By عبدالرحمن السحيم 704 - الجمعة نوفمبر 29, 2013 8:54 am
- الجمعة نوفمبر 29, 2013 8:54 am
#66538
كان الخبر سارا : أعلن البنك العالمي أنه يتوقع ارتفاع نمو الاقتصاد الجزائري ب 3,2% في 2013 وب 4,3% في 2015. الاقتصاد يرتاح للأمن والاستقرار، كما هو معلوم، والجزائر تستأهل وتستطيع، بل يتعين عليها تحقيق أفضل مما ذكر لتصبح من القوى الصاعدة اقتصاديا، شريطة التصدي للأهم: الإقدام على مصالحة وطنية حقيقية، على مرحلة انتقالية سلمية إلى الديمقراطية الصحيحة.
كان الخبر مشجعا إذن لمن يحب هذه البلاد دون تحزب، وإذا بخبر تدخل فرنسي جديد على حدودنا، متبوع على الفور بقضية إن أمناس داخل أراضينا ومنذر بمآسي قادمة إلى المنطقة برمتها. لم يخطئ أحد في الجزائر الفهم والكل قلق.لكن الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، وحده أجزم هادئا وواثقا من نفسه أن “ما يجري في الجزائر يبرر أكثر قرار الإقدام على مساعدة مالي” (تصريح 17 يناير)، ضاربا هكذا مثالا على تحريف المنطق باللجوء إلى منطق تراجعي لتبرير حدث بآخر يليه، وموضحا المناسبة أن المولع بالنار يشعلها في ديار الآخرين ثم يهرع ليقدم يد العون.
السيادة
أدى التدخل الفرنسي السابق في ليبيا إلى زعزعة استقرار المنطقة، ومع ذلك، ها هو الرئيس الفرنسي يبرر تدخلا جديدا بلا خجل ويسعى إلى جرنا إليه.
إذا تمكنت الجزائر من التقدم بعض الشيء، فذلك يعود إلى وجود إجماع معين فيها واستمراره قائما حتى الآن حول المكسب الرئيسي لحرب الاستقلال،رغم اختلاف الآراء وعمق التباينات والتمزقات الداخلية: الإجماع حول السيادة الوطنية. لا حرية لشعب حيث لا سيادة وهذه القيمة ليست سياسية وأخلاقية فحسب وإنما هي قيمة اقتصادية أيضا، تتجلى ضرورتها عبر مدلول السيادة على الثروات الوطنية. هذا هو الخط الأحمر الذي لا يستطيع أحد أن يتجاوزه دون الخروج من الجماعة الوطنية، وهو أيضا الخط الأحمر الذي يميز أصدقاءنا الحقيقيين من المزيفين.
عندما يقوم الوزير الفرنسي للخارجية، لوران فابيوس، ب”وشاية” بريئة على ما يبدو، كاشفا من خلالها أن الجزائر سمحت للطيران الحربي الفرنسي بعبور إقليمها، فهو يضرب عصفورين بحجر واحد: تعرية ثغرة في سيادة البلاد –طالما أن تبني أي قرار سيادي حقيقي يتم في وضح النهار ولا يحتمل أي مسوغ لإخفائه- وتوريط الجزائر رغما عنها في الحرب في مالي. وفي كلتا الحالتين النتيجة واحدة: إضعاف الإجماع الوطني وبالتالي مناعة البلاد. فالهدف من “وشاية” الوزير الفرنسي ليس تقنيا فحسب، أي تسهيل عمل فرنسا العسكري، وإنما سياسيا كذلك، وهو التدخل في الحياة السياسية الجزائرية، الأمر الذي يشهد عليه الجدال المحتدم الدائر حاليا حول مسألة السيادة الوطنية. حقا إن تحليق الطيران الحربي الفرنسي في أجواء الجزائر لهو هدية عجيبة في الذكرى الخمسين لتحرير البلاد، قبلتها السلطات الفرنسية بسرور ممزوج بالدهشة كأنها لم تكن تتوقعها.
عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن السيادة الوطنية يتوجب الدفاع عنها على طول الخط.لا يمكن استحضاره بشأن قضية الرهائن وإظهار حرص أقل بشأن فتح المجال الجوي لطيران حربي أجنبي.
في إطار العلاقات التاريخية الخاصة بين الجزائر وفرنسا، يحمل كل تنازل عن السيادة – مهما كان صغيرا- خطر تحويله إلى عودة للعلاقات الاستعمارية. من هذه الزاوية تعتبر أزمة مالي بالذات نموذجية. ففرنسا التي بادرت بشن الحرب تشكو من بقائها وحيدة هناك حتى الآن. إن البلدان الأوربية، لاسيما الكبرى منها كألمانيا وانجلترا وإيطاليا، لم تتجاوب بحماس مع نداءات فرنسا الالتحاق بها، كأنها تقول:”إنها بدأت بمفردها، فلتواصل منفردة”، أو كأنها تشير إلى أن التدخل العسكري الفرنسي يستجيب لمصالح فرنسا الأنانية وليس لمصلحة الغرب ككل. بعبارة أخرى، يكون ذلك التدخل من النوع الذي ميز العهود الغابرة التي شهدت قيام كل بلد غربي باقتطاع إمبراطورية خاصة به. باختصار: إننا أمام حملة استعمارية وما اقتصار الانخراط فيها حتى الآن على البلدان الإفريقية المنتمية لجوزها الاستعماري إلا برهانا ملموسا على طابعها وعلى عودة زمن الرماة الأفارقة الذين كانوا يجندون للموت من أجل فرنسا، من أجل قضية لم تكن قضيتهم.
