منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#62664
كارل ماركس والنظريات الماركسية:
شهدت نهاية القرن الثامن عشر بداية عصر التصنيع الأوربي الذي أحدث سلسلة من التغييرات في أوربا وامتد نطاق تأثيرها عبر العالم في أقل من قرن من الزمن. باختصار أدت الثورة الصناعية إلى توسع هائل في انتاج السلع من خلال توظيف التكنولوجيا الحديثة ، بل أنها في الحقيقة كانت " عدة ثورات " بدأت أولها في بريطانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ومثل التصنيع زيادة مفاجئة في استخدام القوة الميكانيكية في التصنيع ، وارتفاعاً مثيراً في الإنتاج الزراعي وتحسناً جذرياً في سرعة الاتصال، ومع ذلك كانت هذه التغيرات مكلفة. فقد ترك التغير المفاجئ في النشاط الاقتصادي ( الكساد ) عدد كبير من الناس بدون عمل ، كذلك كانت ظروف الحياة تعيسة في المناطق الصناعية الجديدة. وبرغم أن معدل العمل اليومي كان يصل إلى 14 ساعة يومياً إلا أن الأجور توقفت عند مستوى الكفاف. ومع أن معظم الليبراليين والمحافظين قد تقبلوا هذه الظروف الاقتصادية على أنها انعكاساً لقوانين اقتصادية محددة ولم يتخيلواً بأن التدخل الحكومي يستطيع أن يحدث تغييراً إذا كانت قوى السوق مهيمنة على تحديد الأجور والأسعار، إلا أن مفكرين آخرين قد رفضوا تلك الظروف الاقتصادية. فمع العقود الأولى للقرن التاسع عشر تحدت مجموعة من المفكرين الفكرة القائلة بأن الحكومة ينبغي أن تتجنب التدخل في الاقتصاد. وبحلول عام 1840 كانت كلمة الاشتراكية شائعة في النقاش السياسي في أوربا. ومع أن معظم هؤلاء لم يكن ديمقراطياً إلا أنهم لم يدعموا أي نوع من الصراع الطبقي كوسيلة لتحسين ظروف العمل. وكانت فكرتهم آنذاك هي أن من الأفضل أن يتم تطبيق القوانين الاقتصادية التي نادى بها الليبراليون الأوائل من خلال التخطيط العام بدلاً من آلية السوق الصماء. وأقام بعضهم مثل روبرت أوين ( 1771-1858) مصانع نموذجية للبرهنة على أن العمل يمكن أن يكون أكثر إنتاجية في ظل ظروف مثالية. بينما كان آخرون مثل لويس بلانك Louis Blanque(1805-1888) أكثر ثورية في تشجيع إنشاء مصانع حكومية لتوظيف من لا يجد عملاً. واعتنق هؤلاء المثاليون الاشتراكيون ، كما كان يطلق عليهم ، رؤية لتقنية صناعية يتم تحقيقها بواسطة التخطيط الحكومي.
ومع تسارع الأحداث أصبحت الظروف ملائمة لبروز أفكار جديدة اكثر ثورية كان من أهمها النظرية الماركسية، التي تنسب إلى الألماني كارل ماركس الذي عاش في لندن وتأثر بفلسفة هيجل. فعلى خطى هيجل، زعم كارل ماركس، أن الأشياء لا تحدث بمحض الصدفة بل أن لكل شيء سببا. ومع أن هيجل افترض أن السبب الرئيس المحرك للتاريخ قدماً هو الروح وخاصة ما سماه Zeitgeist (الروح المطلق) إلا أن ماركس زعم أن السبب الرئيس هو الاقتصاد.
واشتهر كارل ماركس ( 1818-1883) بنقده اللاذع للطبقية والرأسمالية وقضى سنوات عديدة لتشجيع إقامة رابطة دولية للعمال. وقدم فريديك انجلز ( 1820-1895) الدعم المادي لماركس كما تعاون معه في عدد من الأعمال الهامة. لقد شجعت رؤية ماركس لمجتمع شيوعي عدداً من الذين اعتقدوا بأنه يمكن تحسين أوضاع المجتمع من خلال وسائل سياسية. وبرغم مناداته بالشيوعية ورفضه للرأسمالية إلا أن إسهام ماركس تمثل في التأكيد على أن العمل والإنتاج الإنساني كانا يمثلان أسس التغير التاريخي، وأن التغير الذي يحدث في علاقات الإنتاج يدفع المجتمع تجاه مساواة مادية أكبر وتنظيم اجتماعي أكثر تعقيداً. ويتمثل الإنجاز الأبرز لماركس في أبحاثه الواسعة والمعمقة عن الحياة الاقتصادية التي أقنعت كثيرين بأن الشيوعية قادمة لا محالة . وقد وضع ماركس نظرية معقدة تتألف من ثلاث عناصر متداخلة على الأقل : نظرية الاقتصاد، نظرية الطبقة الاجتماعية، ونظرية التاريخ.
