منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#63092
العقد الأخير في تاريخ سورية: جدليّة الجمود والإصلاح

نظام سياسي أم نظام حكم؟

يُعبّر القرار الرّشيد في إطار المدرسة السلوكيّة في العلوم السياسيّة عن مساومة بين القوى والأدوار والأنساق المجتمعيّة ضمن إطار التّفاعل بين النّسق السّياسي والبيئة الداخليّة والخارجيّة المحيطة به[1]. وفي حالة الأنظمة غير الديمقراطيّة، يجب أن يكون القرار نتيجة معالجة بين القوى الفاعلة ضمن النّظام نفسه على الأقلّ. حدّد الباحث الفاعلين الاجتماعيّين في عمليّة اتّخاذ القرارات الاقتصاديّة بالتصحيحيّين (المتمسّكين بدور القطاع العامّ، ببنيتهم البيروقراطيّة)، والتحرريّين (الدّاعين إلى لبرلة الاقتصاد السّوري)، والتنمويّين (الدّمج بين النّموذجين السّابقين، من دون أن يمتلكوا رؤية لذلك). وعليه، يجب أن يخرج القرار معبّرًا عن هذه التّفاعلات بين القوى السّابقة، عبّر عنه الباحث في ضوء إشارته إلى الخطّة الخمسيّة العاشرة بنموذج تحريري محكوم بالضّوابط التنمويّة ومقاربات إصلاح مؤسّسي شامل. ولكن الباحث يشير إلى تدخّل رجال الأعمال والفئات البيروقراطيّة النّافذة في عمليّة اتّخاذ القرارات، وصوغها بما يناسب مصالحها الخاصّة، متمثّلًا في حذف الشقّ الإصلاحي المؤسّسي من الخطّة الخمسيّة العاشرة، واتّباع سياسات ليبراليّة ساذجة.

لم يتفاعل النّظام في سورية في آليّة عمله في اتّخاذ القرارات مع المدخلات المتدفّقة من الأنساق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بل تمّت معالجتها وفقًا لمصالح بعض القوى الاقتصاديّة والسياسيّة، حدّدها جمال باروت بطبقة رجال الأعمال المتحالفة مع الأجهزة الأمنيّة ورأس المال الخليجي. ووصفها بمجموعة "المئة الكبار"، كما وصفها بمصطلحٍ معياري بـ "الذّئاب الشابّة" ولذلك لا ينطبق على النّظام السّوري معايير النّظام السّياسي، بل يسمّى بحسب المدرسة السلوكيّة نظام حكم، والقرارات الصّادرة عنه هي قرارات مشوّهة غير رشيدة، لأنّها لم تكن نتيجة التّفاعل بين المدخلات الواردة له، ولا تحقّق المصالح الوطنيّة العليا للدّولة السوريّة. أي أنّ القوّة السياسيّة في النظام توزّعت تبعًا لهيكل القوّة الاقتصاديّة، بدلًا من التّوفيق بين الأنساق المختلفة بصورة متوازية ومتوازنة[2]. والسّؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي طبيعة هذا الشّكل من توزّع القوّة داخل نظام الحكم في سورية؟


النّظام التسلّطي المتلبرل

يمثّل مفهوم النّظام التسلّطي المتلبرل اقتصاديًّا أحد أهمّ المفاهيم التي بلورها البحث لفهم اندلاع حركة الاحتجاجات والثّورات العربيّة عمومًا، وفي سورية خصوصًا. ويتّسم هذا المفهوم الذي بلوره البحث بقوّته المفاهيميّة والنظريّة والإجرائيّة والتحليليّة التي كثفت جماع نقد اللّبرلة الاقتصاديّة في إطار نظام تسلّطي سياسيًّا في مفهوم منظومي متكامل يمثّل أداة منهجيّة نظريّة وتحليليّة لابدّ منها في فهم قوس الثّورات. ولعلّ هذه البلورة هي من أهمّ إنجازات البحث في فهم ماحدث، وربّما في فهم ما يمكن أن يحدث، وتشكّل مساهمة مميّزة في أيّ نظريّة محتمل بناؤها لحركة الاحتجاجات والثورات العربيّة. وعلى الرّغم من غوص الباحث في الخلفيّة السوريّة لهذا النّموذج، فإنه أكّد في أكثر من مكان على مفتاحيّة هذا المفهوم في فهم ما هو مشترك في تجارب سورية وتونس ومصر.