لا يعقل أن تظهر الجزائر كأنها جزء من ذلك الحوز الاستعماري،ولو كان للحظة،ولا يعقل بعث ماضي تلك المراسم المخلدة لروح “جزائريين ماتوا من أجل فرنسا”، ولو كان على سبيل الاحتمال.ومع ذلك،كل هذا وارد إن لم تقاوم الجزائر محاولة جرها إلى الحرب الفرنسية في مالي.
من جانبها تبدي البلدان الأوربية المزيد من التحفظات إزاء هذه الحرب إثر موقعة إن أمناس،لاسيما بعد التعليق البارد لفرنسوا هولاند على تلك المأساة الذي رأت فيه تلك البلدان تعبيرا عن استخفاف بحياة الضحايا الغربيين غير الفرنسيين ودليلا آخر على الروح الكامنة في المغامرة الفرنسية في مالي.
في الجزائر تعالت بعض الأصوات ترديدا للطرح الفرنسي القائل بأن في مالي لا خيار “بين الهمجية الإرهابية والتدخل العسكري”.وفي خضم تغطيتها على كلامها الفارغ بالمزايدة القومية المحلية، ذهبت تلك الأصوات إلى حد التصريح بأنه كان على الجزائر أن تقوم بذلك التدخل “بصفتها قوة إقليمية” وبأنه “لا يجوز بالتالي أن نلوم فرنسا التي عاد إليها فضل الإقدام عليه وفي إظهار الثبات على موقفها.” بعبارة أخرى، تقوم نفس الأصوات التي دافعت عن التدخل العسكري في ليبيا بإعادة الكرة دون حياء بعد الكارثة الليبية.
هذا التواطؤ، الذي تريد فرنسا الرسمية أن تسقط الجزائر في شراكه، يستحيل حدوثه دون التخلي عن مثل ثورة نوفمبر 1954.
بدأ التدخل العسكري في مالي يسفر عن سيل من الدموع والدماء، كما بدأت ترد أنباء عن إعدامات بلا محاكمة لماليين من الشمال “يشتبه في تواطؤهم” مع المتمردين (جريدة لو موند، 15 يناير) وعن تدافع آلاف اللاجئين صوب الحدود الجزائرية “المغلقة” إيذانا بانطلاق مسلسل الأضرار الجانبية في هذه البلاد أيضا.
المأساة
كان الخبر مشجعا إذن لمن يحب هذه البلاد دون تحزب، وإذا بخبر تدخل فرنسي جديد على حدودنا، متبوع على الفور بقضية إن أمناس داخل أراضينا ومنذر بمآسي قادمة إلى المنطقة برمتها. لم يخطئ أحد في الجزائر الفهم والكل قلق.لكن الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، وحده أجزم هادئا وواثقا من نفسه أن “ما يجري في الجزائر يبرر أكثر قرار الإقدام على مساعدة مالي” (تصريح 17 يناير)، ضاربا هكذا مثالا على تحريف المنطق باللجوء إلى منطق تراجعي لتبرير حدث بآخر يليه، وموضحا المناسبة أن المولع بالنار يشعلها في ديار الآخرين ثم يهرع ليقدم يد العون.
السيادة
أدى التدخل الفرنسي السابق في ليبيا إلى زعزعة استقرار المنطقة، ومع ذلك، ها هو الرئيس الفرنسي يبرر تدخلا جديدا بلا خجل ويسعى إلى جرنا إليه.
إذا تمكنت الجزائر من التقدم بعض الشيء، فذلك يعود إلى وجود إجماع معين فيها واستمراره قائما حتى الآن حول المكسب الرئيسي لحرب الاستقلال،رغم اختلاف الآراء وعمق التباينات والتمزقات الداخلية: الإجماع حول السيادة الوطنية. لا حرية لشعب حيث لا سيادة وهذه القيمة ليست سياسية وأخلاقية فحسب وإنما هي قيمة اقتصادية أيضا، تتجلى ضرورتها عبر مدلول السيادة على الثروات الوطنية. هذا هو الخط الأحمر الذي لا يستطيع أحد أن يتجاوزه دون الخروج من الجماعة الوطنية، وهو أيضا الخط الأحمر الذي يميز أصدقاءنا الحقيقيين من المزيفين.
