- السبت نوفمبر 23, 2013 1:51 pm
#65835
بقدر ما تختلف المنظورات الغربية حول مفاهيم القوة، بقدر ما تختلف المدارس والاتجاهات الإسلامية، وليس الاستشراقية فقط، حول مفهوم الجهاد، وهو الأمر الذي ولّد خطابات مختلفة حول أبعاده الراهنة([34]) على نحو دفع البعض للقول بأن حالة الغموض أضحت تحيط بالمفهوم (جون اسبوسيتو)، كما دفع البعض الآخر للتساؤل: كيف لنا أن نفهم الجهاد إلا من خلال بناء المفهوم وانطلاقًا من رسم خريطة اتجاهات تعريفه الإسلامية والاستشراقية وبيان أسباب الاختلافات بينها، وتحديد كيف يستدعي ذلك المفهوم مفاهيم أخرى مثل تقسيم الدور ومثل قضية الدعوة ذاتها؟ وكيف يمكن أن نرد الاعتبار لهذا المفهوم الذي اكتسب تدريجيًّا- مع التدهور في أحوال الأمة والاحتلال والتجزئة والاستعمار الجديد والعولمة- سمعة سيئة؟ (د. نادية مصطفى).
ومما لاشك فيه أن مناهج الاقتراب من المفهوم تختلف أيضًا وتتنوع: فإذا كان البعض يقتصر على تقديم اتجاهات التأصيل الفقهي، فإن البعض الآخر يمتد من رؤية العالم الإسلامية ليحدد منطلقات النظر للجهاد باعتباره عملية كلية وقيمة ممتدة وليست مجرد حرب دفاعية أو حرب هجومية (ميشيل بوازار)، وفريق ثالث يقدم مجرد رصد لرؤى مفكرين مسلمين في مراحل متتالية دون أي تصنيف لهم ولكن على نحو يستدعي- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- ما يسمى تجليات التحول من النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة، ومن أهم هذه التجليات الانتقال من النظر للجهاد باعتباره حربًا هجومية أو دفاعية إلى النظر إليه باعتباره حربًا وسلمًا أيضًا (ظافر القاسمي)، وجهود أخرى تضع الجهاد كقيمة مفتاحية وكمدخل من مداخل منظومة سباعية للقيم تمثل مدخلًا منهاجيًّا أو إطارًا مرجعيًّا لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام( د. سيف عبد الفتاح)، وأخيرا هناك جهود رصينة تدرس التطور في مفهوم الجهاد من خلال منهاجية أكثر تركيبًا تجمع بين دراسة تطور التأصيل الفقهي والتطور في الوقائع التاريخية والتطور في الرؤى الفكرية والممارسات (ردودولف بيترز). ومن ثم فهي تقترب من مجال العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب من مدخل عقيدة الجهاد أكثر من كونها تقوم على بناء المفهوم ذاته. بعبارة أخرى، فإن "بيترز" يعتبر مفهوم أو عقيدة الجهاد هي مفتاح العلاقة بين المسلمين والغرب، وهو توجه أقل تحيزًا من توجه الكتابات التي تتخذ عنوانًا لها: الحرب في الإسلام، ثم تستدعي في داخلها مفهوم الجهاد وهي في معرض شرح نظريات الحرب، كما لو أن الجهاد هو الحرب فقط.
وأتوقف هنا عند هذا النموذج الأخير؛ لأنه يستدعي "الفكر الإسلامي" حول الجهاد وليس مجرد فقه وأحكام الجهاد، فضلاً عن أنه يضيف جانب الحركة والممارسة. وهذا النموذج- وهو استشراقي حديث- مثله مثل "برنارد لويس" و"مجيد خدوري" يهتم بإشكالية الفارق بين المثل والواقع.