نظرية الاقتصاد/ اقتصادياً ركز ماركس على مفهوم "فائض القيمة" أي الربح وزعم أن العمال ينتجون الأشياء لكنهم يحصلون على جزء ضئيل فقط من قيمة إنتاجهم كأجر، بينما يستولي أصحاب رأس المال على البقية، فائض القيمة. ولا يستطيع العمال الذين يحصلون على مبلغ زهيد مما ينتجون الذهاب إلى السوق ليشتروا كل ما يريدون. فمع أن النظام الرأسمالي يضخ كمية وافرة من السلع إلى السوق إلا أن معظم السكان الذين أطلق عليهم ماركس البروليتاريا (طبقة العمال الصناعيين) لا يستطيعون شراءها والنتيجة تكون فائض مستمر في الإنتاج مما يؤدي إلى كساد اقتصادي عندما لا يمكن تصريفه في الأسواق. وفي النهاية يزعم ماركس أنه سيكون هناك كساد كبير جداً يكون سبباً في نهاية النظام الرأسمالي.
نظرية الطبقة الاجتماعية/ يزعم ماركس أن كل مجتمع ينقسم إلى طبقتين، طبقة صغيرة يمتلك أفرادها وسائل الإنتاج وطبقة كبيرة من العاملين الذين يعملون لمصلحة الطبقة الصغيرة. وينظم المجتمع طبقاً لما تمليه الطبقة العليا الصغيرة التي تصنع القوانين، والفنون وأنماط الحياة اللازمة لإحكام سيطرتها على السلطة. وتتعلق معظم القوانين بحقوق الملكية، كما لاحظ ماركس، لأن الطبقة البورجوازية (الرأسمالية) منشغلة جداً بالتمسك بأملاكها والتي ، طبقاً لماركس، هي لا شيء وإنما مجرد سرقة لفائض القيمة. وإذا ما ذهبت البلاد في حرب ، يقول ماركس، فإن ذلك ليس بسبب رغبة الناس العاديين وإنما بسبب حاجة البرجوازية الحاكمة لزيادة عائداتها الاقتصادية. أما البروليتاريا، فليس لها بلد في الحقيقة وإنما هي دولية تعاني كلها من اضطهاد الرأسماليين.
نظرية التاريخ / استخدم ماركس كل من نظريته الاقتصادية ونظريته في الطبقة الاجتماعية لتفسير التغيرات التاريخية ، وزعم أنه عندما تضطرب العلاقة بين القاعدة الاقتصادية الأساسية للمجتمع والبناء الذي أنشأته الطبقة المهيمنة ( قوانينها ، مؤسساتها ، وسائل عمل الأشياء ، وغيرها ) ينهار النظام . وهذا ، كما يزعم ماركس، ما حدث في الثورة الفرنسية ، فقبل الثورة كانت الطبقة الحاكمة هي نبلاء الإقطاع التي كان نظامها الممتد إلى القرون الوسطى يستند على الملكية المتوارثة للأراضي الكبيرة التي يزرعها الفلاحون بناء على قوانين تؤكد على توارث تلك الأراضي وصكوك ملكيتها ، وكل ذلك كان يمثل جزءاً من المجتمع الإقطاعي . إلا أن القاعدة الاقتصادية تغيرت بعدما تضاءلت ملكية الأرض و قيّم الإقطاع مع ظهور التصنيع. ولذا برز إلى حيز الوجود طبقة جديـدة قوامها الرأسماليـون الحضريـون ( البرجوازية ) الذين كانت طرق حياتهم واقتصادهم مختلفة بشكل كبير. وبنهاية القرن الثامن عشر كان لدى فرنسا اقتصاداً قائماً على التصنيع لكنه بقي خاضعاً لهيمنة الأرستقراطية الإقطاعية الذين كانت أفكارهم مشدودة إلى الماضي . ولذلك اضطربت العلاقة بين الجانبين فالقاعدة الاقتصادية تطورت بينما بقيت الطبقة ( البناء الفوقي ) متخلفة . ولذا سقطت الطبقة الإقطاعية أو البناء الفوقي في سنة 1789م وحل محلها طبقة بورجوازية بنظام رأسمالي جديد وقيّم ليبرالية تشمل السوق الحرة ، الفردية والمساواة القانونية (وليس المادية).
