- الأحد ديسمبر 23, 2012 9:24 pm
#59018
عملية التحول الديمقراطي في بولندا
"دراسـة تقويمـية"
إعـداد:
فيصل فهد المشوح
الطالب بالمستوى الثامن
قسم العلوم السياسية/كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة
الملك سعود
إشـراف:
د.أحمد محمد وهبان
أستاذ العلوم السياسية المشارك
كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة الملك سعود
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى صحبه الأخيار وآله الطيبين الأبرار، وسلم تسليمًا كثيرًا بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
بولندا حاليًا واحدة من الدول السبع والعشرين المكونة للاتحاد الأوروبي، لكنها تتميز عن نظيراتها بالأحداث التي جرت على أرضها خلال القرن العشرين، وكان آخرها فتح الباب أمام التحول الديموقراطي في شرق أوروبا. فقد نجحت حركة التضامن النقابية في بولندا في إجبار نظام النظام الحاكم على إشراكها في الحكم من خلال أول انتخابات حرة جزئيًا في إبريل 1989م أسفرت عن فوز كبير لحركة التضامن التي نالت ولأول مرة اعترافًا رسميًا بوجودها.
وقد اعتمد التحول الديموقراطي في بولندا على مجتمع مدني قوي تحرر بعد قمع أمني طويل، وإصلاحات داخل الأحزاب الحاكمة، ومعارضة تقريبًا موحدة متزامنة مع بروز جيل جديد من الناخبين، حيث أن فوز المعارضة في الانتخابات شكل البداية لعملية تغيير كبرى أفضت إلى الانتقال إلى الديموقراطية.
وهذا لا يعني أن الانتقال من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديموقراطي حقيق أمرًا هينًا، ولكنه أمر في غاية الصعوبة تواجهه العديد من التحديات، كما أنه يتطلب العديد من الأسس والمرتكزات التي يجب أن يُبنى عليها النظام الديموقراطي الجديد.
ولما لموضوع التحول الديموقراطي في بولندا من أهمية كبيرة كتجربة ناجحة، فقد استوجب الدراسة والتفنيد. والدراسة الحالية تحاول التعرف على محطات مقاومة البولنديين السلمية للحكم الشمولي في ثمانينيات القرن الماضي وعملية التحول الديموقراطي نحو دولة ديموقراطية تعددية قائمة على حكم القانون بعد التوافق بين المعارضة ممثلة بحركة التضامن وحزب العمال البولندي الموحد (الشيوعي سابقًا) على تسوية عُرفت بمفاوضات الطاولة المستديرة. وتحاول الدراسة أيضًا التعرف على أبرز التحديات لعملية التحول الديموقراطي هذه وكيفية التعامل معها.
وقد قسمت الدراسة إلى أربعة مباحث، تسبقها مقدمة وتفصيل لخطة الدراسة من مشكلة وأهمية وتساؤلات وأهداف. واختتمت الدراسة بخاتمة تشتمل على أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
والله أسأل أن يوفقني لما يحبه ويرضاه، وأن يُسدد الخطا لما فيه الخير والصواب، والله ولي التوفيق والقادر عليه،،،
مشكلة الدراسة:
يمكن صياغة مشكلة الدراسة في التساؤل التالي: ما أهم ملامح التحول الديمقراطي الذي حدث في دولة بولندا ؟
تساؤلات الدراسة:
يتفرع عن التساؤل الرئيس للدراسة مجموعة من التساؤلات الفرعية، التي تحاول الدراسة الحالية الإجابة عنها، وهي:
1) ما هي الديموقراطية؟
2) ما أهم المراحل التاريخية التي مرت بها بولندا؟
3) ما أهم عمليات التحول الديموقراطي في بولندا؟
4) ما أهم التحديات التي تواجه التحول الديموقراطي في بولندا؟
أهداف البحث:
تتعدد أهداف البحث بتعدد محاوره، وتتمثل الأهداف فيما يلي:
1) التعرف على ماهية الديموقراطية.
2) التعرف على بولندا جغرافيًا وتاريخيًا.
3) معرفة أهم عمليات التحول الديموقراطي في بولندا.
4) التعرف على التحديات التي تواجه التحول الديموقراطي في بولندا.
منهج الدراسة:
سيتم استخدام منهج النظم في إعداد هذه الدراسة، وذلك لمعرفة المدخلات التي أدت إلى التحول الديمقراطي في بولندا، وما تبعه من مطالب اقتصادية واجتماعية بعضها كان تحديًا للنظام. وكذلك للتعرف على عمليات التحول السياسي التي حصلت في بولندا، والوقوف على أهم مخرجات النظام البولندي بعد التحول الديمقراطي. ثم أخيراً تقييم التجربة البولندية في التحول الديمقراطي وهل أدت هذه التجربة إلى رضا المجتمع البولندي في التحول للديمقراطية أم لا.
خطة الدراسة:
تم تقسيم الدراسة إلى أربعة مباحث، بحيث يمثل المبحثان الأول والثاني الدراسة النظرية، بينما يمثل المبحثان الثالث والرابع الدراسة التقويمية، وكان التقسيم كالتالي:
المبحث الأول: الديموقراطية؛ ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: مفهوم الديموقراطية
المطلب الثاني: أسس ومرتكزات الديمقراطية
المبحث الثاني: بولندا؛ ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الموقع الجغرافي
المطلب الثاني: نبذة عن تاريخ بولندا
المطلب الثالث: النظام السياسي الحالي
المبحث الرابع: عمليات التحول الديمقراطي في بولندا
المطلب الأول: مراحل التحول الديمقراطي في بولندا
المطلب الثاني: دور المسلمين البولنديين في التحول الديمقراطي
المطلب الثالث: مسارات التحول الديمقراطي في بولندا
المبحث الرابع: تحديات التحول الديموقراطي في بولندا
المطلب الأول: التحديات الاقتصادية
المطلب الثاني: التحديات السياسية
المطلب الثالث: التحديات الاجتماعية
خاتمة؛ تشتمل على أهم نتائج الدراسة
المبحث الأول
في
الديمقراطية
المطلب الأول: مفهوم الديمقراطية:
الديمقراطية لفظة إغريقية بمعنى حكم الشعب، وتعبر عن مفهوم تاريخي اتخذ صورًا وتطبيقات متعددة في سياق تطور المجتمعات والثقافات(1). كما تعني كلمة الديمقراطية "التمتع بحرية الرأي، والفكر، والقول، والفعل في ظل الأسس والأنظمة المعمول بها"(2). وقد تطور هذا المفهوم عبر الزمن حتى تحول إلى حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقلية.
ويرى كثيرون أن "الديموقراطية هي "عملية مجتمعية شاملة وتغييرية وبنائية جذرية في آنٍ واحد. والمقصود هنا بالتغيير المجتمعي الشامل كونه عملية ممتدة لإحداث تحولات عميقة تدريجية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة، وبما يقود إلى تجاوز الاغتراب في ظل المشاركة، وتحريك الفكر المجتمعي للانتقال من مرحلة الانفعال اللحظي إلى مرحلة الفعل التاريخي، ومن رحلة القبول والخضوع للواقع إلى مرحلة تغيير هذا الواقع تغييرًا جذريًا وثوريًا بحسب حاجات المجتمع"(3).
ومن ناحيةٍ ثانية تعددت مفاهيم هذا المصطلح بتعدد النظريات السياسية، وكذا بتعدد الثقافات والمجتمعات، والشعوب، والظروف الموضوعية. ولكن هذا التعدد بدأ يتلاشى بفعل تطور القانون الدولي والسياسة الدولية، بحيث يكاد يُجمع العالم على بعض ملامح الديمقراطية الأساسية.
فبالرغم من أن بعض المنظرين والفلاسفة حاولوا تحويل الأنظمة السياسية في العالم إلى الدكتاتورية بهدف ضمان الأمن الداخلي، إلا أن الديمقراطية مفهوم سياسي تم تدويله بحيث أصبح القانون الدولي ينظم الديمقراطية عبر جوانب مختلفة. فإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب فهذا يعني أن السلطة في العملية الديمقراطية هي سلطة شعبية وشرعية عبر انتخابات وأنها غير دائمة. وبواسطة الشعب؛ تعني ضرورة مشاركة كل الشعب في السلطة باعتبارها حق لهم، ومن أجل الشعب؛ تعني أنه المستفيد الأصلي من السلطة، وهو ما يعني حقه في الرقابة على السلطة.
"وقد ارتبطت الديمقراطية بالحكومات الدستورية من حيث الدلالة السياسية التي تجعل الشعب هو الأساس في عملية صنع القرار"(4).
إن الديمقراطية نظام بموجبه يكون الحكم والإدارة للشعب بوسائل تكفل اختيار الحاكم بحرية تامة، لا يعتريها وجه من وجوه الإكراه المباشر أو غير المباشر، ويمارس فيها الحاكم صلاحياته من خلال مؤسسات وبآليات يحدد مسارها الدستور والقوانين النافذة.
والمفهوم السائد للديمقراطية هو المفهوم الغربي؛ الذي يعني أنها نظام سياسي روحي يهدف إلى تحرير الفرد من سيطرة الملوك والكنيسة، واحترام حقوق الأفراد، ويرتكز على المذهب الفردي الحر. وتقوم الديمقراطية على ركنين، هما: اعتبار الشعب مصدر السلطة الوحيد، والثاني ضمان الحقوق والحريات العامة للأفراد،. ووسيلة إسناد السلطة في الديمقراطية هي الانتخابات.
"ويتمثل جوهر الديموقراطية في توفير وسيلة منهجية لإدارة المجتمع السياسي بغية تطوير فرص الحياة، بما توفره من نظام سلمي للعلاقات الاجتماعية في ظل بنية مؤسسية حضارية تتسم باستمرار تصاعد النمو والكفاءة، وتحمل في مضمونها مبدأ المساواة الذي يتجاوز مفهومه الليبرالي السياسي إلى الاقتراب من التكافؤ الاقتصادي، وتقوم على بناء إرادة المواطنة الفعالة، أي إرادة المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية"(5).
"ولقد اكتسب مصطلح الديمقراطية إيحاءً إيجابيًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى حد دفع بالحكام الدكتاتوريين الشموليين للتشدق بدعم الديمقراطية، وإجراء إنتخابات معروفة النتائج سلفًا. وكل حكومات العالم تقريبًا تدعي الديمقراطية. كما أن معظم الأيديولوجيات السياسية المعاصرة اشتملت ـ ولو على دعم بالاسم ـ على نوع من أنواع الديمقراطية بغض النظر عما تنادي به تلك الأيديولوجيات"(6).
وتأسيسًا على ما تقدم فإن الديموقراطية هي التي "تقوم على مبادئ الحرية التي تجسد قضية إنسانية، وتعبر عن ملكية الإنسان لفكره وإرادته وتمنحه شعور المواطنة، وتعمل على تحرير عقله من القيود والمحرمات والممنوعات"(7).
فالديموقراطية إذن هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائم بالإجمال على التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثرية وحماية حقوق الأقليّات والأفراد. كما أن الديموقراطية الحقيقية تحتاج إلى توافر أحزاب حقيقية تقوم على القيم والمبادئ والوطنية. فرغم الاختلافات والتباينات الإيديولوجية فيما بينها إلا أن جميعها يجب أن يجتمع على قيمة المواطنة الحقيقية التي تسعى بالأساس إلى رفعة الوطن وتعزيزه، وتحسين مستوى الحرية والعدالة الاجتماعية للمواطنين. على أن تكون هذه الديموقراطية محمية بدستور يوضح ويحمي واجبات وحقوق الجميع على كافة المستويات.
المطلب الثاني: أسس ومرتكزات الديمقراطية:
"بعد النجاح في تفكيك الحكم الديكتاتوري من خلال استخدام التحدي السياسي، لابد من اتخاذ إجراءات وقائية حذرة، وذلك لمنع ظهور نظام قمع جديد تولده حالة الفوضى التي تلي حالة القضاء على نظام القمع القديم. وبالتالي فعلى قادة القوى التي تدعم الديموقراطية أن يكونوا على استعداد مسبق للتحول المنظم إلى الديموقراطية، ثم يجب تفكيك الهيكلية الديكتاتورية، ومن ثم بناء الأسس الدستورية والقانونية ومعايير السلوك لديموقراطية قوية"(8).
وبالتالي فإن الديمقراطية ـ كنظام سياسي ـ تقوم على مجموعة من العناصر والمرتكزات الموضوعية والإجرائية التي تكفل تحقيق الديمقراطية، ومن هذه المرتكزات:
(1) الدستور:
"يتطلب الانتقال إلى أي الديمقراطية عقد اجتماعي جديد، والوثيقة الحاكمة لهذا العقد هي الدستور"(9). من هنا تأتي أهمية الدستور من كونه القانون الأسمى للبلاد؛ وهو يحدد نظام الحكم في الدولة، واختصاصات سلطاتها الثلاث، وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي. فالقانون يجب أن يكون متوخيًا للقواعد الدستورية، وكذلك اللوائح يجب أن تلتزم بالقانون الأعلى منها مرتبة، إذا ما كان القانون نفسه متوخيًا القواعد الدستورية(10).
ويعتبر الدستور في أي مجتمع أهم وثيقة سياسية تحدد أنماط العلاقات بين الحكام والمحكومين؛ فهو يشكل عقد اجتماعي يبلور حركة المجتمع للتعبير عن ذاته، في إطار إدراك واعٍ للحقوق والواجبات كتعبير مدرك لحقوق المواطنة المدنية المتساوية.
من هنا أصبحت كل الدول المعاصرة تتطلع إلى دستور ينظم سلطات الدولة، ويحدد اختصاصاتها، ويحدد حقوق وواجبات مواطنيها. وذلك من حيث "فصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها بشكلٍ واضح لكي تبقى الحكومة المركزية ديموقراطية، ويجب تقييد أعمال الشرطة والمخابرات والجيش بشكلٍ قوي يمنع أي تدخل قانوني سياسي"(11).
والأصل في الدستور والقانون ـ بشكلٍ عام ـ هو عملية التنظيم وليس وضع القيود، وتبسيط الإجراءات، حتى يتمكن الجميع من تحقيق مصالحهم. فالموانع والعقوبات التي يقرها الدستور أو القانون إنما تأتي في إطار حماية الحريات العامة وصيانتها وضمان عدم الإخلال بها.
وفي عبارةٍ واحدة تكون القوانين واللوائح غير شرعية إذا خالفت قاعدة دستورية واردة في الوثيقة الدستورية. فالدستور هو "المرجعية الأساسية التي تولد القوانين والمؤسسات، ومن خلاله يكون نشوء السلطة، ومنه أيضًا تُوزع الاختصاصات، ويُمنع الاحتكار، وتُفعل الرقابة"(12).
والدستور هو القانون الأعلى للدولة؛ وفي أي تجربة ديمقراطية يحتل الدستور مكانة راقية كسلطة أعلى تنشأ عنها جميع السلطات. ويصبح الدستور إطارًا عامًا يحدد العلاقة بين المواطنين والعلاقة بين السلطات. فهوالذي يحدد نظام الدولة، وحقوق المواطنين، ويجسد تطلعات الشعب. ولهذا فإن أي تغيير يطرأ على البنية السياسية والاجتماعية أو الاقتصادية للدولة يستتبع حتمًا تبديل دستورها أو تعديله بما يتلائم مع الأوضاع والظروف المستجدة"(13).
ولكي يكون الدستور متماشيًا مع النظام الديمقراطي؛ فلا مفر من تضمين الدستور للمبادئ الديمقراطية التي تقوم على أفكار التعددية، والتناوب على السلطة، والقيم التي تجعل نظام الحكم في خدمة الفرد وليس العكس. ومن هنا لا بد من أن يضمن الدستور التزام الحكام والشعب والمعارضة بمبادئه وأحكامه، لأنه يعبر عن تطلعات المجتمع المدني بكافة مؤسساته، ولأنه يعبر عن طموح الشعب الذي أقره سلفًا وجعل من أحكامه محددات لشكل الهيئات السياسية التي يقبل بها كمشاريع لتحقيق طموح أفراد المجتمع. ومن هنا لا بد من أن يحظى الدستور بموافقة الشعب من خلال طريقة تعبر عن الشعب كانتخاب جمعية تأسيسية لوضعه، أو من خلال استفتاء الشعب عليه. فالدستور يجب أن يكون "ميزانًا للتعبير عن حقوق ومصالح الكيان الوطني، وعن إرادة نشأة دولة المؤسسات، والفصل بين السلطات"(14). وعليه فكل دستور ديمقراطي يجب أن يتضمن المبادئ الأساسية للديمقراطية؛ كمبدأ التعددية السياسية، ومبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ المساواة بين المواطنين.
كما "يجب أن تكون لغة الدستور سهلة الفهم من ثبل غالبية الشعب؛ فلا يجب أن يكون الدستور معقدًا أو غامضًا لدرجة أن المحامون أو النخب الأخرى فقط تستطيع فهمه"(15).
(2) مبدأ ضمان الحقوق والحريات العامة:
إن أهم ما تطمح إليه الديمقراطية المعاصرة هو التوفيق بين إعطاء أكبر مقدار ممكن من حريات الإنسان وحقوقه جنبًا إلى جنب مع متطلبات فرض النظام والقانون. ولا يمكن أن تتكون ديمقراطية حقيقية وﻻ يمكن للشعب فيها أن يصبح ممارسًا ﻟﻠﺴﻴﺎدة ومصدرًا للسلطات وللقانون دون أن يكون ذلك الشعب متمتعًا بحقوقه الأساسية وبخاصةً اﻟﺤﻘﻮق المدنية والسياسية. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتضمن الدستور الديمقراطي مبدأ تعزيز مجموعة الحريات السياسية التي تؤدي إلى إضفاء قيمة حركية على المجتمع.
ومن هنا لا تخلو دساتير الدول الديمقراطية من التأكيد على تعزيز حقوق الإنسان وحرياته بشكل يتوافق مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وعليه لا يمكن نزع حقوق الإنسان عن أفراد المجتمع تحت أي ظرف من الظروف. ومن أهم الحريات التي يجب أن يقوم عليها النظام الديمقراطي ويؤسس لها الدستور حق التعبير عن الرأي؛ "فلكل فرد أو جماعة حق التعبير عن آرائهم بمقتضى الحرية الممنوحة لهم بضمانات قانونية، ومن ضمنها حرية الصحافة، والبحث العلمي، والحق في الاختلاف، وبدون ذلك يصعب تصور نظام ديمقراطي"(16).
