- الأحد ديسمبر 01, 2013 10:14 pm
#67010
كانت وستبقى المشكلة التي ترتبت على المرحلة الانتقالية المرتبكة التي مرت، ثم المرحلة التي تلتها بعد الانتخابات البرلمانية، ثم اختيار رئيس منتخب، وصياغة الدستور، تتمثل في معضلتين : إحداهما كيفية إصلاح ما أوجده الحكم السابق من نظام معاق في الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والعدالة الاجتماعية وغير ذلك، والثانية : بقايا ما كان قد شاع من ثقافة فاسدة مفسدة، غرست في عقول البعض لعشرات السنين، منظومة تفكير وسلوك تتصادم مع أي خطط لإصلاح ما فات، خاصة أن أصحاب هذه العقول ظلوا يديرون مواقع مهمة وحساسة في الدولة، وأي إصلاح أو تغيير كان يلزمه أن يتحرك المساران معا. فقبل الإصلاح وإعادة بناء الدولة تكون الأولوية لتحرير العقول فهي التي تبني.
هنا ــ أستشهد بتشخيص للرئيس التشيكي الذي رحل أخيرا، فاسلاف هافل، وهو مفكر سياسي مرموق كانت أعماله المسرحية قد منعت من العرض في السبعينيات والثمانينيات، بسبب معارضته للحكم الدكتاتوري في بلاده، وهو صاحب تجربة ثرية في تشخيص معضلة المسار الثاني للإصلاح في الدول التي كانت من الحكم الدكتاتوري، قال هافل في أحد كتاباته : إن الدكتاتورية المستبدة تنفذ إلى عمق نفوس ضحاياها. ولا يحتاج النظام بعدها إلى فرض نفسه بالقوة، فالذين نفذت في عقولهم أفكارها واستسلموا لها، يقومون من جانبهم بتشكيل القيد الذي يكبلون به عقولهم، في إذعان تلقائي لأسيادهم، هؤلاء يعيشون في قلب أكذوبة يلقنها لهم النظام، ويتقبلونها طائعين، ولا يستطيع أحد إنقاذهم منها، فقد تجرعوا ثقافة مسمومة، وليس كل المواطنين ضحايا للثقافة المسمومة، لكنها كانت تسري في عقول من يفتقدون القدرة على التفكير الحر، واستقلالية الرؤية والقرار، والتوازن النفسي، والذين يرتضون الخضوع طلبا للسلامة، واختيار النفاق ضمانا للأمان والترقي في المناصب، والكسب المادي من خدمتهم للنظام.
وظل من أول أسباب إعاقة عملية إعادة بناء الدولة، وحل مشاكلها المزمنة والمتراكمة، وإطلاق خطط الإصلاح والتقدم، استبقاء عناصر مرتبطة ذهنيا بالنظام السابق في قيادة وإدارة نفس المواقع الحساسة.
فمنذ ثورة 25 يناير، واجهت إدارة الدولة مشكلة عقول استحكم فيها ميراث من ثقافة النظام السابق، وهي ثقافة كانت دائما في موقف العداء لمطالب التغيير، متشبثة بعقيدة إبقاء الحال على ما هو عليه.
وأصل مشكلة النظام السابق، أنه كان فاقدا للخيال والرؤية الخلاقة، وأي تبصر بالتغييرات الجارية في المزاج النفسي والاجتماعي للمصريين، وتحولات هائلة تجري من حوله في النظام الدولي، وآلياته المستجدة في الحكم والإدارة، وعزلته عن دواعي مجاراة عصر ثورة المعرفة التي تجتاح العالم، فكان أن طبع النظام نفسه على عقلية هؤلاء الذين جرهم في ركبه، لدرجة أنك كنت ترى من بينهم من هو على قدر عال من العلم والثقافة، لكنه يردد نفس لغة النظام الجوفاء، المعزولة عن الواقع، والتي تستخف بعقول المواطنين، والنظام ورجاله غافلون عن تغير داخلي كاسح، شمل قطاعا من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمين، الذين فهموا هذه المتغيرات واتصلوا بالواقع داخليا وخارجيا، بما أتيح لهم من وسائل ثورة المعلومات التي مكنتهم من الاطلاع على ما يجري من تطور وتغير في الأفكار، والنظريات السياسية والاقتصادية، وأنظمة إدارة الدول.
