل إلي تسوية مرضية للطرفين, مع موشي ديان(MosheDayan) الذي كان قد عين لتوه وزيرا لدفاع إسرائيل, مع وساطة الأمريكيين عند الاقتضاء. و إلي أن يتحقق ذلك, فسيغمض عينيه عن عبور سفن الشحن الإسرائيلية, ذات الطبيعة غير الاستراتيجية, باتجاه ميناء إيلات الإسرائيلي عبر مضيقي تيران, علي حدود سيناء, و هما المضيقان اللذان تسبب إغلاقهما, الذي نددت به الدولة اليهودية, في اشتعال الأزمة الإسرائيلية المصرية.
وقد أكد عبد الناصر, في خطاب أرسله في اليوم التالي إلي الرئيس جونسون, فحوي المقترحات التي قدمها إلي المبعوث الأمريكي, مضيفا أنه مستعد لاستقبال نائب رئيس الولايات المتحدة, هبرت همفري(HubertHumphrey), لكي يعرض عليه وجهة النظر المصرية في الأزمة الحالية, بل لكي ينظر أيضا في تسوية شاملة للنزاع الإسرائيلي ـ العربي. وقد أكد بقوة علي اعتزامه تسويته سلميا. و في اليوم نفسه, بعث روبرت أندرسون بتقرير إلي الرئيس جونسون يؤيد فيه أقوال عبد الناصر.( و قد تم نشر هذين النصين اللذين كانا محفوظين ضمن سجلات وزارة الخارجية بعد ذلك بعشرين عاما, كما يقضي القانون). و علي سبيل التهدئة, انتقد عبد الناصر تصريحات أحمد الشقيري, الذي كان في ذلك الوقت رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية, و هي التصريحات التي دعا فيها إلي تدمير إسرائيل, و كان عبد الناصر قد حرمه قبل ذلك من قيادة الوحدات الفلسطينية المسلحة, التي وضعها تحت إشراف ضباط مصريين حصريا.
في ذلك الوقت,كنت أجهل أمر الحيلة التي أقدم عليها الرئيس جونسون, الذي طلب من الرئيس عبد الناصر عدم المبادرة بالنزاع المسلح بينما كان قد أعطي لإسرائيل موافقته علي شن هجوم ضد مصر. هكذا, خول عنصر المفاجأة للدولة اليهودية تفوقا حاسما علي خصومها العرب. و وفقا للأعمال المتميزة التي قدمها مختلف المؤرخين, مثل أعمال الأمريكيين ويليام ب. كوانت(WilliamB.Quandt), و السفير ريتشارد باركر(RichardParker), فضلا عن أعمال المؤرخين الإسرائيليين, مايكل ب. أورينMichaelB.Oren), وتوم سيجيف(TomSegev), كان الرئيس الأمريكي قد أعطي قبل ذلك بأيام الضوء الأخضر( أو البرتقالي) لحكومة القدس, شريطة ألا تكون الولايات المتحدة طرفا فاعلا في النزاع. و قد بلغ التواطؤ بين البلدين حدا كبيرا حتي أن الرئيس جونسون قد أدخل بعض التعديلات في خطاب كان قد عرضه عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول(LeviEshkol) قبل أن يلقيه في التاسع و العشرين من مايو( أيار) في البرلمان.
يبقي أن النتائج التي يغلب عليها التفاؤل والتي خلص إليها تشارلز يوست( الذي كان يجهل بالطبع حقيقة الخطاب المخادع الخاص بالبيت الأبيض) كانت تبدو مقبولة ظاهرا لاسيما و أنها كانت تتفق مع قناعاتي. و كنت مقتنعا أن مصر كانت راغبة- حتي أكثر من إسرائيل- في تفادي الحرب.
