منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#61453
"لا يبدو أن انخفاض سعر الريال الإيراني سوف يغير من حسابات السياسة الخارجية لطهران."



الرأي السائد بأن انهيار الريال الإيراني سوف تتبعه آثار وخيمة على الجمهورية الإسلامية يقوم على حسابات خاطئة: ولكن على النقيض من ذلك، يمكن أن يكون هذا أفضل شيء يحدث للاقتصاد الإيراني منذ سنوات.

تعتبر إيران مثالاً تقليدياً للعنة الموارد الطبيعية، فقد كان مؤسس "منظمة الدول المصدرة للنفط" [أوپك] خوان بابلو بيريز ألفونسو - الذي تولى منصب وزير النفط في فنزويلا - قد وصف النفط بأنه "براز الشيطان" لما أحدثته عوائد البترول من أثر مدمر على اقتصاد بلاده، ومثل هذا الأمر بات حقيقة واقعة في إيران؛ إذ أنها تواجه التحدي المتمثل بكونها دولة تنتج السلع ولا تستهلكها فحسب. ولسوء الحظ، لا تظهر الحكومة الإيرانية الحالية إلا القليل من المؤشرات على أنها سوف تتغلب على هذا التحدي، بل إن التاريخ يقول إن طهران سوف تستمر في سياستها الشعبوية بما في ذلك مجابهتها للمجتمع الدولي فيما يتعلق ببرنامجها النووي.

من خطأ لخطاً

من الناحية التاريخية كان الاقتصاد الإيراني يتعرض لانتكاس وخلل عند ارتفاع أسعار النفط، والشيء ذاته يحدث في هذا الوقت: فقد أدت زيادة عائدات النفط إلى زيادة الواردات بدلاً من رفع الإنتاج المحلي. ووفقاُ لما توصل إليه "صندوق النقد الدولي" ففي الفترة ما بين 2005 و2010 ارتفعت الواردات بنسبة 50 في المائة - من 43 مليار دولار إلى 67 مليار دولار - بينما زاد الناتج المحلي الإيراني بمعدلات أكثر تواضعاً حيث وصل إلى نسبة 18 في المائة.

وفي الوقت نفسه تأثرت الصناعة الإيرانية بشدة من جراء ارتفاع التكاليف الناجم عن التضخم المحلي، في حين كانت سياسة الحكومة تبقي على انخفاض أسعار الواردات المنافسة - وهي سياسة لاقت نجاحاً في حفظ ثبات الريال حتى نهاية 2010. وقد يكون دعم الريال قد عزز مشاعر الزهو القومي وأدى بالتأكيد إلى تقليل أسعار السلع الاستهلاكية - وهي عوامل مهمة بالنسبة للجمهورية الإسلامية الشعبوية - لكنه ألحق الضرر بالمنتجين المحليين.

ولسنوات كانت التكلفة المنخفضة للطاقة هي العامل الرئيسي الذي أبقى الصناعة الإيرانية حية رغم المنافسة الحاصلة من قلة أسعار الواردات، إذ حظي المصنعون الإيرانيون بميزة هامة على منافسيهم الأجانب من خلال توفر الكهرباء والغاز الطبيعي لهم دون تكلفة تُذكر. وقد استفادت الكثير من الشركات الإيرانية من قلة تكلفة الشحن والنقل - التي هي ناتج ثانوي لتكاليف البنزين المنخفضة.

ولم تكن هذه المزايا دون تكلفة: فقد خلص "البنك المركزي الإيراني" إلى أنه بحلول عام 2007 كانت الإعانات المالية تكلف إيران 88 مليار دولار في السنة، حيث كانت تكاليف الطاقة في إيران تبلغ 10 في المائة من السعر العالمي أو أقل. وكان استخدام عوائد النفط المرتفعة في دعم الطاقة طريقة مكلفة وغير فعالة لمساعدة الإيرانيين، إذ كان من الأجدى اتباع سياسة أكثر حكمة من خلال الاستثمار في البنية التحتية وتحسين التعليم وتوفير القروض للشركات الصغيرة - وكلها سياسات اتبعها شاه إيران قبل أن يستلهم أفكاراً عظيمة من طفرة النفط في السبعينيات. وكنتيجة لذلك نمى الاقتصاد الإيراني في الستينيات بسرعة مماثلة لتلك التي كان ينمو بها الاقتصاد الصيني في العقد الماضي.