قدّم الباحث توصيفًا لطبيعة العلاقات الاقتصاديّة التي تربط بين رجال الأعمال ورجالات الأنظمة السياسيّة أسماها بـ "رأسماليّة الحبايب والقرايب" قريبًا بذلك من مصطلحات محمود عبد الفضيل الذي استخدم مصطلح "رأسماليّة الأنابيب" في عام 2001[3]، ومن ثمّ انتقل في عام 2011 إلى مسمّى "رأسماليّة المحاسيب" في كتابه "رأسماليّة المحاسيب" خلال تحليله حال الاقتصاد المصري عشيّة الثورة المصريّة[4]. يقدّم التقاء باحثيْن عربيّين لشرح طبيعة الأنظمة العربيّة قبل الثورات، إطارًا تحليليًّا صلبًا يبيّن الأسباب التي دفعت الشّعوب العربيّة للاحتجاج. ولعلّ هذا ما دفع باروت للمقارنة بشكلٍ دائم بين القرارات الاقتصاديّة في سورية مع مصر بما أسماه بـ "سيناريو لعنة الفراعنة".

وبدل أن تؤدّي النيوليبراليّة في ظلّ الاستبداد إلى خلق ديناميّات ذاتيّة تفضي إلى الدّمقرطة، وفق ما افترضته اتّجاهات السّوق والدّمقرطة، فإنّها أدّت إلى تعزيز الديناميّات السلطويّة في عمق النّظام السّياسي، وإن بدا الشّكل أكثر انفتاحًا[5]

. ويشير باروت إلى ذلك من خلال تمييزه بين السّلطتين الفعليّة والاسميّة، فقد أشار إلى أنّ السّلطة الفعليّة المتمثّلة في الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة تحوّلت إلى متدخّل فاعل وحقيقي حتّى في القرارات الاقتصاديّة.


العلاقة بين التّنمية والديمقراطيّة

يتّفق عددٌ من الباحثين الاقتصاديّين والاجتماعيّين على أنّه عند كلّ مرحلة تاريخيّة جديدة، تتكوّن فئات رأسماليّة جديدة، يكون لها خصائص تكوينيّة وتشريحيّة متميّزة، ولكنّها سرعان ما تتداخل مع الفئات القديمة[6]. وانطلاقًا من ذلك، نجح الباحث في الكشف عن ماهيّة هذه الفئات من خلال تحقيب مراحل تشكّل رجال الأعمال في سورية، وتحليل دور الشّركات القابضة وتحالفاتها الاقتصاديّة والسياسيّة الداخليّة والخارجيّة.

تحكّمت التّحالفات السابقة في آليّة توجيه الاقتصاد السّوري، لتنتج ما أسماه الباحث "احتكار القلّة". وفي ذات الوقت، شهد الاقتصاد السّوري نموًّا يقارب 5 % سنويًّا مرتكزًا على الاستيراد والاستهلاك بدلًا من النّمط الإنتاجي القائم على التّصدير[7].