كما تستوجب الديموقراطية التأسيس لمفاهيم ومبادئ تحمي حقوق الأقليات والأفراد. ومن أهم الحقوق السياسية للأقليات والأفراد: (حرية الرأي، التعبير، التجمع، التظاهر، التنظيم الحزبي)، الحقوق الدينية، منها: (حرية الاعتقاد، وحرية العبادة)، الحقوق الجنائية، منها: (السلامة من الاعتقال الاعتباطي، وافتراض البراءة، وتحريم العقاب الجماعي، والتساوي أمام القانون)، الحقوق المدنية، منها: ( حرية التنقل، وحقوق الملكية، وتحريم التميِيز العنصري أو الديني أو القبلي)، الحقوق الاقتصادية، ومنها: (حق العمل، وحقوق الاستثمار، وحق اختيار المهنة، وحق الحصول على الرعاية الصحية أو التعليم أو السكن). وهذه مفاهيم ومبادِئ مصممة لمنع الأكثرية من اضطهاد الأقليات والأفراد والطغيان عليها(17).
والصحافة مثلاً أصبحت بحق تمثل سلطة رابعة داخل الدولة كما يرى كثيرون. وقد زاد تأثيرها واتسع بفضل التقنية الحديثة في ظل ثورة المعلومات والاتصال المعاصرة. وهنا يجب أن نشير إلى أن منح الحريات باعتباره حقًا إنسانيًا أصيلاً لكل المواطنين لا يعني الانفلات أو الفوضوية التي تكتسح في طريقها كل القيم والتقاليد، بل يجب أن يكون هناك توفيق بين منح الحريات والمحافظة عليها، وبين وضع قواعد تنظيمية ومجتمعية تحدد هذه الحريات وتضمن عدم انفلاتها. ويجب أن نعي أن "أشد الدول الديمقراطية تضع حدودًا لحريات الأفراد دون أن يُقصد من ذلك القضاء على الحريات أو التقليل من شأنها، بل تنظيمها بغية الحفاظ على مصالح الجماعة وحقوق الآخرين والنظام العام"(18).
(3) إقرار مبدأ المشاركة والتعددية السياسية:
تقوم فكرة المشاركة السياسية على مبدأ مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، ومبدأ العدالة في توزيع السلطة، كما تنشأ أساسًا من إرساء مبدأ أن لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه، وفي طرح هذا الرأي على مستوى إدارة الدولة، وحقه في اختيار من يمثله.
وبهذا المعنى؛ فالمشاركة السياسية هي تلك العملية التي يلعب الفرد من خلالها دورًا في الحياة السياسية لمجتمعه وتكون لديه الفرصة لأن يسهم في مناقشة الأهداف العامة لذلك المجتمع، وتحديد أفضل الوسائل لإنجازها. وقد تتم هذه المشاركة من خلال أنشطة سياسية مباشرة أو غير مباشرة. "وتقوم فكرة المشاركة السياسية على ضرورة امتلاك المواطنين ـ أفرادًا وجماعات ـ الحد الأدنى من مصادر الاستقلال الاقتصادي، والتصرف الاجتماعي، والفعل السياسي، وذلك من خلال تأمين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية"(19).
إذن فللمشاركة السياسة والتعددية فيها آليات ومصادر يجب أن يسعى النظام الديمقراطي إلى حصول المواطنين عليها. ومن أهم هذه المصادر؛ الحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتشمل: تقارب مستويات الدخل والثروة والتعليم والرعاية الصحية، والحق في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساواة في الفرص دون تمييز. ويتطلب ذلك إقرار الحد الأدنى للأجور، والضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل والعاجزين عنه والمتقاعدين. كما يتطلب إقرار حق العمل، وتنمية فرص العمل المنتجة المجزية اقتصاديًا، وتأهيل المواطنين ذكورًا وإناثًا من حيث التعليم والتدريب وتنمية الموارد البشرية للقيام بالوظائف المنتجة المجزية اقتصاديًا في مجالات الإنتاج السلعي والخدمي في القطاع الخاص والعام.
ويمكن أن يتحقق هذا الهدف من خلال ربط المكافأة بالجهد والإنتاجية، وتوجه الثروة في القطاع الخاص والعام لأداء وظيفتها الاجتماعية، والقضاء على المصادر غير المشروعة لتكوين الثروات الاستفزازية، واستخدام السلطة للاستحواذ على المال العام، ويوضع حد للفساد المالي والإداري والسياسي وخاصةً فساد متخذي القرار المناط بهم رعاية المصلحة العامة وحمايتها المفترضين.
وإلى أن تمتلك الكثرة من المواطنين الحد الأدنى من مصادر المشاركة السياسية الفعَّالة، وتتوفر لها الوسائل التنظيمية للتعبير عن مصالحها وتنمية قدرتها على اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة لما فيه تحقيق مصالحها، تبقى الديمقراطية مهددة بأن تكون ممارسة للإقصاء والاحتواء، تسيرها إرادة الحاكم الفرد ومصالح القلة الحاكمة والقوى الخارجية الداعمة لاستمرار السلطة.
ويرتبط بمبدأ التعددية السياسة بإنشاء الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، وترك الحرية لهذه الأحزاب لممارسة العمل السياسي السلمي دون تدخل في شؤونها أو محاولة لفرض رقابة مشددة عليها من الناحية التنظيمية. ومن المعروف أن الأحزاب السياسية "تتشابه مع بعضها البعض في كافة بلدان العالم، حيث تنتمي هذه الأحزاب السياسية في العالم أجمع إلى أفكار ذات جذور مشتركة؛ تحررية أو شيوعية أو ديمقراطية اجتماعية. ويُعد إنشاء حزب سياسي مسألة شديدة السهولة، ولكن الأمر العسير هو القدرة على البقاء"(20).
كما تتطلب التعددية الإقرار والاعتراف بحق القوي السياسية والاجتماعية في الدولة في تنظيم نفسها بالشكل الذي يخدم مصالح الأمة، وعدم وضع قيود على تكوينها وممارستها لأنشطتها، بغض النظر عن هويتها وعقيدتها التي تقود إلى التعددية السياسية التي تُبنى على ممارسة الحقوق المدنية، وحرية التعبير وعن حق تأسيس الكيانات التي تشملها الحقوق المدنية والسياسية. كما تعتبر تعبيرًا ضمنيا عن إرادة كسر احتكار المجال السياسي من قبل فريق دون آخر، وتحويل الممارسة السياسية إلى شأنٍ عام، وتحويل العمل السياسي إلى حق عمومي.
إن تكوين هذه الأحزاب وعملها في حرية تامة هو الضمانة الحقيقية للديمقراطية؛ "إذ تلعب الأحزاب دورًا أساسيًا في تقويم السلطة، وكشف أخطائها، وردها إلى جادة الصواب. كما أن الأحزاب السياسية تُعد مدارس حقيقية لتثقيف الشعب وتنويره وتبصيره"(21).
ومن ناحيةٍ أخرى فإن تعدد الأحزاب السياسية يمنح الشعب القدرة على الاختيار من بين اتجاهات فكرية متعددة رؤى مختلفة، كما يمنحه القدرة على المقارنة بين أهداف هذه الأحزاب وسياستها المختلفة. وبالتالي يختار كل فرد الأقرب إلى فكره، والأكثر تأثيرًا فيه، والذي يشعر أنه قادر على تحقيق تطلعاته وطموحاته. "فيكون اختياره في الانتخابات مؤسسًا تأسيسًا صحيحًا. ولكي يتحقق ذلك يلزم تعدد الأحزاب السياسية ذات البرامج المتعددة والمتباينة"(22).
(4) إقرار مبدأ التداول على السلطة:
إن الانتقال السلمي للسلطة على وفق مبدأ تداول السلطة هو جوهر العملية الديمقراطية، وهو الجانب الإيجابي الذي يثري العملية السياسية ويؤسس لعملية الإصلاح السياسي المستمرة. ولا تقوم فلسفة الديمقراطية إلا باعتماد مبدأ التداول السلمي على السلطة. ويستلزم مبدأ التعاقب التعددية السياسية، كما يؤسس في ذات الوقت لمبدأ سيادة حكم الأغلبية. "إن الديمقراطية تجعل من المشاركة في الحياة السياسية حقًا لكل مواطن يساهم من خلاله في الوصول إلى حكم الأغلبية الذي تستلزمه الديمقراطية"(23).
وهذا المبدأ يتيح التداول على السلطة من لدن القوى التي يرشحها الفرز الانتخابي لإدارة الدولة؛ إذ أن الديمقراطية إضافةً لكونها نصًا دستوريًا، وحق في التعبير والتنظيم والتمثيل والمشاركة، فهي أيضًا حق في إدارة السلطة، وهو ما يقرره الشعب بإرادته الحرة التي تعبر عنها الانتخابات"(24).
إن التعددية التي فرضها مبدأ التعاقب على السلطة يفضي إلى علاقة تفاعلية بين الحاكمين والمعارضة من جهة، وبين الشعب والحكومة من جهةٍ أخرى. الأمر الذي يجعل من حركة الإصلاح السياسي ممكنة في إطار العملية الديمقراطية، وهو الضمانة الأكبر بعدم حصول حكم فردي أو دكتاتوري؛ فهو القاعدة الأساسية التي تحول بين قيام النظام الدكتاتوري من رحم العملية الديمقراطية الإجرائية.
ومن جهةٍ أخرى يُعد التداول السلمي على السلطة مظهر توحد بين الأفكار والاتجاهات الحزبية المختلفة؛ فالجميع سيجعل من رضا الناس الهم الأكبر كي يصلوا إلى سدة الحكم. وهذه العملية في حد ذاتها مظهر قوة تُحسب لصالح الشعب. ولعل تضمين الدستور لهذا المبدأ هو من باب الحفاظ على النظام الديمقراطي من احتمال الاستئثار بالسلطة من قبل الأغلبية الحاكمة على حساب الأقليات المحكومة.
ومن أهم الأمور التي تدخل في مبدأ تداول السلطة وتؤرخ له مبدأ المساءلة الاجتماعية. والمساءلة الاجتماعية هي "أسلوب إدارة يُشرك المواطنين ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وغيرها من الأطراف غير الحكومية في محاسبة الحكومة عن قراراتها وأفعالها، ولا سيما فيما يتعلق باستخدام الموارد العامة وإدارتها. وهي وسيلة تدفع الحكومة إلى العمل بمزيد من الكفاءة من أجل مواطنيها، بالسماح لهم بالتعبير عن آرائهم، وإتاحة الفرص أمامهم كي يعرضوا احتياجاتهم بوضوح، ويراقبوا أفعال الحكومة"(25).
إن أي دستور ديمقراطي لا بد أن يؤسس لعملية التداول السلمي لتكون المعيار الأكبر الذي يميز النظام الديمقراطي عن غيره من الأنظمة السياسية، والذي بموجبه تُمنح الأقليات دورًا فعالاً إلى جانب الأغلبية في عملية صنع القرار. كما أنه "لا يمكن الحديث عن وجود نظام ديمقراطي في غياب انتخابات نزيهة وشفاف؛ فالانتخابات غدت من الوسائل الناجعة لتعميق المسألة الديمقراطية"(26).
إن التداول الدستوري للسلطة يؤسس لقضية انتهاء ولاية الحزب الحاكم خلال فترة زمنية معينة؛ فتتحول السلطات الممنوحة من الشعب من خلال الدستور إلى الحزب الذي يرشحه الشعب من خلال صناديق الاقتراع، فتعطى الصلاحيات دستوريًا إلى الحزب الذي فاز بثقة أغلبية الشعب، وعادةً تكون الولاية مؤقتة للحزب الفائز.
كما يعتبر هذا التداول من أهم الأسس التي تستند إليها نظم التعددية السياسية الحزبية لكونها تكفل عبر الانتخابات الدورية الحرة التداول السلمي على السلطة. فتداول السلطة إذن يعني إتاحة الفرص المتكافئة والمتساوية لجميع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى للاتصال بالقواعد الجماهيرية وممارسة نشاطها بالشكل الذي يمكنها من القيام بوظائفها في التمثيل والتعبير الحر عن مطالب ومصالح القوى المختلفة سعيًا للوصول إلى قمة الهرم في الحكم.
هوامش المبحث الأول
(1) عبدالوهاب حميد رشيد، التحول الديموقراطي في العراق: المواريث التاريخية والأسس الثقافية والمحددات التاريخية، (بيروت: مركز مركز دراسات الوحدة العربية، 2006م)، ص134.
(2) نضال العضايلة، الديموقراطية وأدوات المشاركة السياسية، (الكرك: مركز يزيد، 2004م)، ص29.
(3) عبدالوهاب حميد رشيد، مرجع سبق ذكره، ص134.
(4) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص29.
(5) عبدالوهاب حميد رشيد، مرجع سبق ذكره، ص135.
(6) محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي، المحور: اليسار، الديموقراطية والعلمانية في مصر والسودان، (موقع الحوار المتمدن، العدد: 2473، 22/11/2008م).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=%20154134
(7) عبدالوهاب حميد رشيد، مرجع سبق ذكره، ص134، 135.
(8) جين شارب، من الديكتاتورية إلى الديموقراطية: إطار تصوري للتحرر، ترجمة: خالد دار عمر، (بوسطن: مؤسسة ألبرت أينشتاين، 2003م)، ص57.
(9) محمد محيي الدين، تقرير موجز حول التجارب الدولية والدروس المستفادة والطريق قدمًا، ترجمة: سامح رجب، (القاهرة: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المنتدى الدولي لمسارات التحول الديموقراطي، حزيران/2011م)، ص10.
(10) جين شارب، مرجع سبق ذكره، ص58.
(11) المرجع السابق، ص58.
(12) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص37.
(13) أحمد صابر حوحو، مبادئ ومقومات الديمقراطية، مجلة المفكر،العدد: (5)، (سكرة، الجزائر: كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر، د. ت)، ص328.
(14) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص67.
(15) جين شارب، مرجع سبق ذكره، ص58.
(16) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص37.
(17) محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي، مرجع سبق ذكره.
(18) أحمد صابر حوحو، مرجع سبق ذكره، ص333.
(19) المرجع السابق، ص335.
(20) محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي ، مرجع سبق ذكره، ص33.
(21) أحمد صابر حوحو، مرجع سبق ذكره، ص336.
(22) المرجع السابق، ص336.
(23) المرجع السابق، ص335.
(24) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص38.
(25) إنغر أندرسن، مساندة المساءلة الاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: دروس مستفادة من التحولات السياسية والاقتصادية السابقة، (واشنطن: البنك الدولي، إدارة التنمية المستدامة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نوفمبر/ 2011م)، ص12.
(26) حسين بهاز، التجربة الانتخابية والتحول الديموقراطي في أوروبا الشرقية: دراسة حالة يوغسلافيا سابقًا وأوكرانيا، مجلة دفاتر السياسة والقانون (ورقلة: جامعة قاصدي مرباح، أبريل/ 2011م)، ص135.
المبحث الثاني
في
بولندا
المطلب الأول: الموقع الجغرافي:
يُطلق على بولندا رسميًا "(الجمهورية البولندية) ابتداءًا من 19 تموز 1989م، وكانت قبل هذا التاريخ، أي منذ 1945م (جمهورية بولندا الشعبية)، يُقال لها أيضًا (بولونيا) ترجمة لاسمها بالفرنسية"(1). وتقع بولندا شمال غربي أوروبا، و"تشكل عن طريق حدودها الشرقية الحد الشرقي للاتحاد الأوروبي في 1163 كيلو متر، وهو أطول الحدود البرية للاتحاد الأوروبي (يبلغ إجمالي طول الحدود القومية لبولندا 3511 كم)"(2).
"ومن الناحية الجغرافية؛ فإن بولندا تُصنف التاسعة على مستوى أوروبا والسادسة على مستوى دول الاتحاد الأوروبي من حيث الحجم الذي يبلغ 312679 كم2. ويجاورها من الدول ألمانيا من الجهة الغربية، الجمهورية التشيكية وسلوفاكيا من الجهة الجنوبية، أوكرانيا وبيلاروسيا من الجهة الشرقية، ليتوانيا وإقليم روسيا كالينينغراد من الجهة الشمالية الشرقية. وتنتمي بولندا إلى المنطقة الزمنية الخاصة بمنتصف أوروبا، مما يعني توقيت GMT + 1 ساعة، ما عدا الفترة بين مارس وأكتوبر فإنه يتم تغيير التوقيت إلى التوقيت الصيفي (لزيادة الفترة الزمنية لضوء النهار)"(3).
أما بالنسبة للارتفاع عن سطح البحر فترتفع بولندا حوالي 173 مترًا عن سطح البحر، ما عدا 3% من مساحة أرضها على الحدود الجنوبية فترتفع أكثر من 500 متر عن سطح البحر. وتتغير طبيعة الأرض نسبيًا بتغيير المنطقة، فتمتد على هيئة أحزمة من الشرق إلى الغرب. أما عن منطقة سواحل بحر البلطيق فتعتبر منطقة منخفضة نسبيًا، وهي من أملس وألطف الأراضي البولندية، ويمثل الخط الساحلي حدودها الشمالية، وهي عبارة عن آلاف الكيلومترات من الشواطئ الرملية التي يكملها البحيرات الساحلية وجبال الرمال مع الشواطئ الصخرية (4).
وتُعد الأراضي البولندية بصفةٍ عامة سهل يمتد من بحر البلطيق في الشمال إلى جبال الكارباتا جنوبًا. وبهذا تتضح لنا الأهمية الجغرافية لموقع بولندا التي تتوسط أوروبا، وتتخذ حدودًا برية طويلة، ولها حدود جغرافية مع العديد من الدول، كما أن لها سواحل تمتد لمسافات كبيرة مما يزيد من أهميتها القتصادية والسياسية على حدٍ سواء ويُضفي على تجربتها في التحول الديموقراطي خصوصية كبيرة باعتبار الجمهورية البولندية قلب أوروبا استنادًا إلى موقعها المركزي في أوروبا.