وحينما ارتفعت أسعار النفط العالمية بعد 2007 ارتفع على إثرها عبء دعم الطاقة بشكل حاد، فرأى الرئيس محمود أحمدي نجاد عند ذلك فرصة في استغلال ذلك الارتفاع في الأسعار لصالحه، حيث خلص إلى عملية حسابية سياسية بارعة: فبدلاً من دعم البنزين والكهرباء اللتين تفرط الطبقة المتوسطة في استخدامهما - وهي الطبقة التي تبغضه - رفع أسعار الطاقة لتصل إلى أسعار السوق العالمية وأرسل ما يتوفر من أموال في شكل صكوك مصرفية إلى الفقراء - الذين يحوز على دعمهم بالفعل.

كانت هذه خطته؛ لكن بعدما ثارت الطبقة المتوسطة بعد إعادة انتخابه في عام 2009 - تلك الانتخابات التي أسفرت عن نتائج متنازع عليها - راجع خطته التي أصبحت تضمن إرسال صكوك مصرفية إلى أبناء هذه الطبقة أيضاً. وبدلاً من أن يتدرج في الإصلاح فقد قام بكل شيء في أواخر عام 2010 في آن واحد من خلال إيداع ريالات شهرية في الحساب المصرفي لكل أسرة. ولكي يحافظ أحمدي نجاد على تكلفة إصلاح الدعم داخل نطاق تحمل الحكومة، تخلص بفعالية من المدفوعات الكبيرة التي كانت ستوجَّه إلى الصناعة لتغطية تكاليف الانتقال إلى تكنولوجيا طاقة أكثر فاعلية.

وبات المنتجون الإيرانيون يواجهون الآن مشكلة حقيقية: فأسعار الطاقة المنخفضة التي كانت تمثل ميزة تنافسية لهم اختفت بين عشية وضحاها. فقد استجابت الحكومة لذلك بسياسة مالية مفككة شملت تقديم قروض ميسرة للشركات غير القادرة على السداد. ووفقاَ لـ "البنك المركزي الإيراني" ارتفعت قروض البنك للقطاع الخاص من 2.3 كوادريليون ريال في آذار/مارس 2012 (التي كانت تساوي قيمتها آنذاك 250 مليار دولار) إلى 4 كوادريليون في آب/أغسطس 2012. وليس من قبيل الصدفة المطلقة أن ترتفع الودائع المصرفية (وهي إلى حد بعيد المكون الأكبر في الدعم المالي) خلال نفس الفترة من 2.1 كوادريليون ريال إلى 3.8 كوادريليون. وكانت هذه زيادة بنسبة 80 في المائة في الودائع المصرفية - بينما يقول "صندوق النقد الدولي" بأن "الناتج المحلي الإجمالي" الحقيقي قد ارتفع بنسبة 7 في المائة خلال فترة مماثلة.

ولا يحتاج المرء أن يكون عبقرياً لكي يكتشف ما يحدث حينما تزيد الأموال بنسبة 80 في المائة بينما تزيد السلع بنسبة 7 في المائة: في هذه الحالة تحلق الأسعار في السماء. وقد أوردت الحكومة تقارير عن أن الأسعار الاستهلاكية ارتفعت بنسبة 43 في المائة من آذار/مارس 2010 إلى نيسان/أبريل 2012، ولم تَنشر البيانات الخاصة بالشهور الأخيرة - ويفترض أن ذلك بسبب حدوث زيادة إضافية. وإذا يقبل المرء أرقام التضخم الرسمية فهذا يعني أن الأسعار في إيران كانت قد خرجت عن إطار التكاليف بصورة تبعث على السخرية نسبة للأسعار في الدول المنافسة إذا لم يفقد الريال قيمته.