وبسبب تفشّي الفساد وغياب التّنظيم المؤسّسي، والذي يحوّل الموارد الاسميّة إلى موارد حقيقيّة قابلة للاستخدام بأكبر قدر من الكفاءة لصالح المجتمع[8]، يؤدّي هذا النموّ إلى ما يسمّى "اقتصاد نموّ معاق"، يفتقر إلى التّنمية الحقيقيّة والمستدامة، أي نموّ من دون تنمية. عمل باروت على تحليل نتائجه بشكل دقيق من خلال شرح ما وصل إليه قطاعا الصّناعة والزّراعة، وزيادة نسب الفقر والبطالة، والأهمّ من كلّ ذلك هو التّفاوت في نسب النموّ بين منطقة وأخرى. ولعلّ أبرز الأمثلة على هذه النّتائج فقدان الصّناعة السوريّة أهليّة المنافسة في الأسواق المحلّية، تبعًا لقرارات تحرير التّجارة، إذ دخلت البضاعة الأجنبيّة، وخاصّة التركيّة منها، إلى الأسواق السوريّة، وانحسرت صناعة الأثاث والمنسوجات بشكل خاصّ، ممّا أدّى إلى إغلاق الكثير من المصانع ذات الحجم المتوسّط، ممّا ساهم في زيادة نسب البطالة، لصالح فئة التجّار[9].

يضع الباحث شرط التّنظيم المؤسّسي لكي يتحوّل النموّ إلى تنمية قبل عمليّة التحوّل الدّيمقراطي أو خلالها. ويتلاقى بذلك مع ما طرحه منير الحمش في كتابه "الاقتصاد السّوري في أربعين عامًا: دراسة تحليليّة للتطوّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في سورية 1971-2010"، من حيث ضرورة القضاء على الفساد والإصلاح المؤسّساتي لضمان استمرار النموّ الاقتصادي، ومن ثمّ الانتقال من النموّ إلى التّنمية من خلال تطبيق الآليّات الديمقراطيّة، والتّأكيد على دور المجتمع المدني ودور الدّولة في الحياة الاقتصاديّة، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة[10]. ولا تستطيع الفئات الرأسماليّة الجديدة الاضطلاع عادةً بهذه المهمّة لأنّها تركّز على القطاعات ذات الرّبح السّريع وليس على القطاعات التنمويّة[11]. وإنّما من يتولّى هذه المهمّة عادةً هم المثقّفون، وأفراد الطّبقات الوسطى من ذوي المرتّبات وأصحاب المهن الخاصّة[12]. تتركّز هذه الفئات بشكل أساسي في مدينتَي دمشق وحلب المليونيّتين، ولكن الباحث يوضّح أنّ هذه المدن هي التي حصدت آثار النموّ الإيجابيّة، بينما حصدت المدن المتوسّطة والصّغيرة والأرياف نتائجه السلبيّة. ما يجعلنا نستنتج أنّه لم يبق أمام الفئات المهمّشة من الشّعب السّوري، ولاسيّما الشّباب منها، والمتضرّرة بشكل أكبر من غيرها من السّياسات الحكوميّة، سوى الشّوارع كوسيلة لإيصال مطالبهم في ظلّ غياب المؤسّسات والقنوات السياسيّة الفعّالة والقادرة على التّعبير عن إرادتها ومطالبها، تبعًا لحالة الاستبداد السّياسي.


سيرورة التّغيير بين الثّورة وثورة المجتمعات المحلّية

عمل الباحث على تحقيب مراحل الحركة الاحتجاجيّة في سورية في إطار تحليل اجتماعي لها، مرتكزًا على حدثٍ يمثّل منعطفًا أساسيًّا، يغيّر من قواعد حركة الثّورة. ويسمح بالتحقيب الموضوعاتي أو الاتّجاهي الفرعي. وخلال سرد الباحث مراحل الاحتجاجات يتبيّن للقارئ التّرابط بين الفرضيّات التي طرحها في التّحليل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع السّوري وبين تطوّر الحركات الاحتجاجيّة واكتسابها عدّة أنماط. إذ سيظهر أنّ المناطق التي شهدت الاحتجاجات هي التي تضرّرت من سياسات اللّبرلة الاقتصاديّة، بينما لم تنضمّ المناطق التي تساقطت فيها آثار النموّ الاقتصادي إيجابيًّا أي لمصلحتها إلى الاحتجاجات حتّى تاريخ انتهاء فترة الدّراسة. لكن الباحث يشتقّ قانونيّة لتوسّع الحركات الاحتجاجيّة واحتمال اندلاعها في كلّ لحظة يظهر فيها دور المثير الأمني. وهي قانونيّة اكتشافيّة، ولها بالفعل طاقة تفسيريّة لتطوّر زخم هذه الحركات.