المطلب الثاني: نبذة عن تاريخ بولندا:
أولاً: بولندا حتى الحرب العالمية الثانية:
أكثر الظن "أن قبائل البولان السلافية تعود بجذورها إلى آسيا الوسطى، وأنها أقامت في أوروبا الشرقية بين القرن الخامس والقرن السابع الميلادي. وفي القرن العاشر تزوج زعيم هذه القبائل، ميسزكو الأول من أميرة من منطقة بوهيميا كانت تعتنق المسيحية. فقبل الدين المسيحي، وتبعته قائله واعتنقت المسيحية. وفي حين كانت روسيا ما زالت تحت التأثير الشرقي، أخذت بولندا بالتأثير من الكنيسة تتجه نحو الغرب"(5).
تشكلت أول دولة بولندية في منتصف القرن العاشر الميلادي. وفي منتصف القرن الثاني عشر الميلادي كانت بولندا قد قُسمت إلى عدة أجزاء، يحكم كل جزء منها أحد النبلاء. وفي نهاية ذلك القرن اجتاحت بولندا شعوب مختلفة. غير أن مستهل القرن الرابع عشر الميلادي شهد توحيد معظم البلاد مرة ثانية تحت مملكة بياست.
"وفي القرون الوسطى كانت بولندا أحد مراكز الإشعاع الثقافي الغربي. وفي نهاية القرن الرابع عشر أصبح اتحاد بولندا وليتوانيا تحت حكم أسرة جاغلون من أهم وأقوى دول أوروبا الغربية. وشكل القرن السادس عشر العصر الذهبي لبولندا؛ إذ وصلت حدودها من البلطيق حتى البحر الأسود، كما لامست أبواب موسكو، فارتفعت الجامعات في مختلف مدن البلاد، وعرفت الكنيسة البولندية نوعًأ من التسامح الديني جعل الكثير من اليهود يلجأون إلى بولندا"(6).
وتم تشكيل أول برلمان وطني بولندي في عام 1493م. وبدأ دور الانحطاط نتيجة الحروب المستمرة وهيمنة النبلاء على البرلمان وتدخلهم في الأمور حتى أخذوا على عاتقهم اختيار الملك.
وفي عام 1772م اتفقت روسيا وبروسيا والنمسا على اقتسام بولندا فيما بينها، ولم تفد التدابير التي اتخذها البولنديون لأجل الإصلاح، إذ خسروا أراضي أخرى استولت عليها روسيا وبروسيا. وحارب البولنديون هاتين الدولتين، ولكنهم هُزموا. واستمرت الدولتان مع النمسا في اقتسام البقية الباقية من البلاد عام 1795م ولم يبق ذكر لدولة بولندية مستقلة(7).
وفي عام 1795م التحق كثير من البولنديين بجيش نابليون؛ لأجل محاربة النمسا وبروسيا. وفي عام 1807م كان نابليون قد استولى على جزء من بولندا كانت تحكمه بروسيا، وشكل فيها دولة بولندية. غير أنه بسقوط نابليون النهائي عادت الدول الثلاث: روسيا وبروسيا والنمسا واقتسمت هذا الجزء من بولندا فيما بينها. استمر الكر والفرّ بين البولنديين ومحتليهم من الروس والبروسيين والنمساويين. وفي القرن التاسع عشر الميلادي أسس البولنديون أحزابًا سياسية، وحصلوا على حكم ذاتي في الجزء الذي كانت تحتله النمسا(8).
"وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م حاربت القوات البولندية إلى جانب النمسا ضد روسيا وأمكن إخراج الروس من بولندا عام 1915م، فأنشأت النمسا وألمانيا مملكة بولندية صغيرة تحت حماية الدولتين"(9).
"وبعد انتصار الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، أعلنت بولندا جمهورية مستقلة وأصبح بلسودسكي أول رئيس للدولة. واستعادت بولندا بموجب معاهدة فرساي جزءًا كبيرًا من أراضيها من ألمانيا، وباشرت الدولة الجديدة معالجة مشاكلها العديدة، ووحدت الأجزاء المبعثرة منها، واستطاعت بناء اقتصادها تدريجيًا خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين الميلادي، غير أنها كانت تواجه تهديدًا مستمرًا من ألمانيا والاتحاد السوفييتي السابق خلال الثلاثينيات"(10).
وفي 1939م هاجم النازيون الألمان بقيادة هتلر بولندا دون إعلان سابق للحرب. وكانت النتيجة أن تقاسمت ألمانيا والاتحاد السوفيتي بولندا. فعاشت البلاد، تحت الحكم النازي، سلسلة من الكوارث لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها. وكان هتلر قد أقسم على إزالتها من الوجود، وقضى على خمس السكان ودمر المدن. ومع ذلك انتظمت مقاومة شعبية داخل بولندا قامت بعمليات عديدة ضد الجيش الألماني. ثم عاد الاتحاد السوفييتي السابق واجتاح بولندا في عام 1944م وطرد الألمان منها، ثم أعلن اعترافه بهيئة التحرير الوطنية البولندية المؤلفة من الشيوعيي(11).
ثانيًا: العهد الحديث:
في عام 1945م تقع بولندا بأكملها تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي نتيجة للحرب العالمية الثانية، ويتفق زعماء الدول المنصرة بالحرب (الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة، وبريطانيا) في مؤتمر يالطا على توسيع حدود بولندا غربًا على حساب ألمانيا وتقليصها شرقًا (مع روسيا البيضاء وأوكرانيا) طبقًا لنسب التوزيع القومي للبولنديين ومواطني هذين البلدين. وقد تجاهل هذا الاتفاق حكومة المنفى البولندية رغم أنها شكلت القوة العسكرية الرابعة ضمن جيوش الحلفاء خلال الحرب، ثم أتى السوفيت بحكومة يقودها حزب العمال البولندي الموحد (الشيوعي) بعد انتخابات مشكوك في نزاهتها(12).
ثالثًا: المعارضة وحكم الشيوعيين:
وقعت بولندا في براثن الاتحاد السوفيتي السابق وذلك من خلال انضمامها لهياكل المعسكر الاشتراكي في ذلك الحين. وخلال فترة جمهورية بولندا الشعبية ظهرت عدة حركات وانتفاضات خلال الخمسينيات ضد الشيوعيين وسياسة الحكومة الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك خلال الستينيات من القرن العشرين الميلادي.
فقد "احتج المثقفون البولنديون على كبت حرية التعبير، ثم ظهرت بوادر النزاع بين الحكومة والكنيسة وتفجرت احتجاجات وإضرابات عمالية في عام 1970م"(13).
وفي منتصف السبعينيات حدث نقص في الأغذية وأعلنت الحكومة رفع الأسعار مما تسبب في قيام الانتفاضات والإضرابات العمالية. وزاد الوضع الاقتصادي سوءًا في أواخر السبعينيات. واعترفت الحكومة على إثر ذلك بنقابة التضامن، وهو تنظيم مؤلف من النقابات غير الشيوعية استطاع أن يساهم بشكل أساسي، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعترف فيها حكومة شيوعية بتنظيم عمالي لا ينتمي إلى الحزب الشيوعي(14).
"وعند تولى الجنرال فويتشيخ ياروزليسكي رئاسة الحكومة كانت المشكلات الاقتصادية مستمرة، والناس ينتظرون الإصلاحات، غير أن ياروزلسكي أعلن الأحكام العرفية سنة 1981م، وأوقف نشاط التضامن واعتقل زعماءها في العام التالي، ثم أفرج عن بعضهم في أواخر ذلك العام، وألغى نقابة التضامن بصورة رسمية، ثم انتهت الأحكام العرفية سنة 1983م، غير أن القيود المفروضة على الحريات العامة ظلت على حالها"(15).
"وقد نجحت حركة التضامن النقابية في بولندا في إجبار نظام النظام الحاكم على إشراكها في الحكم من خلال أول انتخابات حرة جزئيًا في إبريل 1989م أسفرت عن فوز كبير لحركة التضامن التي نالت ولأول مرة اعترافًا رسميًا بوجودها"(16). كما أُعطيت الفرصة لغير الشيوعيين لترشيح أنفسهم لانتخابات مجلس الشيوخ وبقائمة محددة لمجلس النواب. وفي الانتخابات التي جرت بعد ذلك حاز غير الشيوعيين الذين ساندتهم التضامن على جميع مقاعد مجلس الشيوخ ومعظم المقاعد في مجلس النواب، ورأس الحكومة شخص من منظمة التضامن هو تاديووش مازوفييتسكي وهي المرة الأولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي يتولى فيها شخص غير شيوعي رئاسة الحكومة البولندية. "وقامت الحكومة الجديدة بإنهاء السيطرة الشيوعية وبدأت الإصلاحات الاقتصادية. وحل الحزب الشيوعي نفسه عام 1990م ونجح ليخ فاونسا رئيس حركة التضامن في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1990م، فأصبح رئيسًا لبولندا(17).
أما جمهورية بولندا الثالثة فمن الصعب تحديد تاريخ معين لقيامها، ولكن عادةً ما يقال أن التاريخ الفاصل هو شهر ديسمبر من العام 1989م، حيث تم في ذلك الحين إدخال تعديلات دستورية من بينها إعادة شعار الدولة السابق للحقبة الشيوعية وهو نسر أبيض على رأسه تاج، كما تم تغيير اسم الدولة الرسمي من جمهورية بولندا الشعبية إلى جمهورية بولندا. وكان هذا يعني وبشكل رمزي قطع العلاقة مع كل ما له صلة بجمهورية بولندا الشعبية وقيام الجمهورية الثالثة، والتي تُعد المرحلة التالية لسيادة الدولة بعد جمهورية بولندا الثانية التي كانت قائمة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
المطلب الثالث: النظام السياسي الحالي:
منذ العام 1989م، وبولندا تجري انتخابات دورية وحرة وعادلة يعتمد فيها على الاقتراع العام. وتعتبر بولندا جمهورية متعددة الأحزاب، حيث يوجد ببولندا العديد من الأحزاب السياسية والتي نذكر منها: حزب القانون والعدالة، حزب البرنامج المدني، حزب الدفاع عن النفس، حزب تحالف اليسار الديمقراطي، حزب عصبة العائلات البولندية، حزب الفلاحين.
وبولندا تعكس مزيج ما بين النظامين البرلماني والرئاسي. فالنظام الحكومي يقوم على أساس التوازن والفصل بين(18):
(1) السلطات التشريعية: ممثلة في مجلس النواب والجمعية الوطنية.
(2) السلطة التنفيذية: ممثلة في الرئيس ومجلس الوزراء.
(3) السلطة القضائية: ممثلة في المحاكم.
وأهم القوانين البولندية هو الدستور البولندي الذي تم إعادة صياغته عام 1997م. وقد أُصدر في الثاني من إبريل من نفس العام. وهذا الدستور يفصل بين سلطات الدولة، والذى بمقتضاه أصبح لدى بولندا نظامًا أساسيًا متطورًا ينص على التوازن بين كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما أنه كما يقر بأن أساس النظام الاقتصادى فى بولندا هو اقتصاد السوق الحر .وتم عرضه للمصادقة والاستفتاء الوطني قبل إقراره. وسنورد فيما يلي أهم أركان النظام السياسي في بولندا(19).
أولاً: البرلمان:
يتكون البرلمان البولندي من غرفتين(20):
(1) الغرفة السفلى: ما يُطلق عليها في اللغة البولندية لقب السيم Sejm (مجلس النواب)، وتضم 460 نائبًا يتم انتخابهم لمدة أربع سنوات عن طريق الاقتراع النسبي في نظام الانتخابات العامة.
(2) الغرفة العليا: أما هذه فيُطلق عليها في اللغة البولندية لقب السينات Senat (مجلس الشيوخ)، وتضم 100 عضوًا، الذين يتم انتخابهم كل أربع سنوات، وذلك من خلال نظام التصويت بالأغلبية.
وقد حدد الدستور البولندي أنه لا يحدث انعقاد أي جلسة مشتركة بين الغرفتين أو المجلسين إلا في ثلاث حالات فقط(21):
الحالة الأولى: لإصدار دستور جديد.
الحالة الثانية: عندما يحلف الرئيس المنتخب حديثًا اليمين.
الحالة الثالثة: عند توجيه أي اتهام إلى الرئيس الحالي.
"أما السينات (مجلس الشيوخ) فله الحق في أن يشرع القوانين وأن يعترض عليها وينتقضها، ولديه أيضًا حق الموافقة أو الاعتراض على قونين السيم (مجلس النواب)، واقتراح تعديلات لهذه القوانين. لكن على الرغم من هذا فإن اعتراض السينات (مجلس الشيوخ) قد يُقابل بالرفض في حالة اجتماع أغلبية السيم (مجلس النواب) على هذا القرار. لهذا فإن القرار النهائي في أي إجراءات تشريعية يرجع إلى السيم (مجلس النواب). وبالإضافة إلى هذا؛ فالرئيس لديه أيضًا أحقية المبادر التشريعية بإصدار قوانين، ومجلس الوزراء، وأي مجموعة عادية من المواطنيين العاديين بشرط ألا يقل عددهم عن 100000 مواطن"(22).
وبهذا يتضح لنا أن أوى جهة معنية بوضع القوانين وسنها هي السيم (مجلس الشيوخ)، إلا أن الدستور والقانون قد كفل لجهات أخرى اقتراح مبادرات بسن قوانين وتشريعات، وكذلك الاعتراض على القوانين والتشريعات التي يتم طرحها من قبل السيم (مجلس النواب)، ومع ذلك يظل السيم (مجلس النواب) له اليد العليا في هذا الصدد.
ومن جهة أخرة فإنه "بناءً على موافقة السينات (مجلس الشيوخ)، فإن السيم (مجلس النواب) لديه الحق في تعيين عضو مفوض لحماية الحقوق المدنية لمدة خمس سنوات، وهذا العضو عليه عاتق حراسة الحقوق والحريات المدنية للمواطنين البولنديين والمقيمين ببولندا، وعليه أيضًا تطبيق القانون وتطبيق مبادئ الحياة الاجتماعية. وهذا العضو هو عضو مستقل مسئول فقط أمام السيم (مجلس النواب)"(23).
ثانيًا: رئيس الجمهورية:
رئيس الجمهورية في بولندا هو رأس الدولة، ويستحوذ على العديد من السلطات. و"يُنتخب الرئيس عن طريق انتخابات عامة لمدة محدودة قدرها خمس سنوات، ومتاح له تجديد فترة الرئاسة، لكنه لا يستطيع أن يحكم أكثر من فترتين متتاليتين. ويعتبر الرئيس رئيس الحكومة وكذلك المندوب الأسمى الذي يمثل الدولة في الشئون الخارجية، بالإضافة إلى أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو المسئول عن تعيين رئيس الوزراء، كذلك الاختيار من بين المرشحين لرئاسة الوزارات المختلفة ومقابلتهم بعد ترشيح من رئيس الوزراء. هذا بالإضافة إلى أنه لديه القدرة على حل البرلمان في حالة أن يكون البرلمان غير قادر على تشكيل الحكومة أو على الموافقة على مشروع الموازنة العامة للدولة"(24).
"وبغض النظر عن المبادرة التشريعية؛ فإن الرئيس لديه حق الاعتراض على أي قوانين يقرها البرلمان (على الرغم من أن هذا الاعتراض يمكن ألا يؤخذ بعين الاعتبار في حالة أن 3/5 من إجمالي أعضاء السيم (مجلس النواب) يرفضون هذا الاعتراض)"(25).
وفي هذا الصدد فإننا نرى أن هذه السلطات التي يستحوذ عليها الرئيس في النظام البولندي تمثل نوع من المركزية، كما أنها ترسخ لخلق نظام ديكتاتوري جديد. ففي حالة كون الرئيس ينتمي إلى الحزب صاحب الأغلبية في الدولة فإنه يستطيع التحكم في كافة مجريات الأمور من خلال تمرير القوانين والمصادقة عليها. ففي بعض الدول "يرى بعض الأفراد والجماعات في سقوط النظام القمعي فرصة ليصبحوا هم الأسياد الجدد. وقد تختلف دوافع هؤلاء الأفراد والجماعات، ولكن غالبًا ما تكون النتائج متشابهة، بحيث يصبح نظام الحكم الديكتاتوري الجديد أشد بطشًا وتحكمًا من نظام الحكم الديكتاتوري القديم"(26).
والرئيس الحالي لبولندا هو ليخ كاتشينسكي، وقد كان عضو فعال للحركة الديموقراطية التي كانت مضادة للشيوعية في بولندا وفي لجنة الدفاع عن حقوق العمال.
ثالثًا: السلطة القضائية:
"تتمثل أعلى سلطة قضائية في بولندا في المحكمة العليا ويقوم رئيس الجمهورية بتعيين قضاتها بناء على توصية من المجلس الوطني للقضاء لمدة غير محددة، والمحكمة الدستورية التي يختار مجلس النواب قضاتها لمدة تسع سنوات. ويشتمل النظام القضائي أيضاً على محاكم المحافظات ومحاكم الأرياف"(27).
رابعًا: الهيئة العليا للرقابة والتفتيش:
"الهيئة العليا للرقابة والتفتيش هي عبارة عن جمعية لا يمكن بالظبط تصنيفها كتابعة لأي نوع من أنواع السلطة الثلاث الموجودين ببولندا (تشريعية ـ تنفيذية ـ قضائية). ومع ذلك فهي أحد أقدم الجمعيات الموجود في بولندا، وقد وصلت أهمية مهام هذه الجمعية إلى أنها لديها الحق في المراجعة على كافة مؤسسات الدولة بما فيها البنك الأهلي البولندي, الحكومة، والوحدات الإدارية للحكومة المحلية، ومنشآت أخرى، والهيئات والمنظمات غير الحكومية التي تؤدي أو تستقبل عقود الجماهير"(28).
وبالرغم من رأينا الشخصي بأن الرئيس في بولندا لا تزال لديه صلاحيات يجب تقليصها؛ إلا أنني أرى أن بولندا قد خطت خطوات جادة نحو الديموقراطية الحقيقية، وأنها تسير قدمًا إلى الأمام في مجال تحقيق الديموقراطية الشاملة المعززة لحقوق الإنسان وحرياته.
هوامش المبحث الثاني
(1) مسعود الخوند، الموسوعة التاريخية الجغرافية،ج6,(بيروت: الشركة العالمية للموسوعات، 2005م)، ص25.
