- الأحد مايو 05, 2013 12:49 am
#62190
المجتمع المدني، الأمة، الدولة الوطنية
نحو عقد اجتماعي جديد
جاد الكريم الجباعي
المفاهيم أسماء العالم ومفاتيح معرفته، يحمل كل منها، فضلاً عن دلالته اللغوية والاصطلاحية، تاريخه الخاص، مشفوعاً بشحنة أيديولوجية مصدرها الأنساق والخطابات التي اندرج فيها، واكتسب من كل نسق أو خطاب دلالة خاصة غلبت عليه في حين من الأحيان أو في كثير منها، فلا يكاد يعرف إلا بها. لذلك تقتضي الموضوعية تحرير المفهوم من شباك الأيديولوجية، وإعادته إلى ميدان التاريخ. ففي هذا الميدان فقط يفصح عن طابعه الواقعي وقيمته المعيارية، وعن دلالاته المعرفية والنفسية والأخلاقية. ويبدو أن الذين يزيِّنون المفاهيم ويقدسونها أو يقبِّحونها ويدنسونها إنما ينطلقون من رؤية ذاتية وسكونية، لا من رؤية واقعية وتاريخية. ولعل تحرير اللغة من بعديها: المقدس والسحري، ومما علق بها من أوشاب الأيديولوجية جراء محاولات السيطرة عليها شرط لازم لتحرير الفكر. فلجميع مفردات اللغة قيم معرفية ودلالية متساوية. وليس بوسعنا أن نحكم على هذا المفهوم أو ذاك إلا في نطاق النسق أو الخطاب الذي يندرج فيه، أي في نطاق شبكة العلاقات التي ينتظم فيها فيؤدي وظيفة خاصة لدى متكلم معيَّن، في شروط وملابسات معينة. هكذا هي الأمور دوماً. وهذه الشبكة، بما تنطوي عليه من علاقات ضرورية ومن مواضعات العقل العملي وتسوياته وتواطؤاته ومحايلاته أحياناً، إن لم يكن في معظم الأحيان، هي التي تحدد دلالاته ودواعي استعماله، وتعيِّن وظائفه الإجرائية والمعرفية والنفسية والسياسية والأخلاقية. ولما كان كل خطاب بنيةً عقليةً / روحية، أو ذهنية / نفسية، وعلائقية، بات من الضروري تمييز العلاقات الضرورية التي تحدد دلالة المفهوم في كل نسق على حدة، كيما يمكن استعمالة في نسق جديد ورؤية جديدة، وإلا كنا في النسخ والمحاكاة والتقليد الأعمى.
وأكثر المفاهيم غموضاً والتباساً ما يظن الناس أنه من قبيل البديهيات، كالأمة والقومية والشعب والوطن، وما ينتمي إلى حقلها، ولا سيما حين تندرج في نسق أيديولوجي دوغمائي واستاتيكي يجعل منها شيئاً أقرب إلى "رأس ميدوزا"، تحول كل ما يقع في دائرتها إلى "ثوابت قومية" أو "ثوابت وطنية" أو "ثوابت دينية" متحجرة، ليس لها أي وظيفة سوى تقنيع النزعات الحصرية[1]، وتسويغ الاستبداد وإمداده بمشروعية وهمية. فضلاً عما يشوبها من التباسات معرفية وسياسية تنم على ارتباك الخطاب السياسي العربي وضبابيته، أهمها التباس الوطنية بالقومية، ونشوء ازدواجية الوطني والقومي؛ والتباس مفهوم القومية بالأحزاب القومية، أو ما سمي بالحركة القومية، أي بالأحزاب التي تبنت أيديولوجية قومية أو قوموية، وتوهمت وأوهمت بأنها "الممثل الشرعي الوحيد" للأمة؛ فما أن تذكر القومية اليوم حتى تستحضر حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي والأحزاب الناصرية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وغيرها، و"نظرياتها" وأفكار منظريها،. ويصعب على العربي اليوم أن يتخيل القومية أو يفكر فيها على أنها فضاء ثقافي مشترك تتقاطع فيه وتتجابه جميع التيارات الفكرية والأيديولوجية والسياسية، وأنها لذلك صفة للدولة، في نظر غير مواطنيها. فمن من العرب يستطيع أن يفكر في أن جميع التيارات والأحزاب "القومية" والإسلامية والاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وغيرها