عندما يقوم الوزير الفرنسي للخارجية، لوران فابيوس، ب”وشاية” بريئة على ما يبدو، كاشفا من خلالها أن الجزائر سمحت للطيران الحربي الفرنسي بعبور إقليمها، فهو يضرب عصفورين بحجر واحد: تعرية ثغرة في سيادة البلاد –طالما أن تبني أي قرار سيادي حقيقي يتم في وضح النهار ولا يحتمل أي مسوغ لإخفائه- وتوريط الجزائر رغما عنها في الحرب في مالي. وفي كلتا الحالتين النتيجة واحدة: إضعاف الإجماع الوطني وبالتالي مناعة البلاد. فالهدف من “وشاية” الوزير الفرنسي ليس تقنيا فحسب، أي تسهيل عمل فرنسا العسكري، وإنما سياسيا كذلك، وهو التدخل في الحياة السياسية الجزائرية، الأمر الذي يشهد عليه الجدال المحتدم الدائر حاليا حول مسألة السيادة الوطنية. حقا إن تحليق الطيران الحربي الفرنسي في أجواء الجزائر لهو هدية عجيبة في الذكرى الخمسين لتحرير البلاد، قبلتها السلطات الفرنسية بسرور ممزوج بالدهشة كأنها لم تكن تتوقعها.
عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن السيادة الوطنية يتوجب الدفاع عنها على طول الخط.لا يمكن استحضاره بشأن قضية الرهائن وإظهار حرص أقل بشأن فتح المجال الجوي لطيران حربي أجنبي.
في إطار العلاقات التاريخية الخاصة بين الجزائر وفرنسا، يحمل كل تنازل عن السيادة – مهما كان صغيرا- خطر تحويله إلى عودة للعلاقات الاستعمارية. من هذه الزاوية تعتبر أزمة مالي بالذات نموذجية. ففرنسا التي بادرت بشن الحرب تشكو من بقائها وحيدة هناك حتى الآن. إن البلدان الأوربية، لاسيما الكبرى منها كألمانيا وانجلترا وإيطاليا، لم تتجاوب بحماس مع نداءات فرنسا الالتحاق بها، كأنها تقول:”إنها بدأت بمفردها، فلتواصل منفردة”، أو كأنها تشير إلى أن التدخل العسكري الفرنسي يستجيب لمصالح فرنسا الأنانية وليس لمصلحة الغرب ككل. بعبارة أخرى، يكون ذلك التدخل من النوع الذي ميز العهود الغابرة التي شهدت قيام كل بلد غربي باقتطاع إمبراطورية خاصة به. باختصار: إننا أمام حملة استعمارية وما اقتصار الانخراط فيها حتى الآن على البلدان الإفريقية المنتمية لجوزها الاستعماري إلا برهانا ملموسا على طابعها وعلى عودة زمن الرماة الأفارقة الذين كانوا يجندون للموت من أجل فرنسا، من أجل قضية لم تكن قضيتهم.
لا يعقل أن تظهر الجزائر كأنها جزء من ذلك الحوز الاستعماري،ولو كان للحظة،ولا يعقل بعث ماضي تلك المراسم المخلدة لروح “جزائريين ماتوا من أجل فرنسا”، ولو كان على سبيل الاحتمال.ومع ذلك،كل هذا وارد إن لم تقاوم الجزائر محاولة جرها إلى الحرب الفرنسية في مالي.
من جانبها تبدي البلدان الأوربية المزيد من التحفظات إزاء هذه الحرب إثر موقعة إن أمناس،لاسيما بعد التعليق البارد لفرنسوا هولاند على تلك المأساة الذي رأت فيه تلك البلدان تعبيرا عن استخفاف بحياة الضحايا الغربيين غير الفرنسيين ودليلا آخر على الروح الكامنة في المغامرة الفرنسية في مالي.
في الجزائر تعالت بعض الأصوات ترديدا للطرح الفرنسي القائل بأن في مالي لا خيار “بين الهمجية الإرهابية والتدخل العسكري”.وفي خضم تغطيتها على كلامها الفارغ بالمزايدة القومية المحلية، ذهبت تلك الأصوات إلى حد التصريح بأنه كان على الجزائر أن تقوم بذلك التدخل “بصفتها قوة إقليمية” وبأنه “لا يجوز بالتالي أن نلوم فرنسا التي عاد إليها فضل الإقدام عليه وفي إظهار الثبات على موقفها.” بعبارة أخرى، تقوم نفس الأصوات التي دافعت عن التدخل العسكري في ليبيا بإعادة الكرة دون حياء بعد الكارثة الليبية.
هذا التواطؤ، الذي تريد فرنسا الرسمية أن تسقط الجزائر في شراكه، يستحيل حدوثه دون التخلي عن مثل ثورة نوفمبر 1954.
بدأ التدخل العسكري في مالي يسفر عن سيل من الدموع والدماء، كما بدأت ترد أنباء عن إعدامات بلا محاكمة لماليين من الشمال “يشتبه في تواطؤهم” مع المتمردين (جريدة لو موند، 15 يناير) وعن تدافع آلاف اللاجئين صوب الحدود الجزائرية “المغلقة” إيذانا بانطلاق مسلسل الأضرار الجانبية في هذه البلاد أيضا.
المأساة