(2)جى بي ويبر دودارسكي للاستشارات، دليل المستثمر: بولندا كيفية التعامل تجاريًا، (فارشافا، بولندا: الوكالة البولندية للإعلام والاستثمارات الأجنبية، 2009م)، ص43.
(3) المرجع السابق، ص43.
(4) المرجع السابق، ص43.
(5) مسعود الخوند، مرجع سبق ذكره، ص26.
(6) المرجع السابق، ص28.
(7) المرجع السابق، ص28.
(8) المرجع السابق، ص28.
(9) البعثة الدبلوماسية للمملكة العربية السعودية في وارسو ـ بولندا، موقع وزارة خارجية المملكة العربية السعودية، نبذة عن جمهورية بولندا.
http://embassies.mofa.gov.sa).
(10) المرجع السابق.
(11) مسعود الخوند، مرجع سبق ذكره، ص32.
(12) محمد العلي، بولندا: تجربة تغيير، (موقع الجزيرة نت: شبكة الجزيرة الفضائية، 2011م)، ص5.
(13) البعثة الدبلوماسية للملكة العربية السعودية في وارسو، مرجع سبق ذكره.
(14) المرجع السابق.
(15) المرجع السابق.
(16) لاسلو بروست، ثورة قيد التفاوض! هل تجيب تجربة المجر على أسئلة المصريين عن التحول الديموقراطي؟ ترجمة وتقديم وتعليق: عمرو إسماعيل (القاهرة: منتدى البدائل العربي للدراسات، 2012م)، ص3.
(17) البعثة الدبلوماسية للملكة العربية السعودية في وارسو، مرجع سبق ذكره.
(18) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص21.
(19) موقع الهيئة العامة للاستعلامات، معلومات أساسية عن بولندا.
http://www.sis.gov.eg
(20) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص21.
(21) موقع الهيئة العامة للاستعلامات، مرجع سبق ذكره.
(22) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص21.
(23) المرجع السابق، ص21.
(24) المرجع السابق، ص21.
(25) المرجع السابق، ص22.
(26) جين شارب، مرجع سبق ذكره، ص57.
(27) موقع الهيئة العامة للاستعلامات، مرجع سبق ذكره.
(28) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص22.
المبحث الثالث
في
عمليات التحول الديمقراطي في بولندا
المطلب الأول: مراحل التحول الديمقراطي في بولندا:
إن "المتتبع لظاهرة التحول الديموقراطي في العالم يقف أمام ما يسميه عالم السياسة الأمريكي (صمويل هنتجتون) بالموجة الثالثة للديموقراطية، والتي اجتاحت العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث امتد النظام الديموقراطي ليشمل دول أوروبا الغربية كلها، فاسحًا المجال لتحول دول المحور المهزومة إلى الديموقراطية"(1).
وبين العامين 1947م و1989م، سيطرت على بولندا حكومة شيوعية فرضها السوفييت، كانت جزءًا من الكتلة السوفييتية. "ففي مؤتمر مالطا عام 1949م قررت الدول الثلاث: الولايات المتحدة ـ الاتحاد السوفيتيـ بريطانيا إجراء انتخابات حرة في بولندا فور انتهاء العمليات الحربية. وقد جرت هذه الانتخابات في 1947م تحت إشراف الشيوعيين، وقبل الحلفاء بها واعترفوا بحكومة بولندية مؤقتة يسيطر عليها الشيوعيون"(2).
غير أن هذه الحكومات أ والتي عرفت باستبداديتها المطلقة كما في النظم الشيوعية ـ لاقت مقاومة كبيرة من البولنديين، وقد بلغت هذه المقاومة ذروتها في الثمانينات من هذا القرن. ففي العام 1980م اتسع نطاق المطالب العمالية والإضرابات الطلابية في مواجهة سلطة حزب العمال الموحد، "لدرجة دفعت بعض أعضائه إلى الانضمام إلى نقابات التضامن، والمطالبة بتسجيل نقابات خاصة بهم تنتقل إلى رجال الشرطة والجهاز القضائي واتحادات الطلاب والكتاب، وتطالب بمزيد من الإصلاحات. مما دفع اللجنة المركزية للحزب الحاكم إلى تحميل الأمين العام للحزب إدوارد غيريك مسؤولية الأزمة السياسية في البلاد وإقصائه عن منصبه واستبدال تانيسلاف كانيا به"(3).
وكانت بداية الأحداث متزامنة مع الزيادات في الأسعار التي أعلنتها حكومة غيريك. ومع زيادة قوة المعارضة انفجرت الاحتجاجات في بولندا لتشمل في البداية بعض العمال، وتمتد بعدها لسائر مدن ساحل البلطيق، ثم سيليزيا ومدن فروكلاف وأورسوس ووارسو، ولتنتهي باتفاقية غدانسك في 31 أغسطس 1980م، وبعدها بأيام فقط أعلنت استقالة غيريك(4).
بعدها أطلقت نقابة تضامن العمالية ـ التي أنشئت في العام 1980م ـ صراعًا امتد على عقد من الزمن ضد الشيوعية، وقد كان سريًا نظرًا إلى قيام الحكومة بفرض الأحكام العرفية.
"وفي ديسمبر ١٩٨١م، ردت الحكومة على المعارضة التي قادتها حركة التضامن بفرض الأحكام العرفية، وتعليق اتحاد العمال، وحبس العديد من أهم القيادات، وقد فُرض على حركة التضامن حظر بعدها بعام"(5).
غير أن تلك الإجراءات الحكومية لم تحد من سوء الأوضاع، وازدادت الإضرابات بعدها. "وفي ١٩٨٨م، أجبرت الإضرابات على مستوى البلاد الحكومة على فتح حوار مع المعارضة بقيادة حركة التضامن، وأرغمت مقاومة نقابة تضامن العمالية السلطات الشيوعية على الموافقة على إقامة انتخابات برلمانية شبه ديمقراطية في حزيران/ يونيو 1989م"(6). وبهذه الانتخابات أتاحت الحكومة فرصة التنافس على ثلث مقاعد مجلس النواب و100 مقعد في مجلس الأعيان. وقد تمت إعادة النظر فيه على الرغم من تقييد صلاحياته. ويعني ذلك أن ثلثي مقاعد مجلس النواب بقيا في حوزة الشيوعيين والأحزاب التابعة لهم. وكان النظام الحاكم يظن أنه قادر على الاحتفاظ بالأغلبية في هذه المقاعد إضافةً لما يملكه من مقاعد لم تُجرى الانتخابات عليها.
ولقد شملت اتفاقية المائدة المستديرة خطة لإجراء انتخابات نصف ديمقراطية في حزيران/ يونيو 1989م. وعلى الرغم من أن الانتخابات كانت إجراءً روتينيًا هدفه إرغام الجميع على الاقتراع؛ أي الاقتراع للشيوعيين والأحزاب التابعة لهم، إلا أنها حققت نتائج غير متوقعة.
ولقد وافقت الحكومة الشيوعية ـ خلال مفاوضات المائدة المستديرة ـ على إجراء انتخابات نصف ديمقراطية، مع ذلك أجريت الانتخابات في جو من الحرية النسبية، كما أن تدخل الحكومة كان محدودًا في محاولة لإقناع أعضاء "تضامن بأن المائدة المستديرة لم تكن لإسكاتهم، وبأن مشاركتهم فيها لن ترسخ الحكم الشيوعي.
وكانت المفاجأة الكبرى التي فجرتها الانتخابات هي الفوز الكاسح لجبهة تضامن في الانتخابات فقد منحت "الانتخابات التي جرت في ٤ يونيو/ حزيران فوزا كاسحًا للتضامن بلغت نسبته ٩٩ % في مجلس الشيوخ إضافة إلى اكتساح كل المقاعد المخصصة لها في مجلس النواب، كما فاز الجنرال ياروزيلسكي بالرئاسة بأصوات مجلس النواب"(7).
أما من الجهة الأخرى فقد فشل الشيوعيون في الحصول على نسبة 50% من الأصوات الضرورية، ما عنى أن الحكومة كانت تحتاج إلى موافقة تضامن لإجراء جولة أخرى لم تكن الغالبية فيها مطلوبة.
ووافق قادة تضامن على الجولة الثانية، حتى إنهم وافقوا على إبقاء الرئيس ياروزلسكي في منصبه، ملتزمين بذلك باتفاقية المائدة المستديرة.
ولكن ضخامة الخسارة التي مني بها الشيوعيون في الانتخابات تسببت بتخلي أحزابهم التابعة عنهم وبانهيار النظام كله.
وفي أيلول/ سبتمبر من العام 1989م، ألفت كتلة "تضامن" في البرلمان الحكومة الأولى غير الشيوعية مما أسرع انهيار الأنظمة الشيوعية الأخرى في الكتلة.
وفيما يلي يمكن رصد أهم محطات المسار الديموقراطي في بولندا منذ عام 1990م حتى الآن(8):
- 1990: ليشيك باكيروفيتس وزير المالية في حكومة مازوفيتسكي يطبق نموذج (العلاج بالصدمة) لإصلاح الاقتصاد البولندي الذي كان موجهًا من قبل الدولة.
- 1990م: ليخ فاليسا ينتخب أول رئيس بولندا في اقتراع عام في نوفمبر/ تشرين الثاني.
- 1991م: التضامن تجدد فوزها في غرفتي البرلمان في أول انتخابات ديموقراطية كاملة.
- 1993م: الجيش السوفيتي ينسحب من أراضي بولندا.
- 1993م: تحالف اليسار الديموقراطي (الشيوعيون سابقًا) يفوز بالانتخابات التشريعية لكنه يواصل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الموالية للغرب.
- 1995م: مرشح تحالف اليسار الديموقراطي أليكسندر كواشينفسكي يهزم ليخ فالسيا في انتخابات الرئاسة، ويُعاد انتخابه لولاية ثانية عام 2000م حت عام 2005م.
- 1997م: اعتماد دستور جديد لبولندا.
- 1999م: الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي إلى جانب خمس دول من المعسكر الاشتراكي السابق.
- 2004م: الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
- 2005م: حزب القانون والعدالة (المحافظ) يفوز بالانتخابات التشريعية وبانتخابات الرئاسة.
- 2007م: ائتلاف المنتدى المدني (يمين الوسط) يزيح حزب العدالة والقانون المحافظ من الحكم في انتخابات مبكرة.
- 2010م: الرئيس ليخ كاجينسكي يقضي في حادث تحطم طائرة.
- 2011م: انتخابات رئاسية مبكرة يفوز فيها الرئيس المؤقت برونيسلاف كوموروفسكي.
واليوم وبعد انقضاء ما يقارب القرنين على السيادة الأجنبية والاحتلال الذي مارسته قوتان غير ديمقراطيتين، عادت بولندا لتكون مجددًا بلدًا حرًا ومستقلاً.
المطلب الثاني: دور المسلمين البولنديين في التحول الديمقراطي:
كانت بولندا ـ كما ذكرنا ـ واقعة تحت نير الحكم الشيوعي؛ وقد عادى هذا الحكم الشمولي الأديان بصفةٍ عامة، والدين الإسلامي والمسلمين بصفةٍ خاصة. وقد لعب المسلمون البولنديون دورًا هامًا في النضال ضد هذا الحكم القمعي. وإذا كان دور الكنيسة الكاثوليكية في التحول البولندي يمثل حالة خاصة، حيث كان دورها فعالاً كجزء من المعارضة قبل 1989م. وفي 1989م حتى ساد التوقع بأن الكنيسة الكاثوليكية ستلعب دورًا في تشكيل العلاقات بين المواطنين بما أن الحكومة المركزية توقفت عن القيام بهذا الدور. ودور المسلمين لم يكن ليقل عن هذا الدور الوطني للكنيسة؛ فقد عانى المسلمون تحت الحكم الشيوعي الكثير من الاضطهاد والتعذيب. "وكان الحكم الشيوعي أقسى وأشد بالنسبة للمسلمين منه للمسيحيين البولنديين. فمن ناحية بقيت الكنيسة البولندية، ومن ورائها الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة في الفاتيكان، قائمة ترعى مصالح المسيحيين، بينما وجد المسلمون البولنديون أنفسهم بدون ملجأ داخل البلاد أو خارجها"(9).
وفي بولندا يتركز المسلمون في ستة مراكز تاريخية لهم، وهي بلدتا كروشينياني، وبوخونيكي التاريخيتان، بالإضافة إلى العاصمة وارسو. أما التجمعات الأخرى فقد استقروا فيها في العقود الأخيرة، وتتمثل في مدينة جدانسك الواقعة في أقصى الشمال وذات الميناء ذائع الصيت، ومدينة بياوستوك الواقعة شمال شرقي بولندا قرب الحدود مع روسيا، ومدينة شتيتشن وهي مدينة تقع شمال غربي البلاد قرب ألمانيا ومعروفة بمينائها.
وكان الرفض الشيوعي لكل ما هو إسلامي واضح جلي في التصرفات الشيوعي؛ فقد هدم الشيوعيون ودمروا كل المدارس الإسلامية، حتى أن الآباء كانوا يعلمون أولادهم القرآن وبعض الآداب الإسلامية سرًا. واستمرت معاناة المسلمين تحت الحكم العسكري الموالي للشيوعيين؛ ففي خلال "الحكم العسكري الذي دام من سنة 1981م إلى سنة 1983م تعرض عدد من المسلمين البولنديين للاعتقال بسبب تنديدهم بالجرائم الروسية في أفغانستان ولتاييدهم المقاومة الإسلامية في أنحاء الاتحاد السوفيتي"(10).
وكان المسلمون في معاناتهم تحت الحكم الشيوعي يتطلعون إلى التخلص من هذا الحكم، كما كان البولنديون جميعًا يتطلعون للتخلص منه. ومع ظهور حركة تضامن التي قادت النضال ضد الشيوعيين، ظهر المسلمون بكثافة ليشاركوا إخوانهم من المسيحيين البولنديين أعمال المقاومة والنضال. وكانت المشكلة الكبرى لدى المسلمين هي الصورة الذهنية غير الصحيحة التي كونها المسيحيون في بولندا عنهم بفعل التزييف الإعلامي الذي مارسه الشيوعيون ضد الإسلام والمسلمين. وكان على المسلمين أن يقوموا بمحو هذه الصورة السيئة لدى البولنديين؛ "فأنشأ المسلمون عددًا من المراكز الثقافية في البلاد خلال أوج حركة التضامن، وهذه المراكز تُستخدم لنشر الكتب الإسلامية في بولندا والدول المجاورة. وقد ساعدت هذه من خلال الحوار مع المسيحيين على خلق مناخ تفاهم أفضل بين المسلمين والمسيحيين"(11).
وبالفعل نجح المسلمون في محو هذه الصورة الذهنية السيئة ليدخلوا مرحلة أخرى مع المسيحيين البولنديين في التحول الديمقراطي وبناء بولندا الجديدة بعد انهيار الحكم الشيوعي، وليحصلوا على حقوقهم المسلوبة في هذا الحكم. وبعد انهيار الشيوعية في بولندا في أعقاب انتخابات 1989م، بدأ المجتمع المسلم في بولندا ينظم صفوفه، فهناك مفتي عام يشرف على شؤونهم الدينية والثقافية، كما سمحت الحكومة البولندية الجديدة للمسلمين بإنشاء كيان خاص بهم يمثلهم بصورة رسمية اعترفت به وزارة الأديان في بولندا. وتمثل هذا الكيان في""المجلس الإسلامي البولندي الذي ترأسه الشيخ مصطفى غاؤسكي، ومقر المجلس بحسب الدستور البولندي في العاصمة وارسو"(12). وهو كيان قانوني معترف به، وله حق بناء المساجد، وإنشاء المدارس.
وقد أقام المجلس مركزًا إسلاميًا جامعًا في بياليتستوك يشمل مسجدًا، ومدرسة لتعليم القرآن الكريم، وقاعة للمحاضرات، ودارًا للضيافة. وهناك جمعيات إسلامية أخرى في بولندا مثل: اتحاد مسلمي بولندا، ودائرة مسلمي بولندا، واتحاد الطلبة المسلمين البولنديين، والاتحاد البولندي للتتار، والجمعية الإسلامية للتأهيل والثقافة. ولهذه الجمعيات أنشطة تعليمية دينية ودعوية وخيرية. "وتعد مدينة بياليستوك أكبر تجمع للمسلمين داخل بولندا ويوجد هناك آثار إسلامية منها مسجدان أثريان باقيان من العصر العثماني"(13).
وحاليًا فربما تعد المشكلة الساسية للمسلمين في بولندا هي مشكلة الاندماج؛ وقد عانى منها المسلمون في بولندا طويلاً، "إلا أن كمية الاندماج تتحدد بموقع سكن المسلم في بولندا. ففي المناطق الإسلامية لا يتزوجون المسيحيين والمسيحيات مطلقًا، بينما في المدن لا يكتفي الشبان بالزواج من المسيحيات بل يتحولون للمسيحية أيضًا"(14).
وتفضل الأجيال الجديدة من مسلمي بولندا الانتقال من الأرياف إلى المدن بحثًا عن فرص أفضل في الحياة. وقد يبدو للوهلة الأولى أن ارتباط الكثير منهم بالهوية الدينية يقتصر على المناسبات الدينية التي يفضلون إحياءها في بلدانهم الأصلية. وتولي المؤسسات الإسلامية الناشطة مثل جمعية الطلبة المسلمين والجمعية الإسلامية للتأهيل والثقافة عناية خاصة لتعليم الدين الإسلامي واللغة العربية لأبناء المسلمين، ويدير الناشطون المسلمون فصولاً تعليمية في نهاية الأسبوع للأطفال المسلمين من أصول تتارية تضم المئات منهم. وبصورة أخرى يمكننا القول أنه مع التحول الديمقراطي في بولندا، والذي شارك فيه المسلمون فإنهم بدؤوا في استرداد هويتهم كما بدؤوا في استرداد حقوقهم.