هي أحزاب وتيارات قومية تعبر عن قوى الأمة المختلفة والمتعارضة، بل من ذا الذي يستطيع أن يقبل أن يكون في الأمة اختلاف وتعارض؟! ومن ثم فإن لمفهوم الأمة ولمفهوم القومية، في الخطاب السياسي العربي، طابعاً جزئياً وحصرياً وإقصائياً إن لم نقل استئصالياً؛ فالقوموي يحصر الأمة والقومية في العرب العاربة والمستعربة، ويقصرها عليهم؛ والإسلاموي يحصرها في المسلمين، السنة أو الشيعة، بحسب المتكلم، ويقصرها عليهم؛ والاشتراكي الذي يرى في الأمة، حين يراها، أمتين، أمة المستغلين (بكسر الغين) وأمة المستغلين (بفتحها) فيحصرها في البروليتارية والكادحين، ولا يرى في القومية سوى صفة رجعية وشوفينية، فيشطبها من قاموسه، أي من وعيه وفكره. ألا يحق لنا، وهذه الحال، حال القصر والحصر، أن نتحدث عن تشظي الحقل الثقافي والحقل السياسي للأمة؟! لا بفعل التجزئة الكولونيالية هذه المرة، بل بفعل شقاء الوعي. ولا يقللن أحد من أثر الوعي في هذه الحال، فإن وعي الذات هو الصيغة الذاتية لوعي الواقع ومعرفة العالم، وهو الذي يحكم العمل ويوجه السلوك، بصورة واعية أو غير واعية. وليس ما هو أكثر دلالة على ذلك من التنازع على التراث الذي لم يكن سوى التعبير المثالي عن التنازع الضاري على السلطة والثروة.
يحدد العربي ذاته اليوم بدلالة الأصل أولاً، وبدلالة الماضي، لا بدلالة التاريخ، ثانياً وبدلالة التراث ثالثاً، وبدلالة الغرب رابعاً، وتتضافر هذه العناصر في إنتاج "هوية قومية" وهمية ومأزومة
الرابط http://www.assuaal.net/content/%D8%A7%D ... 9%8A%D8%A9
نحو عقد اجتماعي جديد
جاد الكريم الجباعي
المفاهيم أسماء العالم ومفاتيح معرفته، يحمل كل منها، فضلاً عن دلالته اللغوية والاصطلاحية، تاريخه الخاص، مشفوعاً بشحنة أيديولوجية مصدرها الأنساق والخطابات التي اندرج فيها، واكتسب من كل نسق أو خطاب دلالة خاصة غلبت عليه في حين من الأحيان أو في كثير منها، فلا يكاد يعرف إلا بها. لذلك تقتضي الموضوعية تحرير المفهوم من شباك الأيديولوجية، وإعادته إلى ميدان التاريخ. ففي هذا الميدان فقط يفصح عن طابعه الواقعي وقيمته المعيارية، وعن دلالاته المعرفية والنفسية والأخلاقية. ويبدو أن الذين يزيِّنون المفاهيم ويقدسونها أو يقبِّحونها ويدنسونها إنما ينطلقون من رؤية ذاتية وسكونية، لا من رؤية واقعية وتاريخية. ولعل تحرير اللغة من بعديها: المقدس والسحري، ومما علق بها من أوشاب الأيديولوجية جراء محاولات السيطرة عليها شرط لازم لتحرير الفكر. فلجميع مفردات اللغة قيم معرفية ودلالية متساوية. وليس بوسعنا أن نحكم على هذا المفهوم أو ذاك إلا في نطاق النسق أو الخطاب الذي يندرج فيه، أي في نطاق شبكة العلاقات التي ينتظم فيها فيؤدي وظيفة خاصة لدى متكلم معيَّن، في شروط وملابسات معينة. هكذا هي الأمور دوماً. وهذه الشبكة، بما تنطوي عليه من علاقات ضرورية ومن مواضعات العقل العملي وتسوياته وتواطؤاته ومحايلاته أحياناً، إن لم يكن في معظم الأحيان، هي التي تحدد دلالاته ودواعي استعماله، وتعيِّن وظائفه الإجرائية والمعرفية والنفسية والسياسية والأخلاقية. ولما كان كل خطاب بنيةً عقليةً / روحية، أو ذهنية / نفسية، وعلائقية، بات من الضروري تمييز العلاقات الضرورية التي تحدد دلالة المفهوم في كل نسق على حدة، كيما يمكن استعمالة في نسق جديد ورؤية جديدة، وإلا كنا في النسخ والمحاكاة والتقليد الأعمى.