ويعني انهيار الريال أن الشركات الإيرانية قد تحقق في النهاية نجاحاً ضد منافسيها الأجانب. وستتمثل السياسة الحكيمة في تشجيع انخفاض أسعار الريال لأكثر من ذلك مع العمل في الوقت ذاته على تشديد السياسة النقدية للسيطرة على معدلات التضخم. وبطبيعة الحال فإن ذلك سيعني فرض صعوبات على المستهلكين الأمر الذي يتعارض مع الميول الطبيعية للشعبويين الذين يديرون السياسة الاقتصادية في إيران. ولهذا السبب فإن اتباع سياسة سليمة من هذا القبيل يعد أمراً مستبعداً وفي الواقع لا توجد أية علامات تشير إلى أن هذه السياسة النقدية غير المحكمة سوف تشهد تغييراً في المستقبل. حتى أن أكثر المتفائلين في "صندوق النقد الدولي" يتوقعون أن معدلات التضخم الإيرانية ستبقى فوق نسبة الـ 20 في المائة في العام المقبل.

والمفارقة هي أن هبوط الريال يفيد الحكومة أكثر من أي جهة أخرى. إذ تتركز معظم الصادرات الإيرانية في أيدي الحكومة. ونظراً لأن كل دولار من النفط المصدر تبلغ قيمته الآن المزيد من الريالات، فإن العائدات الحكومية من الريال ترتفع، مما يعوض انخفاض حجم الصادرات ولو بشكل جزئي. وستضع هذه الإيرادات الإضافية السلطات الإيرانية في مركز جيد يُمكِّنها من مساعدة الشركات على الاستثمار في تكنولوجيا أكثر كفاءة في استخدام الطاقة إلى جانب خلق المزيد من فرص العمل.

غير أن هذا ليس من المرجح أن يحدث. بل من المرجح جداً أن تصر الحكومة على بيع الدولارات بمعدل منخفض انخفاضاً مصطنعاً على أساس النظرية القائلة بأن هذا يحافظ على انخفاض الأسعار. إلا أن النتيجة الحقيقية هي تحقيق أرباح عالية للذين لديهم اتصالات سياسية جيدة ممن تُفتَح أمامهم الأبواب للحصول على العملات الأجنبية بأسعار تفضيلية.

ومع انخفاض الصادرات وخفض أسعار الصرف انخفاضاً مصطنعاً، ستواجه الحكومة أحد أسوأ الاحتمالين التاليين: انخفاض الإيرادات وارتفاع التكاليف. وقد يفرض هذا خفضاً للميزانية - ولهذا الأمر قد تكون له عواقب سياسية وخيمة. في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر، تحدث أحمدي نجاد عن خفض بعض بنود الميزانية بنسبة 25 في المائة وإلغاء البعض الآخر وقد حذر رئيس هيئة الأركان المشتركة سيد حسن فيروز آبادي من احتمالية خفض الميزانية العسكرية بنسبة 10 في المائة. كما أن ارتفاع الأسعار وارتفاع معدلات البطالة والتخفيضات في الميزانية وتفشي الفساد تُعد كلها بمثابة وصفة لنشوب غضب شعبي على الرغم من قدرة الجهاز القمعي للجمهورية الإسلامية على الحيلولة دون ترجمة هذا الغضب إلى احتجاجات شعبية.

التاريخ يشير بأن إيران سوف تتعلم الدرس الخاطئ

لقد ازدادت حدة المشاكل الاقتصادية الإيرانية سوءاً بسبب قلق عموم الناس من أن الحرب قادمة. كما أن الخوف من الحرب يحول دون قيام المستثمرين بمشروعات جديدة ويجعل المستهلكين يسعون لإيجاد ملاذ آمن لأرصدتهم عن طريق تحويلها إلى دولارات على سبيل المثال. وستكون إعادة تفعيل المفاوضات حول الأزمة النووية خطوة سهلة لتحسين الاقتصاد. وربما يتم هذا الأمر بشكل جيد. إلا أن التاريخ يبعث برسالة تحذيرية.