المطلب الثالث: مسارات التحول الديمقراطي في بولندا:
لم يكن انهيار الحكم الشيوعي في بولندا سوى بداية لتحول ديمقراطي استلزم عدة سنوات من هذه الدولة حتى استطاعت بناء مؤسسات المجتمع المدني
"دراسـة تقويمـية"
إعـداد:
فيصل فهد المشوح
الطالب بالمستوى الثامن
قسم العلوم السياسية/كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة
الملك سعود
إشـراف:
د.أحمد محمد وهبان
أستاذ العلوم السياسية المشارك
كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة الملك سعود
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى صحبه الأخيار وآله الطيبين الأبرار، وسلم تسليمًا كثيرًا بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
بولندا حاليًا واحدة من الدول السبع والعشرين المكونة للاتحاد الأوروبي، لكنها تتميز عن نظيراتها بالأحداث التي جرت على أرضها خلال القرن العشرين، وكان آخرها فتح الباب أمام التحول الديموقراطي في شرق أوروبا. فقد نجحت حركة التضامن النقابية في بولندا في إجبار نظام النظام الحاكم على إشراكها في الحكم من خلال أول انتخابات حرة جزئيًا في إبريل 1989م أسفرت عن فوز كبير لحركة التضامن التي نالت ولأول مرة اعترافًا رسميًا بوجودها.
وقد اعتمد التحول الديموقراطي في بولندا على مجتمع مدني قوي تحرر بعد قمع أمني طويل، وإصلاحات داخل الأحزاب الحاكمة، ومعارضة تقريبًا موحدة متزامنة مع بروز جيل جديد من الناخبين، حيث أن فوز المعارضة في الانتخابات شكل البداية لعملية تغيير كبرى أفضت إلى الانتقال إلى الديموقراطية.
وهذا لا يعني أن الانتقال من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديموقراطي حقيق أمرًا هينًا، ولكنه أمر في غاية الصعوبة تواجهه العديد من التحديات، كما أنه يتطلب العديد من الأسس والمرتكزات التي يجب أن يُبنى عليها النظام الديموقراطي الجديد.
ولما لموضوع التحول الديموقراطي في بولندا من أهمية كبيرة كتجربة ناجحة، فقد استوجب الدراسة والتفنيد. والدراسة الحالية تحاول التعرف على محطات مقاومة البولنديين السلمية للحكم الشمولي في ثمانينيات القرن الماضي وعملية التحول الديموقراطي نحو دولة ديموقراطية تعددية قائمة على حكم القانون بعد التوافق بين المعارضة ممثلة بحركة التضامن وحزب العمال البولندي الموحد (الشيوعي سابقًا) على تسوية عُرفت بمفاوضات الطاولة المستديرة. وتحاول الدراسة أيضًا التعرف على أبرز التحديات لعملية التحول الديموقراطي هذه وكيفية التعامل معها.
وقد قسمت الدراسة إلى أربعة مباحث، تسبقها مقدمة وتفصيل لخطة الدراسة من مشكلة وأهمية وتساؤلات وأهداف. واختتمت الدراسة بخاتمة تشتمل على أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة.
والله أسأل أن يوفقني لما يحبه ويرضاه، وأن يُسدد الخطا لما فيه الخير والصواب، والله ولي التوفيق والقادر عليه،،،
مشكلة الدراسة:
يمكن صياغة مشكلة الدراسة في التساؤل التالي: ما أهم ملامح التحول الديمقراطي الذي حدث في دولة بولندا ؟
تساؤلات الدراسة:
يتفرع عن التساؤل الرئيس للدراسة مجموعة من التساؤلات الفرعية، التي تحاول الدراسة الحالية الإجابة عنها، وهي:
1) ما هي الديموقراطية؟
2) ما أهم المراحل التاريخية التي مرت بها بولندا؟
3) ما أهم عمليات التحول الديموقراطي في بولندا؟
4) ما أهم التحديات التي تواجه التحول الديموقراطي في بولندا؟
أهداف البحث:
تتعدد أهداف البحث بتعدد محاوره، وتتمثل الأهداف فيما يلي:
1) التعرف على ماهية الديموقراطية.
2) التعرف على بولندا جغرافيًا وتاريخيًا.
3) معرفة أهم عمليات التحول الديموقراطي في بولندا.
4) التعرف على التحديات التي تواجه التحول الديموقراطي في بولندا.
منهج الدراسة:
سيتم استخدام منهج النظم في إعداد هذه الدراسة، وذلك لمعرفة المدخلات التي أدت إلى التحول الديمقراطي في بولندا، وما تبعه من مطالب اقتصادية واجتماعية بعضها كان تحديًا للنظام. وكذلك للتعرف على عمليات التحول السياسي التي حصلت في بولندا، والوقوف على أهم مخرجات النظام البولندي بعد التحول الديمقراطي. ثم أخيراً تقييم التجربة البولندية في التحول الديمقراطي وهل أدت هذه التجربة إلى رضا المجتمع البولندي في التحول للديمقراطية أم لا.
خطة الدراسة:
تم تقسيم الدراسة إلى أربعة مباحث، بحيث يمثل المبحثان الأول والثاني الدراسة النظرية، بينما يمثل المبحثان الثالث والرابع الدراسة التقويمية، وكان التقسيم كالتالي:
المبحث الأول: الديموقراطية؛ ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: مفهوم الديموقراطية
المطلب الثاني: أسس ومرتكزات الديمقراطية
المبحث الثاني: بولندا؛ ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الموقع الجغرافي
المطلب الثاني: نبذة عن تاريخ بولندا
المطلب الثالث: النظام السياسي الحالي
المبحث الرابع: عمليات التحول الديمقراطي في بولندا
المطلب الأول: مراحل التحول الديمقراطي في بولندا
المطلب الثاني: دور المسلمين البولنديين في التحول الديمقراطي
المطلب الثالث: مسارات التحول الديمقراطي في بولندا
المبحث الرابع: تحديات التحول الديموقراطي في بولندا
المطلب الأول: التحديات الاقتصادية
المطلب الثاني: التحديات السياسية
المطلب الثالث: التحديات الاجتماعية
خاتمة؛ تشتمل على أهم نتائج الدراسة
المبحث الأول
في
الديمقراطية
المطلب الأول: مفهوم الديمقراطية:
الديمقراطية لفظة إغريقية بمعنى حكم الشعب، وتعبر عن مفهوم تاريخي اتخذ صورًا وتطبيقات متعددة في سياق تطور المجتمعات والثقافات(1). كما تعني كلمة الديمقراطية "التمتع بحرية الرأي، والفكر، والقول، والفعل في ظل الأسس والأنظمة المعمول بها"(2). وقد تطور هذا المفهوم عبر الزمن حتى تحول إلى حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقلية.
ويرى كثيرون أن "الديموقراطية هي "عملية مجتمعية شاملة وتغييرية وبنائية جذرية في آنٍ واحد. والمقصود هنا بالتغيير المجتمعي الشامل كونه عملية ممتدة لإحداث تحولات عميقة تدريجية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة، وبما يقود إلى تجاوز الاغتراب في ظل المشاركة، وتحريك الفكر المجتمعي للانتقال من مرحلة الانفعال اللحظي إلى مرحلة الفعل التاريخي، ومن رحلة القبول والخضوع للواقع إلى مرحلة تغيير هذا الواقع تغييرًا جذريًا وثوريًا بحسب حاجات المجتمع"(3).
ومن ناحيةٍ ثانية تعددت مفاهيم هذا المصطلح بتعدد النظريات السياسية، وكذا بتعدد الثقافات والمجتمعات، والشعوب، والظروف الموضوعية. ولكن هذا التعدد بدأ يتلاشى بفعل تطور القانون الدولي والسياسة الدولية، بحيث يكاد يُجمع العالم على بعض ملامح الديمقراطية الأساسية.
فبالرغم من أن بعض المنظرين والفلاسفة حاولوا تحويل الأنظمة السياسية في العالم إلى الدكتاتورية بهدف ضمان الأمن الداخلي، إلا أن الديمقراطية مفهوم سياسي تم تدويله بحيث أصبح القانون الدولي ينظم الديمقراطية عبر جوانب مختلفة. فإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب فهذا يعني أن السلطة في العملية الديمقراطية هي سلطة شعبية وشرعية عبر انتخابات وأنها غير دائمة. وبواسطة الشعب؛ تعني ضرورة مشاركة كل الشعب في السلطة باعتبارها حق لهم، ومن أجل الشعب؛ تعني أنه المستفيد الأصلي من السلطة، وهو ما يعني حقه في الرقابة على السلطة.
"وقد ارتبطت الديمقراطية بالحكومات الدستورية من حيث الدلالة السياسية التي تجعل الشعب هو الأساس في عملية صنع القرار"(4).
إن الديمقراطية نظام بموجبه يكون الحكم والإدارة للشعب بوسائل تكفل اختيار الحاكم بحرية تامة، لا يعتريها وجه من وجوه الإكراه المباشر أو غير المباشر، ويمارس فيها الحاكم صلاحياته من خلال مؤسسات وبآليات يحدد مسارها الدستور والقوانين النافذة.
والمفهوم السائد للديمقراطية هو المفهوم الغربي؛ الذي يعني أنها نظام سياسي روحي يهدف إلى تحرير الفرد من سيطرة الملوك والكنيسة، واحترام حقوق الأفراد، ويرتكز على المذهب الفردي الحر. وتقوم الديمقراطية على ركنين، هما: اعتبار الشعب مصدر السلطة الوحيد، والثاني ضمان الحقوق والحريات العامة للأفراد،. ووسيلة إسناد السلطة في الديمقراطية هي الانتخابات.
"ويتمثل جوهر الديموقراطية في توفير وسيلة منهجية لإدارة المجتمع السياسي بغية تطوير فرص الحياة، بما توفره من نظام سلمي للعلاقات الاجتماعية في ظل بنية مؤسسية حضارية تتسم باستمرار تصاعد النمو والكفاءة، وتحمل في مضمونها مبدأ المساواة الذي يتجاوز مفهومه الليبرالي السياسي إلى الاقتراب من التكافؤ الاقتصادي، وتقوم على بناء إرادة المواطنة الفعالة، أي إرادة المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية"(5).
"ولقد اكتسب مصطلح الديمقراطية إيحاءً إيجابيًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى حد دفع بالحكام الدكتاتوريين الشموليين للتشدق بدعم الديمقراطية، وإجراء إنتخابات معروفة النتائج سلفًا. وكل حكومات العالم تقريبًا تدعي الديمقراطية. كما أن معظم الأيديولوجيات السياسية المعاصرة اشتملت ـ ولو على دعم بالاسم ـ على نوع من أنواع الديمقراطية بغض النظر عما تنادي به تلك الأيديولوجيات"(6).
وتأسيسًا على ما تقدم فإن الديموقراطية هي التي "تقوم على مبادئ الحرية التي تجسد قضية إنسانية، وتعبر عن ملكية الإنسان لفكره وإرادته وتمنحه شعور المواطنة، وتعمل على تحرير عقله من القيود والمحرمات والممنوعات"(7).
فالديموقراطية إذن هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائم بالإجمال على التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثرية وحماية حقوق الأقليّات والأفراد. كما أن الديموقراطية الحقيقية تحتاج إلى توافر أحزاب حقيقية تقوم على القيم والمبادئ والوطنية. فرغم الاختلافات والتباينات الإيديولوجية فيما بينها إلا أن جميعها يجب أن يجتمع على قيمة المواطنة الحقيقية التي تسعى بالأساس إلى رفعة الوطن وتعزيزه، وتحسين مستوى الحرية والعدالة الاجتماعية للمواطنين. على أن تكون هذه الديموقراطية محمية بدستور يوضح ويحمي واجبات وحقوق الجميع على كافة المستويات.
المطلب الثاني: أسس ومرتكزات الديمقراطية:
"بعد النجاح في تفكيك الحكم الديكتاتوري من خلال استخدام التحدي السياسي، لابد من اتخاذ إجراءات وقائية حذرة، وذلك لمنع ظهور نظام قمع جديد تولده حالة الفوضى التي تلي حالة القضاء على نظام القمع القديم. وبالتالي فعلى قادة القوى التي تدعم الديموقراطية أن يكونوا على استعداد مسبق للتحول المنظم إلى الديموقراطية، ثم يجب تفكيك الهيكلية الديكتاتورية، ومن ثم بناء الأسس الدستورية والقانونية ومعايير السلوك لديموقراطية قوية"(8).
وبالتالي فإن الديمقراطية ـ كنظام سياسي ـ تقوم على مجموعة من العناصر والمرتكزات الموضوعية والإجرائية التي تكفل تحقيق الديمقراطية، ومن هذه المرتكزات:
(1) الدستور:
"يتطلب الانتقال إلى أي الديمقراطية عقد اجتماعي جديد، والوثيقة الحاكمة لهذا العقد هي الدستور"(9). من هنا تأتي أهمية الدستور من كونه القانون الأسمى للبلاد؛ وهو يحدد نظام الحكم في الدولة، واختصاصات سلطاتها الثلاث، وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي. فالقانون يجب أن يكون متوخيًا للقواعد الدستورية، وكذلك اللوائح يجب أن تلتزم بالقانون الأعلى منها مرتبة، إذا ما كان القانون نفسه متوخيًا القواعد الدستورية(10).
ويعتبر الدستور في أي مجتمع أهم وثيقة سياسية تحدد أنماط العلاقات بين الحكام والمحكومين؛ فهو يشكل عقد اجتماعي يبلور حركة المجتمع للتعبير عن ذاته، في إطار إدراك واعٍ للحقوق والواجبات كتعبير مدرك لحقوق المواطنة المدنية المتساوية.
من هنا أصبحت كل الدول المعاصرة تتطلع إلى دستور ينظم سلطات الدولة، ويحدد اختصاصاتها، ويحدد حقوق وواجبات مواطنيها. وذلك من حيث "فصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها بشكلٍ واضح لكي تبقى الحكومة المركزية ديموقراطية، ويجب تقييد أعمال الشرطة والمخابرات والجيش بشكلٍ قوي يمنع أي تدخل قانوني سياسي"(11).
والأصل في الدستور والقانون ـ بشكلٍ عام ـ هو عملية التنظيم وليس وضع القيود، وتبسيط الإجراءات، حتى يتمكن الجميع من تحقيق مصالحهم. فالموانع والعقوبات التي يقرها الدستور أو القانون إنما تأتي في إطار حماية الحريات العامة وصيانتها وضمان عدم الإخلال بها.
وفي عبارةٍ واحدة تكون القوانين واللوائح غير شرعية إذا خالفت قاعدة دستورية واردة في الوثيقة الدستورية. فالدستور هو "المرجعية الأساسية التي تولد القوانين والمؤسسات، ومن خلاله يكون نشوء السلطة، ومنه أيضًا تُوزع الاختصاصات، ويُمنع الاحتكار، وتُفعل الرقابة"(12).
والدستور هو القانون الأعلى للدولة؛ وفي أي تجربة ديمقراطية يحتل الدستور مكانة راقية كسلطة أعلى تنشأ عنها جميع السلطات. ويصبح الدستور إطارًا عامًا يحدد العلاقة بين المواطنين والعلاقة بين السلطات. فهوالذي يحدد نظام الدولة، وحقوق المواطنين، ويجسد تطلعات الشعب. ولهذا فإن أي تغيير يطرأ على البنية السياسية والاجتماعية أو الاقتصادية للدولة يستتبع حتمًا تبديل دستورها أو تعديله بما يتلائم مع الأوضاع والظروف المستجدة"(13).
ولكي يكون الدستور متماشيًا مع النظام الديمقراطي؛ فلا مفر من تضمين الدستور للمبادئ الديمقراطية التي تقوم على أفكار التعددية، والتناوب على السلطة، والقيم التي تجعل نظام الحكم في خدمة الفرد وليس العكس. ومن هنا لا بد من أن يضمن الدستور التزام الحكام والشعب والمعارضة بمبادئه وأحكامه، لأنه يعبر عن تطلعات المجتمع المدني بكافة مؤسساته، ولأنه يعبر عن طموح الشعب الذي أقره سلفًا وجعل من أحكامه محددات لشكل الهيئات السياسية التي يقبل بها كمشاريع لتحقيق طموح أفراد المجتمع. ومن هنا لا بد من أن يحظى الدستور بموافقة الشعب من خلال طريقة تعبر عن الشعب كانتخاب جمعية تأسيسية لوضعه، أو من خلال استفتاء الشعب عليه. فالدستور يجب أن يكون "ميزانًا للتعبير عن حقوق ومصالح الكيان الوطني، وعن إرادة نشأة دولة المؤسسات، والفصل بين السلطات"(14). وعليه فكل دستور ديمقراطي يجب أن يتضمن المبادئ الأساسية للديمقراطية؛ كمبدأ التعددية السياسية، ومبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ المساواة بين المواطنين.
كما "يجب أن تكون لغة الدستور سهلة الفهم من ثبل غالبية الشعب؛ فلا يجب أن يكون الدستور معقدًا أو غامضًا لدرجة أن المحامون أو النخب الأخرى فقط تستطيع فهمه"(15).
(2) مبدأ ضمان الحقوق والحريات العامة:
إن أهم ما تطمح إليه الديمقراطية المعاصرة هو التوفيق بين إعطاء أكبر مقدار ممكن من حريات الإنسان وحقوقه جنبًا إلى جنب مع متطلبات فرض النظام والقانون. ولا يمكن أن تتكون ديمقراطية حقيقية وﻻ يمكن للشعب فيها أن يصبح ممارسًا ﻟﻠﺴﻴﺎدة ومصدرًا للسلطات وللقانون دون أن يكون ذلك الشعب متمتعًا بحقوقه الأساسية وبخاصةً اﻟﺤﻘﻮق المدنية والسياسية. وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتضمن الدستور الديمقراطي مبدأ تعزيز مجموعة الحريات السياسية التي تؤدي إلى إضفاء قيمة حركية على المجتمع.
ومن هنا لا تخلو دساتير الدول الديمقراطية من التأكيد على تعزيز حقوق الإنسان وحرياته بشكل يتوافق مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وعليه لا يمكن نزع حقوق الإنسان عن أفراد المجتمع تحت أي ظرف من الظروف. ومن أهم الحريات التي يجب أن يقوم عليها النظام الديمقراطي ويؤسس لها الدستور حق التعبير عن الرأي؛ "فلكل فرد أو جماعة حق التعبير عن آرائهم بمقتضى الحرية الممنوحة لهم بضمانات قانونية، ومن ضمنها حرية الصحافة، والبحث العلمي، والحق في الاختلاف، وبدون ذلك يصعب تصور نظام ديمقراطي"(16).