وسط ذلك كله، كانت هناك ضرورة ملحة في السير في المسار الخاص بعلاج موروثات ثقافة مسمومة، مازالت بقاياها ترتع في جسد الدولة، ومن بينها:
أن النظام السابق كغيره من النظم الاستبدادية، قد استبدل مبدأ الأمن القومي للدولة، بمفهوم أمن النظام، وهو مفهوم هدام يقوم على حشد طاقات وإمكانات الدولة وراء هدف بقاء النظام الاستبدادي، وتحقيق مجمل أهدافه والبقاء الدائم للرئيس، ثم توريث ابنه من بعده، ومد أذرعة جهاز أمن الدولة ــ أولى دعائم مفهوم أمن النظام ــ في مختلف قطاعات المجتمع، بالإغراءات المادية وغير المادية، وبالتخويف والترهيب، والتعذيب، وإهدار كرامة المواطن، لحشد كوادر يكون دورها التخديم على فكرة أمن النظام.
ولم يكن معظم رجال النظام المختارين بمقاييسه هو مجرد شاغلين للمناصب، يؤدون وظيفة عامة، بل هم عناصر تشربت فكر النظام، متأهبون لأداء ما يطلب منهم من خدمات.
ترويج النظام لخطاب معبأ بمعان مغلوطة، تستخف بالعقول، فهو يتحدث عن شرعية الحكم وديمقراطيته، وهو أول من يعرف أنه يحكم بانتخابات مزورة دائما، وحين كان صحفيون أجانب يسألون قيادات النظام : لماذا لا تطبقون الديمقراطية؟.. كان ردهم : المصريون ليست لديهم ثقافة الديمقراطية.
بينما الكل يعلم أن احتكار تنظيم سياسي واحد للحياة السياسية لعشرات السنين، وهو لا يقبل منافسا فهو يحجر على حرية الرأي والتعبير، مما يعمل على تغييب ثقافة الديمقراطية قسرا وقهرا.
خطيئته الكبرى في التسبب في تفشي ظاهرة العشوائيات وأطفال الشوارع، التي لم يخصص لها الموارد بتوفير فرص عمل، وإسكان مناسب، بينما هو مشغول باكتناز الثروات بعمليات النهب المنظم للأموال، وتهريبها للخارج، ولا تزال هذه الظاهرة - وهي من صنع يديه - تفرز سلوكياتها الفوضوية التي تسمم جسد الدولة، وغير ذلك الكثير.
إن ثلاثين عاما من ممارسة قطاع ممن تشربوا ثقافة الإذعان المسمومة التي أوغلت في النفوس، وشكلت العقول، وسيطرت على طرق تفكيرها، تفرض ضرورات إعادة هيكلة مواقع عديدة على رأسها أمن الدولة، لتسير خطوة خطوة مع خطط الإصلاح والبناء، وإلا ظل هناك تصادم بين الخطط، وبين القدرة على التنفيذ، والمشكلة ليست في أشخاص، لكنها في منظومة تفكير وقيم، تستعبد قطاعا من أفراد لم يستطيعوا بسهولة تحرير عقولهم منها، إما بحكم طبيعة الشخصية، أو بدافع ما كان متاحا لهم من مزايا ومكاسب، إلا من كان منهم لديه الإرادة الحقيقية لعلاج نفسه من سموم الفكر الاستبدادي المتخلف عن العصر والأمن والتاريخ.
هنا ــ أستشهد بتشخيص للرئيس التشيكي الذي رحل أخيرا، فاسلاف هافل، وهو مفكر سياسي مرموق كانت أعماله المسرحية قد منعت من العرض في السبعينيات والثمانينيات، بسبب معارضته للحكم الدكتاتوري في بلاده، وهو صاحب تجربة ثرية في تشخيص معضلة المسار الثاني للإصلاح في الدول التي كانت من الحكم الدكتاتوري، قال هافل في أحد كتاباته : إن الدكتاتورية المستبدة تنفذ إلى عمق نفوس ضحاياها. ولا يحتاج النظام بعدها إلى فرض نفسه بالقوة، فالذين نفذت في عقولهم أفكارها واستسلموا لها، يقومون من جانبهم بتشكيل القيد الذي يكبلون به عقولهم، في إذعان تلقائي لأسيادهم، هؤلاء يعيشون في قلب أكذوبة يلقنها لهم النظام، ويتقبلونها طائعين، ولا يستطيع أحد إنقاذهم منها، فقد تجرعوا ثقافة مسمومة، وليس كل المواطنين ضحايا للثقافة المسمومة، لكنها كانت تسري في عقول من يفتقدون القدرة على التفكير الحر، واستقلالية الرؤية والقرار، والتوازن النفسي، والذين يرتضون الخضوع طلبا للسلامة، واختيار النفاق ضمانا للأمان والترقي في المناصب، والكسب المادي من خدمتهم للنظام.
وظل من أول أسباب إعاقة عملية إعادة بناء الدولة، وحل مشاكلها المزمنة والمتراكمة، وإطلاق خطط الإصلاح والتقدم، استبقاء عناصر مرتبطة ذهنيا بالنظام السابق في قيادة وإدارة نفس المواقع الحساسة.