وبالنظر إلى حجج طرح "بيترز"، نجدنا مرة أخرى أمام نفس الإشكالية المنهاجية الخطيرة التي طرحناها خلال عرض فكر "برنارد لويس" و"مجيد خدوري"؛ فإن "بيترز" بدوره يصل بهذه النتيجة إلى نفس النتائج أو الأهداف البحثية التي سعت ورائها عدد من كتابات المستشرقين الذين طبقوا أساليب التحليل الحديثة في العلوم الاجتماعية، أي أساليب تحليل تأثير البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الأفكار وعلى النظريات. وهذا الهدف هو ما أسميه تفسير الفجوة بين المثل والنظرية في الإسلام وبين الخبرة التاريخية والواقع. وهي التفسيرات التي بيَّنت أن الضغوط والظروف المحيطة بالمسلمين في ظل ضعفهم واحتلالهم وتجزؤهم، قد أثرت على نحو اضطرهم للاعتراف بالأمر الواقع ومن ثم محاولة تقديم تفسير جديد للجهاد أو دوافع جديدة للحرب تقيد من حدود وأهداف الجهاد، على اعتبار أن الجهاد في الأصل هو القتال من أجل نشر الإسلام وليس الدفاع عن المسلمين حربًا أو سلمًا. وبالطبع، فإن لهذا التفسير- كما سبق الإشارة- وجه آخر يتصل بفقه الاجتهاد والتجديد وأصوله وقواعده في إطار فقه الواقع القائم وفقه النص. فكيف نستطيع أن نتصدى لهذا الوجه الآخر ونبرزه لنتمكن من فهم قواعد وأسس تقديم خطاب بنائي تجديدي لا يسقط في أي من التصنيفات الثلاثة السابقة، فهي صدى للفكر الاستشراقي المتحيز في رؤيته عن الجهاد في الإسلام ابتداء. كما لا يُسقط من ناحية أخرى تحيزات أخرى لتصنيفات إسلامية لم تعط لفقه الواقع حقه من التدبر، فإما ظلت أسيرة اتجاهات فقهية سابقة، أو وقعت أسيرة الدفاع فقط. وهذا الخطاب البنائي التجديدي سيقدم مفهوما واقعيًا قيميًّا للجهاد ينطلق من رؤية الإسلام الكونية (القيمية) ولكن دون انفصال عن مقتضيات القوة. ومن ثم، يمكن أن يمثل هذا المفهوم تراكمًا في مجال دراسات العلاقات الدولية، في موضع وسط بين دراسات الحرب والسلام والواقعية وبين دراسات الليبرالية التعددية عن السلم وحل النـزاعات.
خلاصة القول: إن بناء مفاهيم مثل: الجهاد، القوة، الأمة، الدولة، بما يتناسب ومتطلبات التناول في حقل العلاقات الدولية من منظور حضاري إسلامي، إنما لابد وأن يختلف عن تناولها كمفاهيم ترتبط بقضايا ومجالات الدراسات الإسلامية بصفة عامة أو دراسات الفكر السياسي الإسلامي بصفة خاصة، حيث إن الغاية من تناولهم كأبعاد نظرية في دراسة العلاقات الدولية متعددة. وعلى رأس هذه الغايات شرح الأبعاد القيمية في مفاهيم المنظور الحضاري الإسلامي مقارنة بالأبعاد المادية الغالبة على المفاهيم المناظرة من منظورات غربية. كما أن الهدف أيضًا هو دراسة الفارق بين ماهية وطبيعة الأبعاد القيمية التي اتجهت للاهتمام بها والدعوة إلى رد الاعتبار لها من جديد اتجاهات حديثة غربية في نظرية العلاقات الدولية. ناهيك -بالطبع- عن التراكم الذي تحققه بالنسبة للتأصيل الحضاري، إلى جانب التأصيل الشرعي، لهذه المفاهيم.
ومما لاشك فيه أن مناهج الاقتراب من المفهوم تختلف أيضًا وتتنوع: فإذا كان البعض يقتصر على تقديم اتجاهات التأصيل الفقهي، فإن البعض الآخر يمتد من رؤية العالم الإسلامية ليحدد منطلقات النظر للجهاد باعتباره عملية كلية وقيمة ممتدة وليست مجرد حرب دفاعية أو حرب هجومية (ميشيل بوازار)، وفريق ثالث يقدم مجرد رصد لرؤى مفكرين مسلمين في مراحل متتالية دون أي تصنيف لهم ولكن على نحو يستدعي- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- ما يسمى تجليات التحول من النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة، ومن أهم هذه التجليات الانتقال من النظر للجهاد باعتباره حربًا هجومية أو دفاعية إلى النظر إليه باعتباره حربًا وسلمًا أيضًا (ظافر القاسمي)، وجهود أخرى تضع الجهاد كقيمة مفتاحية وكمدخل من مداخل منظومة سباعية للقيم تمثل مدخلًا منهاجيًّا أو إطارًا مرجعيًّا لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام( د. سيف عبد الفتاح)، وأخيرا هناك جهود رصينة تدرس التطور في مفهوم الجهاد من خلال منهاجية أكثر تركيبًا تجمع بين دراسة تطور التأصيل الفقهي والتطور في الوقائع التاريخية والتطور في الرؤى الفكرية والممارسات (ردودولف بيترز). ومن ثم فهي تقترب من مجال العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب من مدخل عقيدة الجهاد أكثر من كونها تقوم على بناء المفهوم ذاته. بعبارة أخرى، فإن "بيترز" يعتبر مفهوم أو عقيدة الجهاد هي مفتاح العلاقة بين المسلمين والغرب، وهو توجه أقل تحيزًا من توجه الكتابات التي تتخذ عنوانًا لها: الحرب في الإسلام، ثم تستدعي في داخلها مفهوم الجهاد وهي في معرض شرح نظريات الحرب، كما لو أن الجهاد هو الحرب فقط.