كما تستوجب الديموقراطية التأسيس لمفاهيم ومبادئ تحمي حقوق الأقليات والأفراد. ومن أهم الحقوق السياسية للأقليات والأفراد: (حرية الرأي، التعبير، التجمع، التظاهر، التنظيم الحزبي)، الحقوق الدينية، منها: (حرية الاعتقاد، وحرية العبادة)، الحقوق الجنائية، منها: (السلامة من الاعتقال الاعتباطي، وافتراض البراءة، وتحريم العقاب الجماعي، والتساوي أمام القانون)، الحقوق المدنية، منها: ( حرية التنقل، وحقوق الملكية، وتحريم التميِيز العنصري أو الديني أو القبلي)، الحقوق الاقتصادية، ومنها: (حق العمل، وحقوق الاستثمار، وحق اختيار المهنة، وحق الحصول على الرعاية الصحية أو التعليم أو السكن). وهذه مفاهيم ومبادِئ مصممة لمنع الأكثرية من اضطهاد الأقليات والأفراد والطغيان عليها(17).
والصحافة مثلاً أصبحت بحق تمثل سلطة رابعة داخل الدولة كما يرى كثيرون. وقد زاد تأثيرها واتسع بفضل التقنية الحديثة في ظل ثورة المعلومات والاتصال المعاصرة. وهنا يجب أن نشير إلى أن منح الحريات باعتباره حقًا إنسانيًا أصيلاً لكل المواطنين لا يعني الانفلات أو الفوضوية التي تكتسح في طريقها كل القيم والتقاليد، بل يجب أن يكون هناك توفيق بين منح الحريات والمحافظة عليها، وبين وضع قواعد تنظيمية ومجتمعية تحدد هذه الحريات وتضمن عدم انفلاتها. ويجب أن نعي أن "أشد الدول الديمقراطية تضع حدودًا لحريات الأفراد دون أن يُقصد من ذلك القضاء على الحريات أو التقليل من شأنها، بل تنظيمها بغية الحفاظ على مصالح الجماعة وحقوق الآخرين والنظام العام"(18).
(3) إقرار مبدأ المشاركة والتعددية السياسية:
تقوم فكرة المشاركة السياسية على مبدأ مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، ومبدأ العدالة في توزيع السلطة، كما تنشأ أساسًا من إرساء مبدأ أن لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه، وفي طرح هذا الرأي على مستوى إدارة الدولة، وحقه في اختيار من يمثله.
وبهذا المعنى؛ فالمشاركة السياسية هي تلك العملية التي يلعب الفرد من خلالها دورًا في الحياة السياسية لمجتمعه وتكون لديه الفرصة لأن يسهم في مناقشة الأهداف العامة لذلك المجتمع، وتحديد أفضل الوسائل لإنجازها. وقد تتم هذه المشاركة من خلال أنشطة سياسية مباشرة أو غير مباشرة. "وتقوم فكرة المشاركة السياسية على ضرورة امتلاك المواطنين ـ أفرادًا وجماعات ـ الحد الأدنى من مصادر الاستقلال الاقتصادي، والتصرف الاجتماعي، والفعل السياسي، وذلك من خلال تأمين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية"(19).
إذن فللمشاركة السياسة والتعددية فيها آليات ومصادر يجب أن يسعى النظام الديمقراطي إلى حصول المواطنين عليها. ومن أهم هذه المصادر؛ الحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتشمل: تقارب مستويات الدخل والثروة والتعليم والرعاية الصحية، والحق في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساواة في الفرص دون تمييز. ويتطلب ذلك إقرار الحد الأدنى للأجور، والضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل والعاجزين عنه والمتقاعدين. كما يتطلب إقرار حق العمل، وتنمية فرص العمل المنتجة المجزية اقتصاديًا، وتأهيل المواطنين ذكورًا وإناثًا من حيث التعليم والتدريب وتنمية الموارد البشرية للقيام بالوظائف المنتجة المجزية اقتصاديًا في مجالات الإنتاج السلعي والخدمي في القطاع الخاص والعام.
ويمكن أن يتحقق هذا الهدف من خلال ربط المكافأة بالجهد والإنتاجية، وتوجه الثروة في القطاع الخاص والعام لأداء وظيفتها الاجتماعية، والقضاء على المصادر غير المشروعة لتكوين الثروات الاستفزازية، واستخدام السلطة للاستحواذ على المال العام، ويوضع حد للفساد المالي والإداري والسياسي وخاصةً فساد متخذي القرار المناط بهم رعاية المصلحة العامة وحمايتها المفترضين.
وإلى أن تمتلك الكثرة من المواطنين الحد الأدنى من مصادر المشاركة السياسية الفعَّالة، وتتوفر لها الوسائل التنظيمية للتعبير عن مصالحها وتنمية قدرتها على اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة لما فيه تحقيق مصالحها، تبقى الديمقراطية مهددة بأن تكون ممارسة للإقصاء والاحتواء، تسيرها إرادة الحاكم الفرد ومصالح القلة الحاكمة والقوى الخارجية الداعمة لاستمرار السلطة.
ويرتبط بمبدأ التعددية السياسة بإنشاء الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية، وترك الحرية لهذه الأحزاب لممارسة العمل السياسي السلمي دون تدخل في شؤونها أو محاولة لفرض رقابة مشددة عليها من الناحية التنظيمية. ومن المعروف أن الأحزاب السياسية "تتشابه مع بعضها البعض في كافة بلدان العالم، حيث تنتمي هذه الأحزاب السياسية في العالم أجمع إلى أفكار ذات جذور مشتركة؛ تحررية أو شيوعية أو ديمقراطية اجتماعية. ويُعد إنشاء حزب سياسي مسألة شديدة السهولة، ولكن الأمر العسير هو القدرة على البقاء"(20).
كما تتطلب التعددية الإقرار والاعتراف بحق القوي السياسية والاجتماعية في الدولة في تنظيم نفسها بالشكل الذي يخدم مصالح الأمة، وعدم وضع قيود على تكوينها وممارستها لأنشطتها، بغض النظر عن هويتها وعقيدتها التي تقود إلى التعددية السياسية التي تُبنى على ممارسة الحقوق المدنية، وحرية التعبير وعن حق تأسيس الكيانات التي تشملها الحقوق المدنية والسياسية. كما تعتبر تعبيرًا ضمنيا عن إرادة كسر احتكار المجال السياسي من قبل فريق دون آخر، وتحويل الممارسة السياسية إلى شأنٍ عام، وتحويل العمل السياسي إلى حق عمومي.
إن تكوين هذه الأحزاب وعملها في حرية تامة هو الضمانة الحقيقية للديمقراطية؛ "إذ تلعب الأحزاب دورًا أساسيًا في تقويم السلطة، وكشف أخطائها، وردها إلى جادة الصواب. كما أن الأحزاب السياسية تُعد مدارس حقيقية لتثقيف الشعب وتنويره وتبصيره"(21).
ومن ناحيةٍ أخرى فإن تعدد الأحزاب السياسية يمنح الشعب القدرة على الاختيار من بين اتجاهات فكرية متعددة رؤى مختلفة، كما يمنحه القدرة على المقارنة بين أهداف هذه الأحزاب وسياستها المختلفة. وبالتالي يختار كل فرد الأقرب إلى فكره، والأكثر تأثيرًا فيه، والذي يشعر أنه قادر على تحقيق تطلعاته وطموحاته. "فيكون اختياره في الانتخابات مؤسسًا تأسيسًا صحيحًا. ولكي يتحقق ذلك يلزم تعدد الأحزاب السياسية ذات البرامج المتعددة والمتباينة"(22).
(4) إقرار مبدأ التداول على السلطة:
إن الانتقال السلمي للسلطة على وفق مبدأ تداول السلطة هو جوهر العملية الديمقراطية، وهو الجانب الإيجابي الذي يثري العملية السياسية ويؤسس لعملية الإصلاح السياسي المستمرة. ولا تقوم فلسفة الديمقراطية إلا باعتماد مبدأ التداول السلمي على السلطة. ويستلزم مبدأ التعاقب التعددية السياسية، كما يؤسس في ذات الوقت لمبدأ سيادة حكم الأغلبية. "إن الديمقراطية تجعل من المشاركة في الحياة السياسية حقًا لكل مواطن يساهم من خلاله في الوصول إلى حكم الأغلبية الذي تستلزمه الديمقراطية"(23).
وهذا المبدأ يتيح التداول على السلطة من لدن القوى التي يرشحها الفرز الانتخابي لإدارة الدولة؛ إذ أن الديمقراطية إضافةً لكونها نصًا دستوريًا، وحق في التعبير والتنظيم والتمثيل والمشاركة، فهي أيضًا حق في إدارة السلطة، وهو ما يقرره الشعب بإرادته الحرة التي تعبر عنها الانتخابات"(24).
إن التعددية التي فرضها مبدأ التعاقب على السلطة يفضي إلى علاقة تفاعلية بين الحاكمين والمعارضة من جهة، وبين الشعب والحكومة من جهةٍ أخرى. الأمر الذي يجعل من حركة الإصلاح السياسي ممكنة في إطار العملية الديمقراطية، وهو الضمانة الأكبر بعدم حصول حكم فردي أو دكتاتوري؛ فهو القاعدة الأساسية التي تحول بين قيام النظام الدكتاتوري من رحم العملية الديمقراطية الإجرائية.
ومن جهةٍ أخرى يُعد التداول السلمي على السلطة مظهر توحد بين الأفكار والاتجاهات الحزبية المختلفة؛ فالجميع سيجعل من رضا الناس الهم الأكبر كي يصلوا إلى سدة الحكم. وهذه العملية في حد ذاتها مظهر قوة تُحسب لصالح الشعب. ولعل تضمين الدستور لهذا المبدأ هو من باب الحفاظ على النظام الديمقراطي من احتمال الاستئثار بالسلطة من قبل الأغلبية الحاكمة على حساب الأقليات المحكومة.
ومن أهم الأمور التي تدخل في مبدأ تداول السلطة وتؤرخ له مبدأ المساءلة الاجتماعية. والمساءلة الاجتماعية هي "أسلوب إدارة يُشرك المواطنين ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وغيرها من الأطراف غير الحكومية في محاسبة الحكومة عن قراراتها وأفعالها، ولا سيما فيما يتعلق باستخدام الموارد العامة وإدارتها. وهي وسيلة تدفع الحكومة إلى العمل بمزيد من الكفاءة من أجل مواطنيها، بالسماح لهم بالتعبير عن آرائهم، وإتاحة الفرص أمامهم كي يعرضوا احتياجاتهم بوضوح، ويراقبوا أفعال الحكومة"(25).
إن أي دستور ديمقراطي لا بد أن يؤسس لعملية التداول السلمي لتكون المعيار الأكبر الذي يميز النظام الديمقراطي عن غيره من الأنظمة السياسية، والذي بموجبه تُمنح الأقليات دورًا فعالاً إلى جانب الأغلبية في عملية صنع القرار. كما أنه "لا يمكن الحديث عن وجود نظام ديمقراطي في غياب انتخابات نزيهة وشفاف؛ فالانتخابات غدت من الوسائل الناجعة لتعميق المسألة الديمقراطية"(26).
إن التداول الدستوري للسلطة يؤسس لقضية انتهاء ولاية الحزب الحاكم خلال فترة زمنية معينة؛ فتتحول السلطات الممنوحة من الشعب من خلال الدستور إلى الحزب الذي يرشحه الشعب من خلال صناديق الاقتراع، فتعطى الصلاحيات دستوريًا إلى الحزب الذي فاز بثقة أغلبية الشعب، وعادةً تكون الولاية مؤقتة للحزب الفائز.
كما يعتبر هذا التداول من أهم الأسس التي تستند إليها نظم التعددية السياسية الحزبية لكونها تكفل عبر الانتخابات الدورية الحرة التداول السلمي على السلطة. فتداول السلطة إذن يعني إتاحة الفرص المتكافئة والمتساوية لجميع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى للاتصال بالقواعد الجماهيرية وممارسة نشاطها بالشكل الذي يمكنها من القيام بوظائفها في التمثيل والتعبير الحر عن مطالب ومصالح القوى المختلفة سعيًا للوصول إلى قمة الهرم في الحكم.
هوامش المبحث الأول
(1) عبدالوهاب حميد رشيد، التحول الديموقراطي في العراق: المواريث التاريخية والأسس الثقافية والمحددات التاريخية، (بيروت: مركز مركز دراسات الوحدة العربية، 2006م)، ص134.
(2) نضال العضايلة، الديموقراطية وأدوات المشاركة السياسية، (الكرك: مركز يزيد، 2004م)، ص29.
(3) عبدالوهاب حميد رشيد، مرجع سبق ذكره، ص134.
(4) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص29.
(5) عبدالوهاب حميد رشيد، مرجع سبق ذكره، ص135.
(6) محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي، المحور: اليسار، الديموقراطية والعلمانية في مصر والسودان، (موقع الحوار المتمدن، العدد: 2473، 22/11/2008م).
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=%20154134
(7) عبدالوهاب حميد رشيد، مرجع سبق ذكره، ص134، 135.
(8) جين شارب، من الديكتاتورية إلى الديموقراطية: إطار تصوري للتحرر، ترجمة: خالد دار عمر، (بوسطن: مؤسسة ألبرت أينشتاين، 2003م)، ص57.
(9) محمد محيي الدين، تقرير موجز حول التجارب الدولية والدروس المستفادة والطريق قدمًا، ترجمة: سامح رجب، (القاهرة: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المنتدى الدولي لمسارات التحول الديموقراطي، حزيران/2011م)، ص10.
(10) جين شارب، مرجع سبق ذكره، ص58.
(11) المرجع السابق، ص58.
(12) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص37.
(13) أحمد صابر حوحو، مبادئ ومقومات الديمقراطية، مجلة المفكر،العدد: (5)، (سكرة، الجزائر: كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر، د. ت)، ص328.
(14) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص67.
(15) جين شارب، مرجع سبق ذكره، ص58.
(16) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص37.
(17) محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي، مرجع سبق ذكره.
(18) أحمد صابر حوحو، مرجع سبق ذكره، ص333.
(19) المرجع السابق، ص335.
(20) محمد الفاتح عبدالوهاب العتيبي ، مرجع سبق ذكره، ص33.
(21) أحمد صابر حوحو، مرجع سبق ذكره، ص336.
(22) المرجع السابق، ص336.
(23) المرجع السابق، ص335.
(24) نضال العضايلة، مرجع سبق ذكره، ص38.
(25) إنغر أندرسن، مساندة المساءلة الاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: دروس مستفادة من التحولات السياسية والاقتصادية السابقة، (واشنطن: البنك الدولي، إدارة التنمية المستدامة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نوفمبر/ 2011م)، ص12.
(26) حسين بهاز، التجربة الانتخابية والتحول الديموقراطي في أوروبا الشرقية: دراسة حالة يوغسلافيا سابقًا وأوكرانيا، مجلة دفاتر السياسة والقانون (ورقلة: جامعة قاصدي مرباح، أبريل/ 2011م)، ص135.
المبحث الثاني
في
بولندا
المطلب الأول: الموقع الجغرافي:
يُطلق على بولندا رسميًا "(الجمهورية البولندية) ابتداءًا من 19 تموز 1989م، وكانت قبل هذا التاريخ، أي منذ 1945م (جمهورية بولندا الشعبية)، يُقال لها أيضًا (بولونيا) ترجمة لاسمها بالفرنسية"(1). وتقع بولندا شمال غربي أوروبا، و"تشكل عن طريق حدودها الشرقية الحد الشرقي للاتحاد الأوروبي في 1163 كيلو متر، وهو أطول الحدود البرية للاتحاد الأوروبي (يبلغ إجمالي طول الحدود القومية لبولندا 3511 كم)"(2).
"ومن الناحية الجغرافية؛ فإن بولندا تُصنف التاسعة على مستوى أوروبا والسادسة على مستوى دول الاتحاد الأوروبي من حيث الحجم الذي يبلغ 312679 كم2. ويجاورها من الدول ألمانيا من الجهة الغربية، الجمهورية التشيكية وسلوفاكيا من الجهة الجنوبية، أوكرانيا وبيلاروسيا من الجهة الشرقية، ليتوانيا وإقليم روسيا كالينينغراد من الجهة الشمالية الشرقية. وتنتمي بولندا إلى المنطقة الزمنية الخاصة بمنتصف أوروبا، مما يعني توقيت GMT + 1 ساعة، ما عدا الفترة بين مارس وأكتوبر فإنه يتم تغيير التوقيت إلى التوقيت الصيفي (لزيادة الفترة الزمنية لضوء النهار)"(3).
أما بالنسبة للارتفاع عن سطح البحر فترتفع بولندا حوالي 173 مترًا عن سطح البحر، ما عدا 3% من مساحة أرضها على الحدود الجنوبية فترتفع أكثر من 500 متر عن سطح البحر. وتتغير طبيعة الأرض نسبيًا بتغيير المنطقة، فتمتد على هيئة أحزمة من الشرق إلى الغرب. أما عن منطقة سواحل بحر البلطيق فتعتبر منطقة منخفضة نسبيًا، وهي من أملس وألطف الأراضي البولندية، ويمثل الخط الساحلي حدودها الشمالية، وهي عبارة عن آلاف الكيلومترات من الشواطئ الرملية التي يكملها البحيرات الساحلية وجبال الرمال مع الشواطئ الصخرية (4).
وتُعد الأراضي البولندية بصفةٍ عامة سهل يمتد من بحر البلطيق في الشمال إلى جبال الكارباتا جنوبًا. وبهذا تتضح لنا الأهمية الجغرافية لموقع بولندا التي تتوسط أوروبا، وتتخذ حدودًا برية طويلة، ولها حدود جغرافية مع العديد من الدول، كما أن لها سواحل تمتد لمسافات كبيرة مما يزيد من أهميتها القتصادية والسياسية على حدٍ سواء ويُضفي على تجربتها في التحول الديموقراطي خصوصية كبيرة باعتبار الجمهورية البولندية قلب أوروبا استنادًا إلى موقعها المركزي في أوروبا.