إن محادثاتي السابقة مع عبد الناصر, و الكلام الذي كنت أسمعه من أفراد في محيطه المباشر, لاسيما محمد حسنين هيكل, و المواقف الرامية إلي التهدئة التي اتخذها الريس في مؤتمرات القمة العربية التي نظمها في عامي1964 و1965, و الهدوء الذي حافظ علي استتبابه طوال أحد عشر عاما علي الحدود المصرية الإسرائيلية, التي منع تسلل رجال الكوماندوز الفلسطينيين إليها, كل ذلك كان يؤيد رأيي: و هو أن الرئيس المصري, إدراكا منه لتفوق إسرائيل عسكريا, كان يري- وفقا للمقربين له- أنه لا يمكن تحقيق توازن بين القوي قبل مرور عشر سنوات. ففي الخطاب الذي ألقاه في23 ديسمبر( كانون أول)1963, ندد عبد الناصر بالتصريحات العنترية و المزايدات الكلامية التي أطلقتها الدول الشقيقة, فهتف قائلا: إحنا النهارده ما نقدرش أبدا نستخدم القوة, وحنقول لكم بالصدق.. ما نقدرش النهارده نستخدم القوة لأن ظروفنا لا تناسب... يعني إن أنا لا أستحي أبدا إن إذا كنت ما أقدرش أحارب إن أنا آجي أقول لكم ما أقدرش أحارب, إذا كنت ما أقدرش أحارب وأطلع أحارب أبقي باوديكم في داهية.. و أودي البلد بتاعتي في داهية.
هكذا نجح عبد الناصر في تهدئة حمية الأصوات الداعية للحرب بين نظرائه العرب الذين كانت ديماجوجيتهم لا يعدلها سوي عجزهم. و في الفترة ذاتها, كتب هيكل في صحيفة الأهرام, مستلهما رأي الرئيس علي الأرجح, أنه يجدر التحلي بالواقعية و تفهم أن مهاجمة إسرائيل إنما تعني إعلان الحرب علي الولايات المتحدة و بريطانيا, حليفتي الدولة اليهودية. و في جميع الأحوال, كان لمصر أولويات أخري: مثل إدارة علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة, و التحديات الناجمة عن تعثرات المشروع الوحدوي العربي, و الإصلاحات الكبري المتخذة علي أثر فشل الوحدة بين سوريا و مصر في1961, و تشييد السد العالي العملاق بأسوان. إضافة إلي ذلك, لم يكن عبد الناصر ليسمح لنفسه بسحب صفوة قواته من اليمن حيث كانت تدافع منذ عام1962 عن الجمهورية المؤسسة في العام نفسه, و التي كانت تتهددها القبائل الموالية للملكية المدعومة من قبل المملكة العربية السعودية. و كانت تلك الوحدات تمثل ثلث مجموع القوات المسلحة المصرية. و هكذا, طوال عشر سنوات, منذ عام1956 و حتي1966, توارت المشكلة الإسرائيلية العربية من علي الساحة السياسية المصرية.
كان مما يدعو للدهشة أن يري الرئيس المصري, رغم طبيعته الحذرة و المتحسبة للعواقب, و هو يرتكب أثناء أزمة1967 سلسلة من الحسابات الخاطئة, و يتخذ إجراءات في غير موضعها, و يلقي خطابات عدوانية, اعتبرت بمثابة أعمال استفزازية في إسرائيل. بل إن بعض معاوني الرئيس المقربين قد أسروا إلي بأنهم لم يعد بإمكانهم فهم مسلكه. صحيح أنه كان لديه ما يؤرق خاطره منذ بدايات العام بشأن نوايا إسرائيل إزاء سوريا. ألم يعلن الجنرال إسحق رابين, رئيس أركان حرب القوات المسلحة ـ الإسرائيلية, أنه سيشن هجوما خاطفا لاحتلال دمشق و الإطاحة بالحكومة القائمة فيها إذا لم تكف هذه الأخيرة عن التحرش بالدولة اليهودية؟
و قد كشفت السجلات الخاصة بمجلس الوزراء الإسرائيلي بالفعل عن أن رابين قد طلب عدة مرات موافقة الحكومة للانتقال بنواياه إلي حيز التنفيذ, دون أن يحصل عليها.