ومع أن ماركس اعترف بأن الرأسماليين قد قاموا بعمل جيد عندما نشروا التصنيع والتحديث إلى معظم أرجاء العالم ، فضلاً عن منتجاتهم واختراعاتهم الرائعة ، لكنهم أيضاً سيسقطون ، كما زعم ، وذلك لأنهم بقدر ما يسرّعون تحويل أو تحديث الاقتصاد بقدر ما تضطرب العلاقة مع البناء الفوقي الرأسمالي ، تماماً، كما حدث مع المجتمع الإقطاعي السابق نتيجة للتغير الاقتصادي. وهذا يعود بنا إلى نظرية فائض القيمة لماركس والكساد الاقتصادي المتكرر الحدوث. وفي نهاية الأمر يجادل ماركس بان الاقتصاد سيكون متناقضاً بدرجة كبيرة مع التركيبة البرجوازية وأن ذلك سيؤدي أيضاً إلى انهيارها وتوقع ماركس بأن الاشتراكية ستحل محلها ولذا ينبغي المساهمة في ذلك. ومن ثم يمكن القول بأن ماركس كان منظراً وأيديولوجياً في نفس الوقت . لذلك تعتبر الماركسية إيديولوجية كذلك.
وتتألف الأيديولوجية من افتراضات حول الناس والمجتمع ، ونقداً للنظام الاجتماعي القائم أو أدوات لتمويله أو إصلاحه. وتقدم الأيديولوجيات في الغالب برامج للعمل تحاول من خلالها تغيير وعي الجماعة وإحداث حركة سياسية. ولذا لا تعتبر أكثر الأفكار السياسية ملائمة لخلق أيديولوجيات نظراً لأنها يجب أن تكون بسيطة جداً إلى الدرجة التي تجتذب بها الدعم الشعبي. فعلى سبيل المثال، لا يتخيل أحد أن تتحول أفكار إفلاطون أو هوبز إلى أيديولوجية لأنها ليست سهلة الفهم، كما أن الفلاسفة نادراً ما كانوا قادة عظام. أما الماركسية فقد طرحت بشكل مبسط في شكل برنامج سياسي لأنها وعدت بمنح السلطة للطبقة العاملة التي تمثل أغلبية أفراد المجتمع ، وأصبح فكر كارل ماركس مصدر إلهام للأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية.
وتعتبر الاشتراكية المستوى الأدنى للشيوعية وفيها تتم السيطرة العامة للطبقة العاملة على وسائل الإنتاج والقضاء على استغلال رأس المال لعنصر العمل. أما الشيوعية فإنها هي فقط التي تعد بالمساواة في الظروف المادية. وقد أنشأت الأيديولوجية الماركسية حركات سياسية تحاول استخدام القوة السياسية لتحويل المجتمع وإقامة الشيوعية .
وقد اشتهر ماركس المهندس الرئيس للشيوعية بمقولته " كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة ومع ذلك فإن المهم هو تغيير العالم ." وتعبر هذا الجملة عن معضلة مركزية في الفكر السياسي الحديث: ماذا ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الفكر والفعل عندما يبدو الفعل ملحاً ؟ ففي زمن ماركس كانت التقنية والتصنيع قد حولت الحياة الإنسانية بشكل متسارع من خلال الوعد بالوفرة المادية فضلاً عن الوضع الإنساني لظروف العمل ، وبقيت مسألة تحسين ظروف العمل مشكلة سياسية مركزية. وبالنسبة لماركس فإن الشيوعية وحدها تستطيع حل معضلة الآلة التي تستطيع زيادة إنتاجية المصنع على حساب شقاء وتعاسة العمال. وأصر ماركس على أنه لا يمكن فهم الحياة السياسية بمعزل عن الحياة الاقتصادية وأن النظرية السياسية كانت عديمة الجدوى لأنها تصف هي وضعت " الحياة السعيدة " بمعماوال عن الحياة التي يعيشها الناس على أرض الواقع. ونتيجة لتأثير ماركس أصبحت الأفكار أدواتاً للتطوير الاجتماعي وأصبحت فكرته عن " الاشتراكية العلمية " حركة سياسية ثورية.