فمنذ ثورة 25 يناير، واجهت إدارة الدولة مشكلة عقول استحكم فيها ميراث من ثقافة النظام السابق، وهي ثقافة كانت دائما في موقف العداء لمطالب التغيير، متشبثة بعقيدة إبقاء الحال على ما هو عليه.
وأصل مشكلة النظام السابق، أنه كان فاقدا للخيال والرؤية الخلاقة، وأي تبصر بالتغييرات الجارية في المزاج النفسي والاجتماعي للمصريين، وتحولات هائلة تجري من حوله في النظام الدولي، وآلياته المستجدة في الحكم والإدارة، وعزلته عن دواعي مجاراة عصر ثورة المعرفة التي تجتاح العالم، فكان أن طبع النظام نفسه على عقلية هؤلاء الذين جرهم في ركبه، لدرجة أنك كنت ترى من بينهم من هو على قدر عال من العلم والثقافة، لكنه يردد نفس لغة النظام الجوفاء، المعزولة عن الواقع، والتي تستخف بعقول المواطنين، والنظام ورجاله غافلون عن تغير داخلي كاسح، شمل قطاعا من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمين، الذين فهموا هذه المتغيرات واتصلوا بالواقع داخليا وخارجيا، بما أتيح لهم من وسائل ثورة المعلومات التي مكنتهم من الاطلاع على ما يجري من تطور وتغير في الأفكار، والنظريات السياسية والاقتصادية، وأنظمة إدارة الدول.
وسط ذلك كله، كانت هناك ضرورة ملحة في السير في المسار الخاص بعلاج موروثات ثقافة مسمومة، مازالت بقاياها ترتع في جسد الدولة، ومن بينها:
أن النظام السابق كغيره من النظم الاستبدادية، قد استبدل مبدأ الأمن القومي للدولة، بمفهوم أمن النظام، وهو مفهوم هدام يقوم على حشد طاقات وإمكانات الدولة وراء هدف بقاء النظام الاستبدادي، وتحقيق مجمل أهدافه والبقاء الدائم للرئيس، ثم توريث ابنه من بعده، ومد أذرعة جهاز أمن الدولة ــ أولى دعائم مفهوم أمن النظام ــ في مختلف قطاعات المجتمع، بالإغراءات المادية وغير المادية، وبالتخويف والترهيب، والتعذيب، وإهدار كرامة المواطن، لحشد كوادر يكون دورها التخديم على فكرة أمن النظام.
ولم يكن معظم رجال النظام المختارين بمقاييسه هو مجرد شاغلين للمناصب، يؤدون وظيفة عامة، بل هم عناصر تشربت فكر النظام، متأهبون لأداء ما يطلب منهم من خدمات.
ترويج النظام لخطاب معبأ بمعان مغلوطة، تستخف بالعقول، فهو يتحدث عن شرعية الحكم وديمقراطيته، وهو أول من يعرف أنه يحكم بانتخابات مزورة دائما، وحين كان صحفيون أجانب يسألون قيادات النظام : لماذا لا تطبقون الديمقراطية؟.. كان ردهم : المصريون ليست لديهم ثقافة الديمقراطية.
بينما الكل يعلم أن احتكار تنظيم سياسي واحد للحياة السياسية لعشرات السنين، وهو لا يقبل منافسا فهو يحجر على حرية الرأي والتعبير، مما يعمل على تغييب ثقافة الديمقراطية قسرا وقهرا.
خطيئته الكبرى في التسبب في تفشي ظاهرة العشوائيات وأطفال الشوارع، التي لم يخصص لها الموارد بتوفير فرص عمل، وإسكان مناسب، بينما هو مشغول باكتناز الثروات بعمليات النهب المنظم للأموال، وتهريبها للخارج، ولا تزال هذه الظاهرة - وهي من صنع يديه - تفرز سلوكياتها الفوضوية التي تسمم جسد الدولة، وغير ذلك الكثير.
إن ثلاثين عاما من ممارسة قطاع ممن تشربوا ثقافة الإذعان المسمومة التي أوغلت في النفوس، وشكلت العقول، وسيطرت على طرق تفكيرها، تفرض ضرورات إعادة هيكلة مواقع عديدة على رأسها أمن الدولة، لتسير خطوة خطوة مع خطط الإصلاح والبناء، وإلا ظل هناك تصادم بين الخطط، وبين القدرة على التنفيذ، والمشكلة ليست في أشخاص، لكنها في منظومة تفكير وقيم، تستعبد قطاعا من أفراد لم يستطيعوا بسهولة تحرير عقولهم منها، إما بحكم طبيعة الشخصية، أو بدافع ما كان متاحا لهم من مزايا ومكاسب، إلا من كان منهم لديه الإرادة الحقيقية لعلاج نفسه من سموم الفكر الاستبدادي المتخلف عن العصر والأمن والتاريخ.