المطلب الثاني: نبذة عن تاريخ بولندا:
أولاً: بولندا حتى الحرب العالمية الثانية:
أكثر الظن "أن قبائل البولان السلافية تعود بجذورها إلى آسيا الوسطى، وأنها أقامت في أوروبا الشرقية بين القرن الخامس والقرن السابع الميلادي. وفي القرن العاشر تزوج زعيم هذه القبائل، ميسزكو الأول من أميرة من منطقة بوهيميا كانت تعتنق المسيحية. فقبل الدين المسيحي، وتبعته قائله واعتنقت المسيحية. وفي حين كانت روسيا ما زالت تحت التأثير الشرقي، أخذت بولندا بالتأثير من الكنيسة تتجه نحو الغرب"(5).
تشكلت أول دولة بولندية في منتصف القرن العاشر الميلادي. وفي منتصف القرن الثاني عشر الميلادي كانت بولندا قد قُسمت إلى عدة أجزاء، يحكم كل جزء منها أحد النبلاء. وفي نهاية ذلك القرن اجتاحت بولندا شعوب مختلفة. غير أن مستهل القرن الرابع عشر الميلادي شهد توحيد معظم البلاد مرة ثانية تحت مملكة بياست.
"وفي القرون الوسطى كانت بولندا أحد مراكز الإشعاع الثقافي الغربي. وفي نهاية القرن الرابع عشر أصبح اتحاد بولندا وليتوانيا تحت حكم أسرة جاغلون من أهم وأقوى دول أوروبا الغربية. وشكل القرن السادس عشر العصر الذهبي لبولندا؛ إذ وصلت حدودها من البلطيق حتى البحر الأسود، كما لامست أبواب موسكو، فارتفعت الجامعات في مختلف مدن البلاد، وعرفت الكنيسة البولندية نوعًأ من التسامح الديني جعل الكثير من اليهود يلجأون إلى بولندا"(6).
وتم تشكيل أول برلمان وطني بولندي في عام 1493م. وبدأ دور الانحطاط نتيجة الحروب المستمرة وهيمنة النبلاء على البرلمان وتدخلهم في الأمور حتى أخذوا على عاتقهم اختيار الملك.
وفي عام 1772م اتفقت روسيا وبروسيا والنمسا على اقتسام بولندا فيما بينها، ولم تفد التدابير التي اتخذها البولنديون لأجل الإصلاح، إذ خسروا أراضي أخرى استولت عليها روسيا وبروسيا. وحارب البولنديون هاتين الدولتين، ولكنهم هُزموا. واستمرت الدولتان مع النمسا في اقتسام البقية الباقية من البلاد عام 1795م ولم يبق ذكر لدولة بولندية مستقلة(7).
وفي عام 1795م التحق كثير من البولنديين بجيش نابليون؛ لأجل محاربة النمسا وبروسيا. وفي عام 1807م كان نابليون قد استولى على جزء من بولندا كانت تحكمه بروسيا، وشكل فيها دولة بولندية. غير أنه بسقوط نابليون النهائي عادت الدول الثلاث: روسيا وبروسيا والنمسا واقتسمت هذا الجزء من بولندا فيما بينها. استمر الكر والفرّ بين البولنديين ومحتليهم من الروس والبروسيين والنمساويين. وفي القرن التاسع عشر الميلادي أسس البولنديون أحزابًا سياسية، وحصلوا على حكم ذاتي في الجزء الذي كانت تحتله النمسا(8).
"وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م حاربت القوات البولندية إلى جانب النمسا ضد روسيا وأمكن إخراج الروس من بولندا عام 1915م، فأنشأت النمسا وألمانيا مملكة بولندية صغيرة تحت حماية الدولتين"(9).
"وبعد انتصار الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، أعلنت بولندا جمهورية مستقلة وأصبح بلسودسكي أول رئيس للدولة. واستعادت بولندا بموجب معاهدة فرساي جزءًا كبيرًا من أراضيها من ألمانيا، وباشرت الدولة الجديدة معالجة مشاكلها العديدة، ووحدت الأجزاء المبعثرة منها، واستطاعت بناء اقتصادها تدريجيًا خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين الميلادي، غير أنها كانت تواجه تهديدًا مستمرًا من ألمانيا والاتحاد السوفييتي السابق خلال الثلاثينيات"(10).
وفي 1939م هاجم النازيون الألمان بقيادة هتلر بولندا دون إعلان سابق للحرب. وكانت النتيجة أن تقاسمت ألمانيا والاتحاد السوفيتي بولندا. فعاشت البلاد، تحت الحكم النازي، سلسلة من الكوارث لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها. وكان هتلر قد أقسم على إزالتها من الوجود، وقضى على خمس السكان ودمر المدن. ومع ذلك انتظمت مقاومة شعبية داخل بولندا قامت بعمليات عديدة ضد الجيش الألماني. ثم عاد الاتحاد السوفييتي السابق واجتاح بولندا في عام 1944م وطرد الألمان منها، ثم أعلن اعترافه بهيئة التحرير الوطنية البولندية المؤلفة من الشيوعيي(11).
ثانيًا: العهد الحديث:
في عام 1945م تقع بولندا بأكملها تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي نتيجة للحرب العالمية الثانية، ويتفق زعماء الدول المنصرة بالحرب (الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة، وبريطانيا) في مؤتمر يالطا على توسيع حدود بولندا غربًا على حساب ألمانيا وتقليصها شرقًا (مع روسيا البيضاء وأوكرانيا) طبقًا لنسب التوزيع القومي للبولنديين ومواطني هذين البلدين. وقد تجاهل هذا الاتفاق حكومة المنفى البولندية رغم أنها شكلت القوة العسكرية الرابعة ضمن جيوش الحلفاء خلال الحرب، ثم أتى السوفيت بحكومة يقودها حزب العمال البولندي الموحد (الشيوعي) بعد انتخابات مشكوك في نزاهتها(12).
ثالثًا: المعارضة وحكم الشيوعيين:
وقعت بولندا في براثن الاتحاد السوفيتي السابق وذلك من خلال انضمامها لهياكل المعسكر الاشتراكي في ذلك الحين. وخلال فترة جمهورية بولندا الشعبية ظهرت عدة حركات وانتفاضات خلال الخمسينيات ضد الشيوعيين وسياسة الحكومة الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك خلال الستينيات من القرن العشرين الميلادي.
فقد "احتج المثقفون البولنديون على كبت حرية التعبير، ثم ظهرت بوادر النزاع بين الحكومة والكنيسة وتفجرت احتجاجات وإضرابات عمالية في عام 1970م"(13).
وفي منتصف السبعينيات حدث نقص في الأغذية وأعلنت الحكومة رفع الأسعار مما تسبب في قيام الانتفاضات والإضرابات العمالية. وزاد الوضع الاقتصادي سوءًا في أواخر السبعينيات. واعترفت الحكومة على إثر ذلك بنقابة التضامن، وهو تنظيم مؤلف من النقابات غير الشيوعية استطاع أن يساهم بشكل أساسي، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تعترف فيها حكومة شيوعية بتنظيم عمالي لا ينتمي إلى الحزب الشيوعي(14).
"وعند تولى الجنرال فويتشيخ ياروزليسكي رئاسة الحكومة كانت المشكلات الاقتصادية مستمرة، والناس ينتظرون الإصلاحات، غير أن ياروزلسكي أعلن الأحكام العرفية سنة 1981م، وأوقف نشاط التضامن واعتقل زعماءها في العام التالي، ثم أفرج عن بعضهم في أواخر ذلك العام، وألغى نقابة التضامن بصورة رسمية، ثم انتهت الأحكام العرفية سنة 1983م، غير أن القيود المفروضة على الحريات العامة ظلت على حالها"(15).
"وقد نجحت حركة التضامن النقابية في بولندا في إجبار نظام النظام الحاكم على إشراكها في الحكم من خلال أول انتخابات حرة جزئيًا في إبريل 1989م أسفرت عن فوز كبير لحركة التضامن التي نالت ولأول مرة اعترافًا رسميًا بوجودها"(16). كما أُعطيت الفرصة لغير الشيوعيين لترشيح أنفسهم لانتخابات مجلس الشيوخ وبقائمة محددة لمجلس النواب. وفي الانتخابات التي جرت بعد ذلك حاز غير الشيوعيين الذين ساندتهم التضامن على جميع مقاعد مجلس الشيوخ ومعظم المقاعد في مجلس النواب، ورأس الحكومة شخص من منظمة التضامن هو تاديووش مازوفييتسكي وهي المرة الأولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي يتولى فيها شخص غير شيوعي رئاسة الحكومة البولندية. "وقامت الحكومة الجديدة بإنهاء السيطرة الشيوعية وبدأت الإصلاحات الاقتصادية. وحل الحزب الشيوعي نفسه عام 1990م ونجح ليخ فاونسا رئيس حركة التضامن في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1990م، فأصبح رئيسًا لبولندا(17).
أما جمهورية بولندا الثالثة فمن الصعب تحديد تاريخ معين لقيامها، ولكن عادةً ما يقال أن التاريخ الفاصل هو شهر ديسمبر من العام 1989م، حيث تم في ذلك الحين إدخال تعديلات دستورية من بينها إعادة شعار الدولة السابق للحقبة الشيوعية وهو نسر أبيض على رأسه تاج، كما تم تغيير اسم الدولة الرسمي من جمهورية بولندا الشعبية إلى جمهورية بولندا. وكان هذا يعني وبشكل رمزي قطع العلاقة مع كل ما له صلة بجمهورية بولندا الشعبية وقيام الجمهورية الثالثة، والتي تُعد المرحلة التالية لسيادة الدولة بعد جمهورية بولندا الثانية التي كانت قائمة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
المطلب الثالث: النظام السياسي الحالي:
منذ العام 1989م، وبولندا تجري انتخابات دورية وحرة وعادلة يعتمد فيها على الاقتراع العام. وتعتبر بولندا جمهورية متعددة الأحزاب، حيث يوجد ببولندا العديد من الأحزاب السياسية والتي نذكر منها: حزب القانون والعدالة، حزب البرنامج المدني، حزب الدفاع عن النفس، حزب تحالف اليسار الديمقراطي، حزب عصبة العائلات البولندية، حزب الفلاحين.
وبولندا تعكس مزيج ما بين النظامين البرلماني والرئاسي. فالنظام الحكومي يقوم على أساس التوازن والفصل بين(18):
(1) السلطات التشريعية: ممثلة في مجلس النواب والجمعية الوطنية.
(2) السلطة التنفيذية: ممثلة في الرئيس ومجلس الوزراء.
(3) السلطة القضائية: ممثلة في المحاكم.
وأهم القوانين البولندية هو الدستور البولندي الذي تم إعادة صياغته عام 1997م. وقد أُصدر في الثاني من إبريل من نفس العام. وهذا الدستور يفصل بين سلطات الدولة، والذى بمقتضاه أصبح لدى بولندا نظامًا أساسيًا متطورًا ينص على التوازن بين كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما أنه كما يقر بأن أساس النظام الاقتصادى فى بولندا هو اقتصاد السوق الحر .وتم عرضه للمصادقة والاستفتاء الوطني قبل إقراره. وسنورد فيما يلي أهم أركان النظام السياسي في بولندا(19).
أولاً: البرلمان:
يتكون البرلمان البولندي من غرفتين(20):
(1) الغرفة السفلى: ما يُطلق عليها في اللغة البولندية لقب السيم Sejm (مجلس النواب)، وتضم 460 نائبًا يتم انتخابهم لمدة أربع سنوات عن طريق الاقتراع النسبي في نظام الانتخابات العامة.
(2) الغرفة العليا: أما هذه فيُطلق عليها في اللغة البولندية لقب السينات Senat (مجلس الشيوخ)، وتضم 100 عضوًا، الذين يتم انتخابهم كل أربع سنوات، وذلك من خلال نظام التصويت بالأغلبية.
وقد حدد الدستور البولندي أنه لا يحدث انعقاد أي جلسة مشتركة بين الغرفتين أو المجلسين إلا في ثلاث حالات فقط(21):
الحالة الأولى: لإصدار دستور جديد.
الحالة الثانية: عندما يحلف الرئيس المنتخب حديثًا اليمين.
الحالة الثالثة: عند توجيه أي اتهام إلى الرئيس الحالي.
"أما السينات (مجلس الشيوخ) فله الحق في أن يشرع القوانين وأن يعترض عليها وينتقضها، ولديه أيضًا حق الموافقة أو الاعتراض على قونين السيم (مجلس النواب)، واقتراح تعديلات لهذه القوانين. لكن على الرغم من هذا فإن اعتراض السينات (مجلس الشيوخ) قد يُقابل بالرفض في حالة اجتماع أغلبية السيم (مجلس النواب) على هذا القرار. لهذا فإن القرار النهائي في أي إجراءات تشريعية يرجع إلى السيم (مجلس النواب). وبالإضافة إلى هذا؛ فالرئيس لديه أيضًا أحقية المبادر التشريعية بإصدار قوانين، ومجلس الوزراء، وأي مجموعة عادية من المواطنيين العاديين بشرط ألا يقل عددهم عن 100000 مواطن"(22).
وبهذا يتضح لنا أن أوى جهة معنية بوضع القوانين وسنها هي السيم (مجلس الشيوخ)، إلا أن الدستور والقانون قد كفل لجهات أخرى اقتراح مبادرات بسن قوانين وتشريعات، وكذلك الاعتراض على القوانين والتشريعات التي يتم طرحها من قبل السيم (مجلس النواب)، ومع ذلك يظل السيم (مجلس النواب) له اليد العليا في هذا الصدد.
ومن جهة أخرة فإنه "بناءً على موافقة السينات (مجلس الشيوخ)، فإن السيم (مجلس النواب) لديه الحق في تعيين عضو مفوض لحماية الحقوق المدنية لمدة خمس سنوات، وهذا العضو عليه عاتق حراسة الحقوق والحريات المدنية للمواطنين البولنديين والمقيمين ببولندا، وعليه أيضًا تطبيق القانون وتطبيق مبادئ الحياة الاجتماعية. وهذا العضو هو عضو مستقل مسئول فقط أمام السيم (مجلس النواب)"(23).
ثانيًا: رئيس الجمهورية:
رئيس الجمهورية في بولندا هو رأس الدولة، ويستحوذ على العديد من السلطات. و"يُنتخب الرئيس عن طريق انتخابات عامة لمدة محدودة قدرها خمس سنوات، ومتاح له تجديد فترة الرئاسة، لكنه لا يستطيع أن يحكم أكثر من فترتين متتاليتين. ويعتبر الرئيس رئيس الحكومة وكذلك المندوب الأسمى الذي يمثل الدولة في الشئون الخارجية، بالإضافة إلى أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو المسئول عن تعيين رئيس الوزراء، كذلك الاختيار من بين المرشحين لرئاسة الوزارات المختلفة ومقابلتهم بعد ترشيح من رئيس الوزراء. هذا بالإضافة إلى أنه لديه القدرة على حل البرلمان في حالة أن يكون البرلمان غير قادر على تشكيل الحكومة أو على الموافقة على مشروع الموازنة العامة للدولة"(24).
"وبغض النظر عن المبادرة التشريعية؛ فإن الرئيس لديه حق الاعتراض على أي قوانين يقرها البرلمان (على الرغم من أن هذا الاعتراض يمكن ألا يؤخذ بعين الاعتبار في حالة أن 3/5 من إجمالي أعضاء السيم (مجلس النواب) يرفضون هذا الاعتراض)"(25).
وفي هذا الصدد فإننا نرى أن هذه السلطات التي يستحوذ عليها الرئيس في النظام البولندي تمثل نوع من المركزية، كما أنها ترسخ لخلق نظام ديكتاتوري جديد. ففي حالة كون الرئيس ينتمي إلى الحزب صاحب الأغلبية في الدولة فإنه يستطيع التحكم في كافة مجريات الأمور من خلال تمرير القوانين والمصادقة عليها. ففي بعض الدول "يرى بعض الأفراد والجماعات في سقوط النظام القمعي فرصة ليصبحوا هم الأسياد الجدد. وقد تختلف دوافع هؤلاء الأفراد والجماعات، ولكن غالبًا ما تكون النتائج متشابهة، بحيث يصبح نظام الحكم الديكتاتوري الجديد أشد بطشًا وتحكمًا من نظام الحكم الديكتاتوري القديم"(26).
والرئيس الحالي لبولندا هو ليخ كاتشينسكي، وقد كان عضو فعال للحركة الديموقراطية التي كانت مضادة للشيوعية في بولندا وفي لجنة الدفاع عن حقوق العمال.
ثالثًا: السلطة القضائية:
"تتمثل أعلى سلطة قضائية في بولندا في المحكمة العليا ويقوم رئيس الجمهورية بتعيين قضاتها بناء على توصية من المجلس الوطني للقضاء لمدة غير محددة، والمحكمة الدستورية التي يختار مجلس النواب قضاتها لمدة تسع سنوات. ويشتمل النظام القضائي أيضاً على محاكم المحافظات ومحاكم الأرياف"(27).
رابعًا: الهيئة العليا للرقابة والتفتيش:
"الهيئة العليا للرقابة والتفتيش هي عبارة عن جمعية لا يمكن بالظبط تصنيفها كتابعة لأي نوع من أنواع السلطة الثلاث الموجودين ببولندا (تشريعية ـ تنفيذية ـ قضائية). ومع ذلك فهي أحد أقدم الجمعيات الموجود في بولندا، وقد وصلت أهمية مهام هذه الجمعية إلى أنها لديها الحق في المراجعة على كافة مؤسسات الدولة بما فيها البنك الأهلي البولندي, الحكومة، والوحدات الإدارية للحكومة المحلية، ومنشآت أخرى، والهيئات والمنظمات غير الحكومية التي تؤدي أو تستقبل عقود الجماهير"(28).
وبالرغم من رأينا الشخصي بأن الرئيس في بولندا لا تزال لديه صلاحيات يجب تقليصها؛ إلا أنني أرى أن بولندا قد خطت خطوات جادة نحو الديموقراطية الحقيقية، وأنها تسير قدمًا إلى الأمام في مجال تحقيق الديموقراطية الشاملة المعززة لحقوق الإنسان وحرياته.
هوامش المبحث الثاني
(1) مسعود الخوند، الموسوعة التاريخية الجغرافية،ج6,(بيروت: الشركة العالمية للموسوعات، 2005م)، ص25.