و قد تعددت الإشكالات بين البلدين, بل انتهت إحدي المعارك الجوية بتدمير عدة طائرات سورية. و قد دأبت الجماعة الحاكمة في دمشق, المكونة من الجناح الأكثر تطرفا في حزب البعث, علي إعلان نيتها تدمير الكيان الصهيوني, و علي المناداة لذلك بحرب تحرير وطنية, و علي السماح بتسلل المخربين الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية, و من أولئك أعضاء الحركة السرية التي يقودها ياسر عرفات, و المسماة بحركة فتح. إضافة إلي ذلك, دأب حرس الحدود السوريون علي إطلاق النار علي المزارعين الإسرائيليين الذين يجازفون بالدخول إلي المنطقة المنزوعة السلاح بين البلدين. لكن لم تكن التوترات المتصاعدة منذ يناير( كانون ثاني)1967 تعزي إلي السوريين وحدهم, مثلما كان يعتقد الجميع ثقة منهم في المعلومات التي كانت تبث في القدس, و التي كانت تعتبر أجدر بالثقة من تلك التي كانت تبثها دمشق. كان لابد أن تمر سنوات طويلة قبل أن يفضي الجنرال ديان باعتراف جسيم, فقد أقر بأن الدولة اليهودية كانت مذنبة في أكثر من80% من المواجهات المسلحة بإرسالها جرارات لحرث الأراضي في المنطقة المنزوعة السلاح, فيما يمثل خرقا لاتفاقات الهدنة. و كان الجنود الذين يرتدون أزياء مدنية و يقودون الجرارات يتلقون الأوامر بمواصلة تقدمهم إلي أن يقرر السوريون, من فرط الغيظ, فتح النار; ليأتي من ثم الرد الانتقامي من قبل مدفعية الدولة اليهودية وطيرانها. و أضاف الجنرال ديان قائلا: كنا نعتقد بسذاجة أن تلك المعارك المتكررة ستؤدي في النهاية إلي إرغام دمشق علي الإقرار عمليا بالسيادة الإسرائيلية علي المنطقة المنزوعة السلاح.
و قد اعتقد جمال عبد الناصر أن التهديدات الإسرائيلية تعد جزء لا يتجزأ من مؤامرة أوسع نطاقا. وإذ نبهته أجهزة مخابرات كل من دمشق و موسكو حول تركز القوات اليهودية علي الحدود السورية- و هي معلومة تبين أنها عارية من الصحة- كان الرئيس يخشي هجوما علي سوريا من شأنه جر مصر إلي حرب خاسرة من البداية, و يتبعها سقوط النظامين الحاكمين في دمشق و القاهرة, طبقا لما ترجوه واشنطون وتتمناه.
كانت الولايات المتحدة تتهم العاصمتين العربيتين بالتبعية للاتحاد السوفييتي, و بالسعي إلي تقويض الحكومات الموالية لأمريكا في المنطقة; و كانوا يعتبون علي الأخص علي ناصر لمساعدته حركات التحرر الوطني في العالم أجمع, و تنديده بالتدخلات العسكرية الأمريكية في كل من الكونغو, و سانت دومنجو, و فيتنام, و دعمه متعدد الأشكال لجمهورية اليمن, التي كانت تهدد استقرار المملكة العربية السعودية في الجوار, و غيرها من البلدان النفطية الأخري, الحليفة للولايات المتحدة.
كانت واشنطن قلقة أيضا من إقرار الاشتراكية العلمية في وادي النيل, و من الإفراج عن جميع الشيوعيين المعتقلين, و من سلسلة عمليات التأميم التي نهبت المؤسسات الغربية. خلاصة القول, كانت الحملة المناهضة للاستعمار التي شنتها القاهرة قد وصلت إلي أبعاد تتجاوز طاقة الاحتمال, علي حد ما اعترف به محمد حسنين هيكل ببصيرة واعية في سلسلة من المقالات التي نشرتها صحيفة الأهرام مع بداية الأزمة.
من جانبه,كان عبد الناصر يندد بمكائد الإمبريالية الأمريكية ضد التنظيمات القومية و التقدمية العربية لمصلحة الحركات الإسلاموية التي ترعاها الحكومات المحافظة. و كان يرتاب في تمويل واشنطن,, للإخوان المسلمين, الذين دأبوا باستمرار علي حياكة المؤامرات الرامية للإطاحة به. و كان قد فسر قرار واشنطن بالامتناع في1965 عن تقديم المعونة الغذائية التي كانت قد أتاحت لمصر طوال عشرة أعوام اقتصاد مليار دولار من العملة الصعبة, علي أنه إعلان للحرب. فلقد كانت تلك العقوبة تزعزع استقرار اقتصاد البلاد و هو ما كان يخلخل بالتالي نظام الحكم نفسه. و قد اكتسبت فرضية المؤامرة معقولية متزايدة بعد الانقلاب الذي قاد في إبريل( نيسان)1967 مجموعة من الضباط الموالين لأمريكا إلي سدة الحكم في اليونان. إذ لم يكن ثمة شك في أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية(C.I.A.), ما كانت لتتردد في التخلص من حكومات أو اغتيال حكام أجانب يستشف عداؤهم للولايات المتحدة.