اكتفى الباحث بوصف الحراك الدّمشقي في بداية الاحتجاجات بوصفه عملًا تراكميًّا يندرج تحت تقبّل المجتمع للتّغيير، على الرّغم من تمثيله مختلف الطّبقات والفئات الاجتماعيّة السوريّة[13]. بينما ركّز في تحليله لسرد الأحداث في درعا والمناطق الأخرى على العامل التّضامني المحلّي في دفع زخم الاحتجاج وتطويره، ودوره في إحداث التّغيير. لكن عزمي بشارة في كتابه الثّورة التونسيّة المجيدة يرى أنّ "الأفراد في زمن الثّورات لا يتصرّفون كأفراد ولا كمجاميع من الأفراد بل كشعب"[14]، على الرّغم من إشارته إلى وجود العامل التّضامني العشائري والأهلي وأهمّيته في حالتَي سورية وتونس[15]. ويرى في ذات الوقت أنّ القابليّة للثّورة تحتاج إلى الوعي بأنّ حالة الظّلم ليست طبيعيّة أو مبرّرة ووعي بإمكانيّة الفعل ضدّه[16]. يرى جمال باروت بهذا الخصوص أنّ القابليّة للثورة متوافرة في المدن السوريّة كافّة، ولكن من دون تدخّل العامل المفاجئ أو المثير الأمني لا تتحوّل هذه القابليّة إلى حركة.

يعبّر ما سبق من سياسات اللّبرلة الاقتصاديّة والمثير الأمني عن المفهوم الأساسي الذي بنى عليه باروت محدّدات الحركة الاحتجاجيّة، وهو النّظام التسلّطي المتلبرل. كما أنّ الباحث نجح في استخدام نظريّة المركز والأطراف في إعادة بنائها محليًّا لتوصيف حركة الاحتجاجات في سورية. إذ يجد القارئ أنّ الثورة نجحت في المناطق التي انضمّت فيها مراكز الأطراف إلى الثّورة، ولم تنجح في المناطق التي لم ينضمّ فيها المركز إلى الأطراف. وعند تعميم المقاربة النظريّة على سورية كلّها تصبح دمشق وحلب هما المركز وبقيّة المحافظات هي الأطراف، ولذلك ينظر الباحث إلى الثّورة السوريّة على أنّها ثورة المجتمعات المحلّية.


يوميّات الحركة الاحتجاجيّة في سياقها الاجتماعي


قدّم الباحث تحليلًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا أحيانًا لكلّ مدينة أو منطقة كانت فاعلًا أساسيًّا في حركة الاحتجاجات. ويجد المتتبّع لحركة التّظاهرات الأسباب والعوامل التي شرحها الباحث لكلّ منطقة، والتي دفعت الأهالي إلى الخروج في تظاهرات عبّرت عن نفسها بشعارات الحرّية والكرامة. وسيتبيّن للقارئ أنّ حركة التّظاهرات، كانت تتضاعف عددًا وحجمًا بعد عنف قوى الأمن ضدّ التّظاهرات وسقوط الشّهداء. وبالتّأكيد لا تجري الاحتجاجات في حيّزٍ خاصّ أو مغلق، ولا بدّ لها من أن تتفاعل مع القضايا الاجتماعيّة المحيطة بها سواء كان بشكل إيجابيّ أو سلبيّ.