وهناك جانبان من الماركسية أكدا على استمرارية تأثيرها هما: نظريات ماركس عن الاغتراب والمادية الفلسفية. والاغتراب يعني الفصل ، والانقطاع والانعزال ولذا فمن الطبيعي الحديث عن الاغتراب كظرف نفسي، فنحن نشعر بالاغتراب عن الأصدقاء أو الأسرة لأسباب مختلفة ، لكن الاغتراب بالنسبة لماركس كانت نتيجة للظروف المادية في الحياة العملية. ورأى ماركس الاغتراب نتيجة للحياة في ظل الرأسمالية لأنها فصلت الأفراد عن طبيعتهم الإنسانية ، فبدلاً من أن تصبح تقنية الإنتاج وسائل لحياة أكثر سعادة أصبحت قوة منفصلة أدت إلى الاستعباد. وبشكل أكثر تحديداً لم تكن التقنية نفسها هي التي استعبدت وإنما تنظيمها في ظل الملكية الخاصة وطبقتي الملاك والعمال التي أفرزتهما. ولذا اعتقد ماركس أنه طالما بقيت الرأسمالية القاعدة الاقتصادية للمجتمع فلن يستطيع الناس التعبير عن فرديتهم من خلال العمل ونتيجة لذلك تعرض الأفراد للاغتراب من ثلاثة أوجه :
1- عماوالهم عن قدرتهم الإبداعية من خلال العمل من أجل البقاء نظراً لأن الطبقة الرأسمالية تستحوذ على الجزء الأعظم من إنتاج العمال .
2- عماوالهم عن منتجات العمل وذلك أنه كلما زادت إنتاجية العمال كلما أصبحوا أقل قدرة للاستمتاع بإنتاجهم ، حيث لا تصبح الطبقة الرأسمالية أغنى فقط بل كلما ارتفعت أسعار الإنتاج إلى درجة ليست بمتناول العمال.
3- عماوالهم وتفريغهم عن مواطنيهم وذلك لأن الرأسمالية تخلق انقسامات وفروق طبقية تفضل الأفراد عن بعضهم في ظل منافسة عدائية وطرق مختلفة للحياة .
وبرغم أن هناك عدد من النظريات التي تطرقت لأسباب الاغتراب أو الانعزال إلا أن الماركسية أصرت على فكرة المادية الفلسفية التي تشير إلى أن القوى الاقتصادية وتنظيم الإنتاج تؤثر على كل جوانب المجتمع ومن ضمنها الأفكار السياسية. فالماركسي يرى أن التأثيرات السلبية لطبقات العمال وأصحاب رأس المال لا يمكن القضاء عليها من خلال النوايا الطيبة أو الاتحادات العمالية وإنما من خلال تحويل السيطرة على وسائل الإنتاج إلى العمال. وأنه من خلال القضاء على الطبقات المتناحرة يمكن فقط جعل العمل نشاطاً فاعلاً بدلاً من أن يكون مغترباً ومعزولاً .
ويؤكد مفهوم ماركس عن المادية التاريخية أن المجتمع يمر خلال سلسلة من المراحل المتوقعة تصل ذروتها في مرحلة الاشتراكية العلمية. وتنظر فكرة المادية الجدلية الوثيقة الصلة بالمادية التاريخية إلى التغير الاجتماعي على أنه نتيجة للصدام بين القوى الاقتصادية المتعارضة ، مثل الطبقات الاجتماعية والإبداع التقني. ويبقى كل من هذين الجانبين للمادية مهما لفهم التغيير السياسي برغم أن تنبؤاتها الأليمة ثبت خطأها. لقد حاول ماركس أن ينشئ أحزاباً عمالية كأساس لتشكيل حركة ثورية دولية لأن الاشتراكية بزعمه ستنهي الاغتراب عندما تستولي الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج وتضمن حصول العمال على القيمة الكاملة لإنتاجهم. وبعد وفاة ماركس 1883 تزعم صديقه وحليفه الوثيق فريدريك انجلز الحركة ولكن بعد عقد من الزمن بدأ الاشتراكيون يطرحون سؤالاً تجاهله كل من ماركس وانجلز. هل يمكن جعل الاغتراب والانعزال محتملاً للطبقة العاملة إذا ما تم تحسين الظروف المادية للعمال بشكل كبير ؟
وبعكس توقعات ماركس فإن الأحزاب الماركسية التي أصرت على الانقلاب العنيف على الرأسمالية قد وصلت إلى السلطة في البلدان الأقل تقدماً صناعياً أي في روسيا وأوربا الشرقية. وبرغم فشل واستبداد التطبيقات الماركسية في الاتحاد السوفيتي السابق والبلدان الشيوعية الأخرى إلا أنها كنسق للتحليل تبقى ممتعة ومفيدة. فالطبقة الاجتماعية تعتبر مهمة في تكوين وجهات النظر السياسية ، بشرط ألا تكون متماثلة. فعلى سبيل المثال يعتبر كثير من أفراد الطبقة العاملة محافظون كما أن كثيراً من المثقفين من الطبقة المتوسطة هم ليبراليون أو يساريون. ونرى أن جماعات المصالح الاقتصادية لا تزال مؤثرة ومن خلال دعمها حملات الانتخابات تستطيع أن تفرض وجهات نظرها في الدول الديمقراطية كالولايات المتحدة

الرابط http://30dz.justgoo.com/t513-topic