وقد واجهت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مشاكل خطيرة في أسعار الصرف مرتين قبل ذلك، وربما كانتا سيئتان مثل المشكلة الحالية. وكانت المشكلة الأولى عندما انهارت أسعار النفط في منتصف الثمانينيات، حيث انخفضت العائدات من تصدير النفط الإيراني من 21 مليار دولار في السنة المالية 1983-1984 إلى 6 مليار دولار في 1986-1987. وركز التعامل الإيراني مع هذه الأزمة على تبني إجراءات قاسية خفَّضت بها الواردات من 18 مليار دولار إلى 11 مليار دولار. وقد نشأت هذه الأزمة عندما كانت إيران تلقي بأعداد كبيرة من مواطنيها أمام القوات العراقية في محاولة يائسة لاجتياح ذلك البلد - ونحن نتذكر الغزو العراقي لإيران في أيلول/سبتمبر 1980 إلا أننا غالباً ما ننسى أن القوات العراقية انسحبت في حزيران/يونيو 1982 فيما قامت إيران بغزو العراق في الشهر التالي. ونظراً لاستحالة تخفيض الواردات المتصلة بالحرب، يبدو أن إيران خفضت الواردات المدنية بشكل كبير - بتخفيضها إلى نسبة تزيد عن 50 في المائة.

ولم يكن نقص العائدات من النفط كافياً لحمل إيران على قبول وقف إطلاق النار. ولم يحدث ذلك إلا في وقت لاحق، عندما تخوف القادة الإيرانيون من دخول الولايات المتحدة الحرب ومن إمكانية إطلاق العراق صواريخ تحمل رؤوساً كيماوية على المدن الإيرانية. وبعبارة أخرى، لم تُحدث الظروف الاقتصادية الصعبة تغييراً في السياسة الأمنية - الشيء الذي تحقق عند التهديد باستخدام القوة العسكرية بشكل أكبر.

وقد واجهت الجمهورية الإسلامية الإيرانية التحدي الاقتصادي الحاد التالي في منتصف التسعينيات. فبعد استدانة 14 مليار دولار خلال بروز مفاجئ ما بعد الحرب من عام 1991 إلى عام 1994، وجب سداد الفواتير الإيرانية في الوقت الذي زادت فيه إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الضغوط على حلفائها بعدم منح قروض لإيران، ثم قيام تلك الإدارة بفرض عقوبات أمريكية شاملة على إيران بعد ذلك في عام 1995. كان من الممكن لإيران أن تحل هذه المشكلة عن طريق تقليص دعمها للإرهاب وإنهاء جهودها الحثيثة لتقويض محادثات السلام العربية الإسرائيلية التي كانت نابضة بالنشاط في ذلك الحين. وبدلاً من ذلك، اقتصدت إيران في نفقاتها على مدار السنوات الثلاث التي تلتها لسداد قروض بمبلغ 8 مليار دولار وعولت على أوربا واليابان في إعادة جدولة قروض مستحقة الدفع تصل إلى 16 مليار دولار.

وقد خفضت الإجراءات التقشفية الواردات من 23 مليار دولار في السنة المالية 1992-1993 إلى 13 مليار دولار في السنة المالية 1994-1995 وظلت عند هذا المستوى للسنة المالية التالية. وباختصار، فضلت إيران خفض واردتها لتصل إلى النصف تقريباً بدلاً من أن تغير سياستها الخارجية.

يعد التشابه التاريخي قاصراً عن الكمال نظراً لـ : اختلاف المواقف وتغير الأطراف الفاعلة على الساحة الدولية وغير ذلك. بيد أن الأحداث السابقة تشير إلى أن على المرء أن يحد من درجة تفاؤله بأن الضغط الاقتصادي سيحمل إيران على تغيير مواقفها السياسية الشعبوية - سواء فيما يتعلق بسياساتها الاقتصادية الداخلية المهلكة أو موقفها النووي المغامر.



پاتريك كلاوسون هو مدير الأبحاث في معهد واشنطن حيث يترأس مبادرة أمن إيران.