1. مسألة التسلّح

انطلقت الحركة الاحتجاجيّة في سورية ضمن الوسط الشّعبي الرّيفي في مناطق حوران والمجتمعات المحلّية المهمّشة في المدن الصغيرة والمتوسّطة. ولذلك أخذت مسألة حمل الأهالي السّلاح، خلال فترة الدّراسة، طابعًا بدائيًّا تقليديًّا يعكس واقع البنى الاجتماعيّة العشائريّة والتقليديّة والاقتصاديّة التي انطلقت منها حركة الاحتجاج، وذلك ردًّا على الاقتحامات الأمنيّة المتكرّرة. وهو ما اصطلح عليه الباحث بـ "دفع الصّائل". تمثّلت أوّل حالة لحمل المحتجّين السّلاح خلال اقتحام الجامع العمري في درعا في 23-3-2011، ممّا أدّى إلى مقتل عنصرين من قوّات الأمن[17]. وكان أبرزها ما حدث في جسر الشّغور من مقتل نحو 120 عنصرًا من قوّات الأمن في 6-6-2011 ردًّا على مقتل نحو 30 شخصًا برصاص قوّات الأمن خلال اليومين السّابقيْن.

2. المسألة الطائفيّة

تجلّت الحالة الطائفيّة في اليوميّات التي سردها باروت من خلال مرحلتين، هما:

أ- الوعي الطّائفي البدائي، والذي تجلّى في الحديث الطّائفي الخافت، وتخلّف معظم الجماعات الأهليّة عن المشاركة في الاحتجاجات، وحصول بعض الانحرافات الطائفيّة بشكل عامّ في بعض المناطق، وتأثّر فئات واسعة من الشّارع المحتجّ بأفكار الشّيخ السّلفي عدنان العرعور، والذي يتبنّى خطابًا شعبويًّا غير مدنيّ في جوهره. ممّا أفضى إلى نوعٍ من الفرز الطّائفي الواضح الذي عاشته بعض المدن.

ب - العنف الطّائفي وجرائم الكراهية: ولكنّه ظلّ محدودًا خلال فترة الدّراسة وهو محدّد مكانيًّا في مدينة حمص، والتي شهدت أوّل حادثة عنف طائفي في 16-7-2011 ممهّدة لسلسلة من هذه الأعمال في وقتٍ لاحق. ولم يستطع الباحث الوصول إلى معلومات كافية لشرح هذه الحادثة، والتي تظهر في تفاصيلها إشكاليّة المسألة الطائفيّة في سورية، من حيث مسألة وجودها أو من عدمه وتوزيع الأدوار في المسؤوليّة عن جرائمَ مماثلة.

3. السلفيّة الشعبويّة

اهتمّ الباحث في أكثر من قسم في الكتاب بتناول مسألة السلفيّة الشعبويّة والخلافات الحادّة بين رجال الدّين الفاعلين في سورية. وتكمن الظّروف التي ساعدت على انتشار هذه الظّاهرة في تخلّف جزء كبير من الطّبقة الوسطى والطّبقة المثقّفة في دمشق وحلب عن الالتحاق بالحركة الاحتجاجيّة لأسبابٍ أمنيّة أو مصلحيّة خلال فترة الدّراسة. وتركّز التّظاهرات بشكلٍ أساسي في المناطق الريفيّة والمدن الصّغيرة المهمّشة اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ممّا أفضى إلى تراجع دور العلمانيّين في الثّورة إلى حدٍّ ما على المستوى الشّعبي. واستمرار النّظام في تعاطيه الأمني مع التّظاهرات والاحتجاجات، والذي نجم عنه ظهور الحركات المسلّحة المناوئة للنّظام، والتي تساعد على انتشار مثل هذه الظّواهر.