وأكثر المفاهيم غموضاً والتباساً ما يظن الناس أنه من قبيل البديهيات، كالأمة والقومية والشعب والوطن، وما ينتمي إلى حقلها، ولا سيما حين تندرج في نسق أيديولوجي دوغمائي واستاتيكي يجعل منها شيئاً أقرب إلى "رأس ميدوزا"، تحول كل ما يقع في دائرتها إلى "ثوابت قومية" أو "ثوابت وطنية" أو "ثوابت دينية" متحجرة، ليس لها أي وظيفة سوى تقنيع النزعات الحصرية[1]، وتسويغ الاستبداد وإمداده بمشروعية وهمية. فضلاً عما يشوبها من التباسات معرفية وسياسية تنم على ارتباك الخطاب السياسي العربي وضبابيته، أهمها التباس الوطنية بالقومية، ونشوء ازدواجية الوطني والقومي؛ والتباس مفهوم القومية بالأحزاب القومية، أو ما سمي بالحركة القومية، أي بالأحزاب التي تبنت أيديولوجية قومية أو قوموية، وتوهمت وأوهمت بأنها "الممثل الشرعي الوحيد" للأمة؛ فما أن تذكر القومية اليوم حتى تستحضر حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي والأحزاب الناصرية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وغيرها، و"نظرياتها" وأفكار منظريها،. ويصعب على العربي اليوم أن يتخيل القومية أو يفكر فيها على أنها فضاء ثقافي مشترك تتقاطع فيه وتتجابه جميع التيارات الفكرية والأيديولوجية والسياسية، وأنها لذلك صفة للدولة، في نظر غير مواطنيها. فمن من العرب يستطيع أن يفكر في أن جميع التيارات والأحزاب "القومية" والإسلامية والاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وغيرها هي أحزاب وتيارات قومية تعبر عن قوى الأمة المختلفة والمتعارضة، بل من ذا الذي يستطيع أن يقبل أن يكون في الأمة اختلاف وتعارض؟! ومن ثم فإن لمفهوم الأمة ولمفهوم القومية، في الخطاب السياسي العربي، طابعاً جزئياً وحصرياً وإقصائياً إن لم نقل استئصالياً؛ فالقوموي يحصر الأمة والقومية في العرب العاربة والمستعربة، ويقصرها عليهم؛ والإسلاموي يحصرها في المسلمين، السنة أو الشيعة، بحسب المتكلم، ويقصرها عليهم؛ والاشتراكي الذي يرى في الأمة، حين يراها، أمتين، أمة المستغلين (بكسر الغين) وأمة المستغلين (بفتحها) فيحصرها في البروليتارية والكادحين، ولا يرى في القومية سوى صفة رجعية وشوفينية، فيشطبها من قاموسه، أي من وعيه وفكره. ألا يحق لنا، وهذه الحال، حال القصر والحصر، أن نتحدث عن تشظي الحقل الثقافي والحقل السياسي للأمة؟! لا بفعل التجزئة الكولونيالية هذه المرة، بل بفعل شقاء الوعي. ولا يقللن أحد من أثر الوعي في هذه الحال، فإن وعي الذات هو الصيغة الذاتية لوعي الواقع ومعرفة العالم، وهو الذي يحكم العمل ويوجه السلوك، بصورة واعية أو غير واعية. وليس ما هو أكثر دلالة على ذلك من التنازع على التراث الذي لم يكن سوى التعبير المثالي عن التنازع الضاري على السلطة والثروة.
يحدد العربي ذاته اليوم بدلالة الأصل أولاً، وبدلالة الماضي، لا بدلالة التاريخ، ثانياً وبدلالة التراث ثالثاً، وبدلالة الغرب رابعاً، وتتضافر هذه العناصر في إنتاج "هوية قومية" وهمية ومأزومة
الرابط http://www.assuaal.net/content/%D8%A7%D ... 9%8A%D8%A9