وأتوقف هنا عند هذا النموذج الأخير؛ لأنه يستدعي "الفكر الإسلامي" حول الجهاد وليس مجرد فقه وأحكام الجهاد، فضلاً عن أنه يضيف جانب الحركة والممارسة. وهذا النموذج- وهو استشراقي حديث- مثله مثل "برنارد لويس" و"مجيد خدوري" يهتم بإشكالية الفارق بين المثل والواقع.
وبالنظر إلى حجج طرح "بيترز"، نجدنا مرة أخرى أمام نفس الإشكالية المنهاجية الخطيرة التي طرحناها خلال عرض فكر "برنارد لويس" و"مجيد خدوري"؛ فإن "بيترز" بدوره يصل بهذه النتيجة إلى نفس النتائج أو الأهداف البحثية التي سعت ورائها عدد من كتابات المستشرقين الذين طبقوا أساليب التحليل الحديثة في العلوم الاجتماعية، أي أساليب تحليل تأثير البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الأفكار وعلى النظريات. وهذا الهدف هو ما أسميه تفسير الفجوة بين المثل والنظرية في الإسلام وبين الخبرة التاريخية والواقع. وهي التفسيرات التي بيَّنت أن الضغوط والظروف المحيطة بالمسلمين في ظل ضعفهم واحتلالهم وتجزؤهم، قد أثرت على نحو اضطرهم للاعتراف بالأمر الواقع ومن ثم محاولة تقديم تفسير جديد للجهاد أو دوافع جديدة للحرب تقيد من حدود وأهداف الجهاد، على اعتبار أن الجهاد في الأصل هو القتال من أجل نشر الإسلام وليس الدفاع عن المسلمين حربًا أو سلمًا. وبالطبع، فإن لهذا التفسير- كما سبق الإشارة- وجه آخر يتصل بفقه الاجتهاد والتجديد وأصوله وقواعده في إطار فقه الواقع القائم وفقه النص. فكيف نستطيع أن نتصدى لهذا الوجه الآخر ونبرزه لنتمكن من فهم قواعد وأسس تقديم خطاب بنائي تجديدي لا يسقط في أي من التصنيفات الثلاثة السابقة، فهي صدى للفكر الاستشراقي المتحيز في رؤيته عن الجهاد في الإسلام ابتداء. كما لا يُسقط من ناحية أخرى تحيزات أخرى لتصنيفات إسلامية لم تعط لفقه الواقع حقه من التدبر، فإما ظلت أسيرة اتجاهات فقهية سابقة، أو وقعت أسيرة الدفاع فقط. وهذا الخطاب البنائي التجديدي سيقدم مفهوما واقعيًا قيميًّا للجهاد ينطلق من رؤية الإسلام الكونية (القيمية) ولكن دون انفصال عن مقتضيات القوة. ومن ثم، يمكن أن يمثل هذا المفهوم تراكمًا في مجال دراسات العلاقات الدولية، في موضع وسط بين دراسات الحرب والسلام والواقعية وبين دراسات الليبرالية التعددية عن السلم وحل النـزاعات.
خلاصة القول: إن بناء مفاهيم مثل: الجهاد، القوة، الأمة، الدولة، بما يتناسب ومتطلبات التناول في حقل العلاقات الدولية من منظور حضاري إسلامي، إنما لابد وأن يختلف عن تناولها كمفاهيم ترتبط بقضايا ومجالات الدراسات الإسلامية بصفة عامة أو دراسات الفكر السياسي الإسلامي بصفة خاصة، حيث إن الغاية من تناولهم كأبعاد نظرية في دراسة العلاقات الدولية متعددة. وعلى رأس هذه الغايات شرح الأبعاد القيمية في مفاهيم المنظور الحضاري الإسلامي مقارنة بالأبعاد المادية الغالبة على المفاهيم المناظرة من منظورات غربية. كما أن الهدف أيضًا هو دراسة الفارق بين ماهية وطبيعة الأبعاد القيمية التي اتجهت للاهتمام بها والدعوة إلى رد الاعتبار لها من جديد اتجاهات حديثة غربية في نظرية العلاقات الدولية. ناهيك -بالطبع- عن التراكم الذي تحققه بالنسبة للتأصيل الحضاري، إلى جانب التأصيل الشرعي، لهذه المفاهيم.