4. الجديد في المعارضة السوريّة

لم تشهد فترة الدّراسة إلّا مؤتمرات المعارضة السوريّة التي عُقدت في عددٍ من المدن والعواصم في العالم، وظهور أوّل تكتّل سياسي معارض تمثّل في هيئة التّنسيق لقوى التّغيير الدّيمقراطي. لذلك ركّز الباحث على الفاعل الجديد في المعارضة السوريّة وهو التنسيقيّات الميدانيّة، وما تمخّض عنها من تكتّلات مختلفة التوجّهات عاكسة التنوّع الفكري في المجتمع السّوري. نجح الباحث في تحديد الخلفيّة الأيديولوجيّة لأهمّ تكتّلاتها ممثّلة في لجان التّنسيق المحلّية (الأقرب إلى العلمانيّة)، واتّحاد تنسيقيّات الثّورة (الأقرب إلى الإسلاميّين)[18]. أمّا الخلفيّة الاجتماعيّة فقد عكست توجّهات نخب المناطق التي انطلقت منها حركة الاحتجاج.

واجه الباحث مشكلة نقص المعلومات في بعض الحالات، وأخطأ في بعض التّواريخ*، من دون أن يكون لهذه الأخطاء أثر حقيقيّ في تحليل الظّواهر الاجتماعيّة أو السياسيّة.


أين يكمن الحلّ؟

قارن الباحث بين الحالات السوريّة والمصريّة والتونسيّة، وإن كانت أنظمتها تتشابه في أنّها أنظمة تسلطيّة متلبرلة اقتصاديًّا، ولكن مجتمعاتها مختلفة. إذ يبدو المجتمع السّوري ووفقًا لمعطياتٍ سردها الباحث غير متجانسٍ على مستوى الهويّة. إذ لا يبلغ عمر الدولة السوريّة أكثر من سبعين عامًا، وسط فوضى دستوريّة، وغياب مؤسّساتي في آليّة عمل النّظام السّياسي. ورأى الباحث ضرورة أخذ مكانة سورية الجيوسياسيّة بعين الاعتبار في فترة التحوّل من نظام تسلّطي إلى نظام ديمقراطي، في إقليم متعدّد الإثنيّات والطّوائف. ليصل في النّهاية إلى فكرة التّسوية التاريخيّة بين الفاعلين الاجتماعيّين والسياسيّين. تقوم في معطاها الميداني على عدم قدرة الشّارع المنتفض على إسقاط النّظام، ولا قدرة النّظام على إخماد الشّارع، والعودة إلى ما كان عليه قبل الثّورة. ولكن الفكرة الغائبة هي: ما الطّريقة التي تقنع الأطراف السياسيّة بضرورة إنجاز التّسوية السياسيّة؟ يرى باروت أنّ هذا يخرج عن مهمّته كباحث وصاحب رؤية، وإنّما يقع على عاتق السياسيّين، والتّسوية التاريخيّة مطلوبة وأساسيّة وإجباريّة بغضّ النّظر عن نتائج ما ستؤول إليه الأمور في سورية.

يعدّ الكتاب مصدرًا أساسيًّا في المكتبة العربيّة فيما يخصّ الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في سورية في السّنوات العشر الأخيرة. وبالإمكان الاعتماد عليه في فهم طبيعة الأنظمة السياسيّة التسلطيّة قبل الثّورات العربيّة. ولكن، تبرز أهمّيته بوصفه الكتاب الأوّل الذي تناول يوميّات الحركة الاحتجاجيّة في سورية وفق التّحليل الاقتصادي والاجتماعي، والمعتمد على فهم السّلوك السوسيولوجي للشّعوب خلال الثّورات والحركة الاحتجاجيّة المرتكزة على مقاربة نظريّة المركز والأطراف المعاد تفسيرها، ومفتاحيّة مفهوم النّظام التسلّطي المتلبرل اقتصاديًّا، وثورة المجتمعات المحلّية المهمّشة والمستفزّة والمذلّة المهانة. وبذلك يعدّ كتاب باروت مرجعًا أساسيًّا في فهم ماحدث في سورية، وما قد يحدث.