كما دفعت أسباب أخري بعبد الناصر إلي اتخاذ إجراءات غير مناسبة: إذ لم تكن وسائل إعلام الدول المحافظة تكف عن اتهامه بالسلبية إزاء إسرائيل, بل كانت أحيانا ما تتهمه بالتواطؤ معها: إذ كانت تنكر عليه عدم رغبته تحرير فلسطين بالقوة, و عدم الإقدام علي أي فعل لمساعدة سوريا رغم اتفاقية الدفاع المشترك التي كانت تربط بين البلدين, و بالسماح بعبور السفن الإسرائيلية عبر مضيقي تيران, رغم كونهما يقعان في المياه الإقليمية المصرية. و في واقع الأمر, كانت إسرائيل قد اكتسبت حق العبور في مقابل انسحاب جيشها من سيناء عقب حرب1956, و هو الاتفاق الذي كانت الأمم المتحدة قد أقرته.
بالإضافة إلي ذلك, كانت تساور عبد الناصر شكوك عميقة إزاء سوريا البعثية التي كان يخشي مسلكها المتهور الذي قد يجره إلي الحرب راغما. و كان قد أبرم اتفاقية الدفاع المشترك مع دمشق و في ذهنه هدفان: من ناحية, ردع إسرائيل عن العدوان علي سوريا, و من ناحية أخري, حمل سوريا علي انتهاج مسلك معتدل كي لا تكون عرضي لمخالب صقور الدولة العبرية. و قد وقع عبد الناصر الاتفاقية بعد أن طلب من دمشق الكف عن أي تعاون مع المقاتلين الفلسطينيين, و منعهم بكافة الوسائل من التسلل إلي إسرائيل.
في تلك الفترة, كان عبد الناصر يعتبر ياسر عرفات بمثابة شخص مستفز و خطير, شغله الوحيد الشاغل هو إشعال الحرب بين إسرائيل و العرب. و لتفادي أي انفلات, إقترح ناصر إخضاع الجيشين لقيادة مصرية; لكن السوريين واجهوا المطلبين برفض قاطع. و أخطأ هو إذ تنازل عن مطلبيه.
و قد أدت الإجراءات التي اتخذها لاحقا بغية تخويف إسرائيل, إلي نتيجة عكسية لتلك المرجوة. فما كان إرسال الريس لفرقة المشاة- التي استعرضها جهارا نهارا في شوارع القاهرة!- ليؤخذ علي محمل الجد, لو لم يكن قد طلب بعد ذلك بعدة أيام إعادة انتشار قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة(UNEF), المرابضة بين البلدين منذ نهاية حرب.1956 لكنه مع ذلك قد احتاط بالامتناع عن طلب انسحاب تلك القوات من شرم الشيخ التي كانت تتحكم في مدخل مضيقي تيران. فقد كان لاريب يأمل في أن يعرض المسئولون في الأمم المتحدة وساطتهم لكي يقنعوه بالعدول عن موقفه. لكن حساباته كانت خاطئة: فعلي عكس المتوقع, أخبره الأمين العام للأمم المتحدة, يو ثانت(UThant), مباشرة و بدون عرض المسألة علي مجلس الأمن, علي عكس ما كان يجدر به أن يفعل, بأنه لن يعيد نشر القوات التابعة للمنظمة الدولية و إنما سيسحبها جميعا. فإما كل شيء أو لاشيء, هكذا كان قوله له باختصار. و ما من تفسير حتي الآن لتعجل مدير الأمم المتحدة, و لاسيما أن إسرائيل رفضت استقبال قوات حفظ السلام علي الجانب الخاص بها من الحدود. فرأي عبد الناصر عندئذ-كي يحفظ ماء وجهه- أن استعادة الوضع السابق يجبره علي استعادة السيطرة علي مضيقي تيران, بعد أن أجبرت مصر علي التخلي عنها في1957, تحت ضغط كل من إسرائيل و الولايات المتحدة. و كان إغلاق المضيقين, الذي يخرق الاتفاق المبرم تحت رعاية الأمم المتحدة, يضع إسرائيل أمام خيارين: إما السعي إلي تسوية ترضي الطرفين, أو الرد بإعلان الحرب. و قد عمدت هيئة أركان الدولة العبرية العامة إلي حشد المئات من الآلاف من جنود الاحتياط حتي قبل أن يتم إغلاق المضيقين.