(2)جى بي ويبر دودارسكي للاستشارات، دليل المستثمر: بولندا كيفية التعامل تجاريًا، (فارشافا، بولندا: الوكالة البولندية للإعلام والاستثمارات الأجنبية، 2009م)، ص43.
(3) المرجع السابق، ص43.
(4) المرجع السابق، ص43.
(5) مسعود الخوند، مرجع سبق ذكره، ص26.
(6) المرجع السابق، ص28.
(7) المرجع السابق، ص28.
(8) المرجع السابق، ص28.
(9) البعثة الدبلوماسية للمملكة العربية السعودية في وارسو ـ بولندا، موقع وزارة خارجية المملكة العربية السعودية، نبذة عن جمهورية بولندا.
http://embassies.mofa.gov.sa).
(10) المرجع السابق.
(11) مسعود الخوند، مرجع سبق ذكره، ص32.
(12) محمد العلي، بولندا: تجربة تغيير، (موقع الجزيرة نت: شبكة الجزيرة الفضائية، 2011م)، ص5.
(13) البعثة الدبلوماسية للملكة العربية السعودية في وارسو، مرجع سبق ذكره.
(14) المرجع السابق.
(15) المرجع السابق.
(16) لاسلو بروست، ثورة قيد التفاوض! هل تجيب تجربة المجر على أسئلة المصريين عن التحول الديموقراطي؟ ترجمة وتقديم وتعليق: عمرو إسماعيل (القاهرة: منتدى البدائل العربي للدراسات، 2012م)، ص3.
(17) البعثة الدبلوماسية للملكة العربية السعودية في وارسو، مرجع سبق ذكره.
(18) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص21.
(19) موقع الهيئة العامة للاستعلامات، معلومات أساسية عن بولندا.
http://www.sis.gov.eg
(20) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص21.
(21) موقع الهيئة العامة للاستعلامات، مرجع سبق ذكره.
(22) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص21.
(23) المرجع السابق، ص21.
(24) المرجع السابق، ص21.
(25) المرجع السابق، ص22.
(26) جين شارب، مرجع سبق ذكره، ص57.
(27) موقع الهيئة العامة للاستعلامات، مرجع سبق ذكره.
(28) جى بي ويبر، مرجع سبق ذكره، ص22.
المبحث الثالث
في
عمليات التحول الديمقراطي في بولندا
المطلب الأول: مراحل التحول الديمقراطي في بولندا:
إن "المتتبع لظاهرة التحول الديموقراطي في العالم يقف أمام ما يسميه عالم السياسة الأمريكي (صمويل هنتجتون) بالموجة الثالثة للديموقراطية، والتي اجتاحت العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث امتد النظام الديموقراطي ليشمل دول أوروبا الغربية كلها، فاسحًا المجال لتحول دول المحور المهزومة إلى الديموقراطية"(1).
وبين العامين 1947م و1989م، سيطرت على بولندا حكومة شيوعية فرضها السوفييت، كانت جزءًا من الكتلة السوفييتية. "ففي مؤتمر مالطا عام 1949م قررت الدول الثلاث: الولايات المتحدة ـ الاتحاد السوفيتيـ بريطانيا إجراء انتخابات حرة في بولندا فور انتهاء العمليات الحربية. وقد جرت هذه الانتخابات في 1947م تحت إشراف الشيوعيين، وقبل الحلفاء بها واعترفوا بحكومة بولندية مؤقتة يسيطر عليها الشيوعيون"(2).
غير أن هذه الحكومات أ والتي عرفت باستبداديتها المطلقة كما في النظم الشيوعية ـ لاقت مقاومة كبيرة من البولنديين، وقد بلغت هذه المقاومة ذروتها في الثمانينات من هذا القرن. ففي العام 1980م اتسع نطاق المطالب العمالية والإضرابات الطلابية في مواجهة سلطة حزب العمال الموحد، "لدرجة دفعت بعض أعضائه إلى الانضمام إلى نقابات التضامن، والمطالبة بتسجيل نقابات خاصة بهم تنتقل إلى رجال الشرطة والجهاز القضائي واتحادات الطلاب والكتاب، وتطالب بمزيد من الإصلاحات. مما دفع اللجنة المركزية للحزب الحاكم إلى تحميل الأمين العام للحزب إدوارد غيريك مسؤولية الأزمة السياسية في البلاد وإقصائه عن منصبه واستبدال تانيسلاف كانيا به"(3).
وكانت بداية الأحداث متزامنة مع الزيادات في الأسعار التي أعلنتها حكومة غيريك. ومع زيادة قوة المعارضة انفجرت الاحتجاجات في بولندا لتشمل في البداية بعض العمال، وتمتد بعدها لسائر مدن ساحل البلطيق، ثم سيليزيا ومدن فروكلاف وأورسوس ووارسو، ولتنتهي باتفاقية غدانسك في 31 أغسطس 1980م، وبعدها بأيام فقط أعلنت استقالة غيريك(4).
بعدها أطلقت نقابة تضامن العمالية ـ التي أنشئت في العام 1980م ـ صراعًا امتد على عقد من الزمن ضد الشيوعية، وقد كان سريًا نظرًا إلى قيام الحكومة بفرض الأحكام العرفية.
"وفي ديسمبر ١٩٨١م، ردت الحكومة على المعارضة التي قادتها حركة التضامن بفرض الأحكام العرفية، وتعليق اتحاد العمال، وحبس العديد من أهم القيادات، وقد فُرض على حركة التضامن حظر بعدها بعام"(5).
غير أن تلك الإجراءات الحكومية لم تحد من سوء الأوضاع، وازدادت الإضرابات بعدها. "وفي ١٩٨٨م، أجبرت الإضرابات على مستوى البلاد الحكومة على فتح حوار مع المعارضة بقيادة حركة التضامن، وأرغمت مقاومة نقابة تضامن العمالية السلطات الشيوعية على الموافقة على إقامة انتخابات برلمانية شبه ديمقراطية في حزيران/ يونيو 1989م"(6). وبهذه الانتخابات أتاحت الحكومة فرصة التنافس على ثلث مقاعد مجلس النواب و100 مقعد في مجلس الأعيان. وقد تمت إعادة النظر فيه على الرغم من تقييد صلاحياته. ويعني ذلك أن ثلثي مقاعد مجلس النواب بقيا في حوزة الشيوعيين والأحزاب التابعة لهم. وكان النظام الحاكم يظن أنه قادر على الاحتفاظ بالأغلبية في هذه المقاعد إضافةً لما يملكه من مقاعد لم تُجرى الانتخابات عليها.
ولقد شملت اتفاقية المائدة المستديرة خطة لإجراء انتخابات نصف ديمقراطية في حزيران/ يونيو 1989م. وعلى الرغم من أن الانتخابات كانت إجراءً روتينيًا هدفه إرغام الجميع على الاقتراع؛ أي الاقتراع للشيوعيين والأحزاب التابعة لهم، إلا أنها حققت نتائج غير متوقعة.
ولقد وافقت الحكومة الشيوعية ـ خلال مفاوضات المائدة المستديرة ـ على إجراء انتخابات نصف ديمقراطية، مع ذلك أجريت الانتخابات في جو من الحرية النسبية، كما أن تدخل الحكومة كان محدودًا في محاولة لإقناع أعضاء "تضامن بأن المائدة المستديرة لم تكن لإسكاتهم، وبأن مشاركتهم فيها لن ترسخ الحكم الشيوعي.
وكانت المفاجأة الكبرى التي فجرتها الانتخابات هي الفوز الكاسح لجبهة تضامن في الانتخابات فقد منحت "الانتخابات التي جرت في ٤ يونيو/ حزيران فوزا كاسحًا للتضامن بلغت نسبته ٩٩ % في مجلس الشيوخ إضافة إلى اكتساح كل المقاعد المخصصة لها في مجلس النواب، كما فاز الجنرال ياروزيلسكي بالرئاسة بأصوات مجلس النواب"(7).
أما من الجهة الأخرى فقد فشل الشيوعيون في الحصول على نسبة 50% من الأصوات الضرورية، ما عنى أن الحكومة كانت تحتاج إلى موافقة تضامن لإجراء جولة أخرى لم تكن الغالبية فيها مطلوبة.
ووافق قادة تضامن على الجولة الثانية، حتى إنهم وافقوا على إبقاء الرئيس ياروزلسكي في منصبه، ملتزمين بذلك باتفاقية المائدة المستديرة.
ولكن ضخامة الخسارة التي مني بها الشيوعيون في الانتخابات تسببت بتخلي أحزابهم التابعة عنهم وبانهيار النظام كله.
وفي أيلول/ سبتمبر من العام 1989م، ألفت كتلة "تضامن" في البرلمان الحكومة الأولى غير الشيوعية مما أسرع انهيار الأنظمة الشيوعية الأخرى في الكتلة.
وفيما يلي يمكن رصد أهم محطات المسار الديموقراطي في بولندا منذ عام 1990م حتى الآن(8):
- 1990: ليشيك باكيروفيتس وزير المالية في حكومة مازوفيتسكي يطبق نموذج (العلاج بالصدمة) لإصلاح الاقتصاد البولندي الذي كان موجهًا من قبل الدولة.
- 1990م: ليخ فاليسا ينتخب أول رئيس بولندا في اقتراع عام في نوفمبر/ تشرين الثاني.
- 1991م: التضامن تجدد فوزها في غرفتي البرلمان في أول انتخابات ديموقراطية كاملة.
- 1993م: الجيش السوفيتي ينسحب من أراضي بولندا.
- 1993م: تحالف اليسار الديموقراطي (الشيوعيون سابقًا) يفوز بالانتخابات التشريعية لكنه يواصل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الموالية للغرب.
- 1995م: مرشح تحالف اليسار الديموقراطي أليكسندر كواشينفسكي يهزم ليخ فالسيا في انتخابات الرئاسة، ويُعاد انتخابه لولاية ثانية عام 2000م حت عام 2005م.
- 1997م: اعتماد دستور جديد لبولندا.
- 1999م: الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي إلى جانب خمس دول من المعسكر الاشتراكي السابق.
- 2004م: الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
- 2005م: حزب القانون والعدالة (المحافظ) يفوز بالانتخابات التشريعية وبانتخابات الرئاسة.
- 2007م: ائتلاف المنتدى المدني (يمين الوسط) يزيح حزب العدالة والقانون المحافظ من الحكم في انتخابات مبكرة.
- 2010م: الرئيس ليخ كاجينسكي يقضي في حادث تحطم طائرة.
- 2011م: انتخابات رئاسية مبكرة يفوز فيها الرئيس المؤقت برونيسلاف كوموروفسكي.
واليوم وبعد انقضاء ما يقارب القرنين على السيادة الأجنبية والاحتلال الذي مارسته قوتان غير ديمقراطيتين، عادت بولندا لتكون مجددًا بلدًا حرًا ومستقلاً.
المطلب الثاني: دور المسلمين البولنديين في التحول الديمقراطي:
كانت بولندا ـ كما ذكرنا ـ واقعة تحت نير الحكم الشيوعي؛ وقد عادى هذا الحكم الشمولي الأديان بصفةٍ عامة، والدين الإسلامي والمسلمين بصفةٍ خاصة. وقد لعب المسلمون البولنديون دورًا هامًا في النضال ضد هذا الحكم القمعي. وإذا كان دور الكنيسة الكاثوليكية في التحول البولندي يمثل حالة خاصة، حيث كان دورها فعالاً كجزء من المعارضة قبل 1989م. وفي 1989م حتى ساد التوقع بأن الكنيسة الكاثوليكية ستلعب دورًا في تشكيل العلاقات بين المواطنين بما أن الحكومة المركزية توقفت عن القيام بهذا الدور. ودور المسلمين لم يكن ليقل عن هذا الدور الوطني للكنيسة؛ فقد عانى المسلمون تحت الحكم الشيوعي الكثير من الاضطهاد والتعذيب. "وكان الحكم الشيوعي أقسى وأشد بالنسبة للمسلمين منه للمسيحيين البولنديين. فمن ناحية بقيت الكنيسة البولندية، ومن ورائها الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة في الفاتيكان، قائمة ترعى مصالح المسيحيين، بينما وجد المسلمون البولنديون أنفسهم بدون ملجأ داخل البلاد أو خارجها"(9).
وفي بولندا يتركز المسلمون في ستة مراكز تاريخية لهم، وهي بلدتا كروشينياني، وبوخونيكي التاريخيتان، بالإضافة إلى العاصمة وارسو. أما التجمعات الأخرى فقد استقروا فيها في العقود الأخيرة، وتتمثل في مدينة جدانسك الواقعة في أقصى الشمال وذات الميناء ذائع الصيت، ومدينة بياوستوك الواقعة شمال شرقي بولندا قرب الحدود مع روسيا، ومدينة شتيتشن وهي مدينة تقع شمال غربي البلاد قرب ألمانيا ومعروفة بمينائها.
وكان الرفض الشيوعي لكل ما هو إسلامي واضح جلي في التصرفات الشيوعي؛ فقد هدم الشيوعيون ودمروا كل المدارس الإسلامية، حتى أن الآباء كانوا يعلمون أولادهم القرآن وبعض الآداب الإسلامية سرًا. واستمرت معاناة المسلمين تحت الحكم العسكري الموالي للشيوعيين؛ ففي خلال "الحكم العسكري الذي دام من سنة 1981م إلى سنة 1983م تعرض عدد من المسلمين البولنديين للاعتقال بسبب تنديدهم بالجرائم الروسية في أفغانستان ولتاييدهم المقاومة الإسلامية في أنحاء الاتحاد السوفيتي"(10).
وكان المسلمون في معاناتهم تحت الحكم الشيوعي يتطلعون إلى التخلص من هذا الحكم، كما كان البولنديون جميعًا يتطلعون للتخلص منه. ومع ظهور حركة تضامن التي قادت النضال ضد الشيوعيين، ظهر المسلمون بكثافة ليشاركوا إخوانهم من المسيحيين البولنديين أعمال المقاومة والنضال. وكانت المشكلة الكبرى لدى المسلمين هي الصورة الذهنية غير الصحيحة التي كونها المسيحيون في بولندا عنهم بفعل التزييف الإعلامي الذي مارسه الشيوعيون ضد الإسلام والمسلمين. وكان على المسلمين أن يقوموا بمحو هذه الصورة السيئة لدى البولنديين؛ "فأنشأ المسلمون عددًا من المراكز الثقافية في البلاد خلال أوج حركة التضامن، وهذه المراكز تُستخدم لنشر الكتب الإسلامية في بولندا والدول المجاورة. وقد ساعدت هذه من خلال الحوار مع المسيحيين على خلق مناخ تفاهم أفضل بين المسلمين والمسيحيين"(11).
وبالفعل نجح المسلمون في محو هذه الصورة الذهنية السيئة ليدخلوا مرحلة أخرى مع المسيحيين البولنديين في التحول الديمقراطي وبناء بولندا الجديدة بعد انهيار الحكم الشيوعي، وليحصلوا على حقوقهم المسلوبة في هذا الحكم. وبعد انهيار الشيوعية في بولندا في أعقاب انتخابات 1989م، بدأ المجتمع المسلم في بولندا ينظم صفوفه، فهناك مفتي عام يشرف على شؤونهم الدينية والثقافية، كما سمحت الحكومة البولندية الجديدة للمسلمين بإنشاء كيان خاص بهم يمثلهم بصورة رسمية اعترفت به وزارة الأديان في بولندا. وتمثل هذا الكيان في""المجلس الإسلامي البولندي الذي ترأسه الشيخ مصطفى غاؤسكي، ومقر المجلس بحسب الدستور البولندي في العاصمة وارسو"(12). وهو كيان قانوني معترف به، وله حق بناء المساجد، وإنشاء المدارس.
وقد أقام المجلس مركزًا إسلاميًا جامعًا في بياليتستوك يشمل مسجدًا، ومدرسة لتعليم القرآن الكريم، وقاعة للمحاضرات، ودارًا للضيافة. وهناك جمعيات إسلامية أخرى في بولندا مثل: اتحاد مسلمي بولندا، ودائرة مسلمي بولندا، واتحاد الطلبة المسلمين البولنديين، والاتحاد البولندي للتتار، والجمعية الإسلامية للتأهيل والثقافة. ولهذه الجمعيات أنشطة تعليمية دينية ودعوية وخيرية. "وتعد مدينة بياليستوك أكبر تجمع للمسلمين داخل بولندا ويوجد هناك آثار إسلامية منها مسجدان أثريان باقيان من العصر العثماني"(13).
وحاليًا فربما تعد المشكلة الساسية للمسلمين في بولندا هي مشكلة الاندماج؛ وقد عانى منها المسلمون في بولندا طويلاً، "إلا أن كمية الاندماج تتحدد بموقع سكن المسلم في بولندا. ففي المناطق الإسلامية لا يتزوجون المسيحيين والمسيحيات مطلقًا، بينما في المدن لا يكتفي الشبان بالزواج من المسيحيات بل يتحولون للمسيحية أيضًا"(14).
وتفضل الأجيال الجديدة من مسلمي بولندا الانتقال من الأرياف إلى المدن بحثًا عن فرص أفضل في الحياة. وقد يبدو للوهلة الأولى أن ارتباط الكثير منهم بالهوية الدينية يقتصر على المناسبات الدينية التي يفضلون إحياءها في بلدانهم الأصلية. وتولي المؤسسات الإسلامية الناشطة مثل جمعية الطلبة المسلمين والجمعية الإسلامية للتأهيل والثقافة عناية خاصة لتعليم الدين الإسلامي واللغة العربية لأبناء المسلمين، ويدير الناشطون المسلمون فصولاً تعليمية في نهاية الأسبوع للأطفال المسلمين من أصول تتارية تضم المئات منهم. وبصورة أخرى يمكننا القول أنه مع التحول الديمقراطي في بولندا، والذي شارك فيه المسلمون فإنهم بدؤوا في استرداد هويتهم كما بدؤوا في استرداد حقوقهم.
المطلب الثالث: مسارات التحول الديمقراطي في بولندا:
لم يكن انهيار الحكم الشيوعي في بولندا سوى بداية لتحول ديمقراطي استلزم عدة سنوات من هذه الدولة حتى استطاعت بناء مؤسسات المجتمع المدني