رغم كل شيء, لم تكن تلك هي النتيجة الظاهرة, علي حد ما لاحظت أثناء تحقيق أجريته في إسرائيل في نهاية عام1965 و بداية عام.1966 كان الهدوء يخيم علي كامل الحدود, و بدا نجم معسكر السلام في صعود منذ فشل الهجوم الذي شنته الدولة العبرية علي ميناء السويس في عام1956, بالتواطؤ مع فرنسا و المملكة المتحدة. لم تتم الإطاحة بعبد الناصر, و لا تم ضم سيناء إلي الدولة اليهودية, و تحت ضغط الرئيس أيزنهاور, اضطر الجيش اليهودي إلي العودة إلي دياره بخفي حنين, و قد منح ترضية لا قيمة لها, تتمثل في التصريح للسفن الإسرائيلية بالإبحار عبر مضيقي تيران, الواقعين بداخل المياه الإقليمية المصرية.
كان ذلك النجاح الرمزي, الذي منح بن جوريون إياه ليحفظ له ماء وجهه, يعد تافها نظرا لأن2% فقط من تجارة إسرائيل كانت تتم عبر ذلك الممر المائي للوصول إلي ميناء إيلات المتواضع. إذ ظلت حيفا هي الرئة الأساسية للدولة اليهودية. من جانب آخر, ندد معلقون إسرائيليون بالتواطؤ العسكري الذي أرسي في تلك الواقعة مع اثنتين من القوي الغربية التي ينظر إليها عبر العالم العربي علي أنها قوي إمبريالية.
أثناء الحملة الانتخابية التي شهدتها في خريف عام1965, لم يقدم أي حزب سياسي, بما في ذلك حزب بن جوريون, المسمي بحزب رافيRafi- و المنشق عن حزب العمل- علي امتداح غزو السويس. علاوة علي ذلك, هاجمت تنظيمات يسارية مفهوم الحرب الوقائية برمته, و هو ما عرفت به مغامرة عام.1956 و كان الرئيس آيزنهاور حين يشير إلي ذلك المفهوم يتحدث عنه و كأنه فاحشة بذيئة. و هو الذي صاح في إحدي لحظات غضبه قائلا: الحرب الوقائية إخترعها هتلر; بصراحة, لن أستمع بجدية إلي أي شخص يأتيني ليحدثني عنها..س.(Nuremberg), التي حاكمت القادة النازيين, كانت قد قضت بأن: ابتداء حرب هجومية يمثل جريمة دولية كبري; و قد أشار إليها ميثاق الأمم المتحدة بوصفها جريمة حرب. لهذا السبب علي الأرجح أعلنت إسرائيل, في الخامس من يونيو( حزيران)1967, في اللحظة نفسها التي ابتدأت فيها الأعمال الحربية, أنها كانت قد تعرضت لعدوان مصري اضطرت إثره للرد.
كان الجو العام في إسرائيل يميل إلي التهدئة في عامي1965 و.1966 و كانت السياسية الانتقامية( التي غالبا ما كانت تتسم بوحشية دامية), التي كان يمارسها بن جوريون وأتباعه( الجنرالات ديان و شارون و شيمون بيريز و غيرهم), قد لقيت جزاءها عبر هزيمة حزبهم في الانتخابات التشريعية; و في المقابل, تم انتخاب أحد أقطاب معسكر السلام, يوري أفنيري(UriAvnery), المؤيد لفكرة تقديم تنازلات للعرب و الفلسطينيين, و هو ما مثل مفاجأة عامة. و قد شكل حزب العمل, الذي يرأسه ليفي أشكول(LeviEshkol), رجل الحوار و الحلول الوسط, مع التنظيمات الدينية, التي كانت في ذلك الوقت تتسم بالاعتدال ذاته, إئتلافا قضي علي التوترات علي الحدود.

الكتاب: في كواليس الشرق الاوسط المؤلف: إريك رولو - ترجمة داليا سعودي