الإمبراطورية الروسية (بالروسية الحديثة: Российская Империя؛ وبالروسية القديمة: Россійская Имперія، نقحرة: رُسِّيسكَيَا إمپِرِيَا) اسم الدولة التي تواجدت منذ سنة 1721 حتى قيام الثورة البلشفية في سنة 1917. كانت الإمبراطورية خلفًا لروسيا القيصرية، وسلفًا للاتحاد السوفييتي. تعتبر ثاني أكبر إمبراطورية متجاورة في العالم على الإطلاق، ولم تتجاوزها إلا إمبراطورية المغول. ففي سنة 1866، كانت الامبراطورية تمتد من أوروبا الشرقية عبر آسيا، وصولاً إلى أمريكا الشمالية.
في بداية القرن التاسع عشر، كانت روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، فقد امتدت حدودها من المحيط المتجمد الشمالي شمالاً إلى البحر الأسود جنوبًا، ومن بحر البلطيق غربًا إلى المحيط الهادئ شرقًا. كان 176.4 مليون من مواطني الإمبراطورية متناثرين في هذا المجال الواسع، وكانوا يُشكلون ثالث أكبر تجمع بشري في العالم في ذلك الوقت، بعد الصين في عهد سلالة تشينغ والامبراطورية البريطانية، إلا أن التفاوت في أوضاعهم الاقتصادية والعرقية والدينية كان بارزًا بشكل كبير. كانت الحكومة، وعلى رأسها الإمبراطور، واحدة من الملكيات المطلقة الأخيرة في أوروبا. أعتُبرت روسيا واحدة من القوى العظمى الخمس في القارة الأوروبية قبل أندلاع الحرب العالمية الأولى في شهر أغسطس من سنة 1914.
التاريخ
الإمبراطورية الروسية هي الوريث الطبيعي لقيصرة مسكوفي. على الرغم من أن قيام الإمبراطورية أعلن رسمياً من قبل القيصر بطرس الأكبر في أعقاب معاهدة نيستاد سنة 1721، يُجادل بعض المؤرخين في أن الإمبراطورية ولدت حين تولى بطرس العرش في عام 1682.[4]
قبل عهد بطرس كانت دوقية موسكوفي على قدر من التخلف عن باقي نظيراتها الأوروبية بسبب العزلة التي كانت تعيش فيها البلاد الروسية بعد الغزو المغولي، والنظام الديني الصارم الذي يتبع الكنيسة الأرثوذكسية؛ وكانت توجهاتها التوسعية والاستعمارية موجهة نحو آسيا.
القرن الثامن عشر
حكم بطرس الأول، أو الأكبر (1672-1725)، بمنطق الشخص الوحيد في روسيا ولعب دوراً رئيسياً في جلب بلاده إلى نظام الدول الأوروبية، فأصبحت روسيا أكبر دولة في العالم في عهده، بعد أن ابتدت بدايةً متواضعة في القرن الرابع عشر كإمارة موسكو. كانت الإمبراطورية موزعة على أوراسيا من بحر البلطيق إلى المحيط الهادئ، وكانت قد أخذت بالتوسع منذ أوائل القرن السابع عشر، وبلغت أقصى حدودها في الفترة التي استوطن الروس فيها سيبيريا لأول مرة خلال منتصف القرن السابع عشر، وبعد استرداد مدينة كييف من بولندا، وإخماد فتنة قبائل سيبيريا. إلا أنه على الرغم من كل هذا التوسّع، فإن هذه الأراضي الشاسعة، لم يتجاوز عدد سكانها 14 مليون نسمة. كانت غلة الحبوب والحنطة قليلة مقارنةً بتلك المنتجة في مزارع أوروبا الغربية، مما أدى إلى إجبار جميع السكان تقريباً على العمل في المزارع، باستثناء جزء صغير منهم عاشوا في المدن. استمرت فئة الخولوبس، القريبة من الرقيق، استمرت مؤسسة رئيسية في روسيا حتى سنة 1723، عندما غير بطرس الأكبر منزلة الأشخاص المنتمين إليها إلى أقنان منزليين، مما جعلهم غير معفيين من الضرائب، أما الخولوبس المزارعين فكانوا قد تحولوا إلى أقنان رسمياً في وقت سابق من سنة 1679.[5][6][7]
انبهر بطرس بشدة بالتقنيات المتقدمة، وفنون الحرب، والحنكة السياسية لدى الغرب. فأقدم على دراسة التكتيكات الحديثة وكيفية إقامة التحصينات وبنى جيشاً قوياً قوامه 300,000 مقاتل، يتألف من أعيانه الذين كانوا يجندون مدى الحياة، كما قام بدمج قوات الستريليتس في الجيش النظامي. في الفترة الممتدة بين عاميّ 1697 و1698، قام الأمير الروسي بأول زيارة من نوعها إلى أوروبا الغربية، حيث ترك هو والوفد المرافق له انطباعاً عميقاً. خلع بطرس الأكبر لقب إمبراطور على نفسه إلى جانب لقبه الرسمي كقيصر احتفالاً بغزواته وفتوحاته العديدة، وأصبح موسكوفيتياً رسمياً للإمبراطورية الروسية في أواخر عام 1721.
وجّه بطرس أولى نيرانه على العثمانيين، ثم حوّل انتباهه إلى الشمال، حيث كان ما يزال يفتقر إلى ميناء آمن في تلك الأنحاء من دولته، باستثناء ميناء أرخانجيلسك على البحر الأبيض، الذي يتجمد لمدة تسعة أشهر في السنة مما يجعله غير مناسب ليكون مرفأً عسكريًا. وكان الامتداد الروسي إلى بحر البلطيق مصدوداً من قبل السويد، التي تحيط أراضيها بالبحر سالف الذكر من ثلاث جهات. ولشدّة رغبة بطرس بالحصول على نافذة "إلى البحر"، قام في سنة 1699 بإنشاء تحالف سري مع الكومنولث البولندي اللتواني ضد السويد والدنمارك، مما أدى إلى نشوب الحرب الشمالية العظمى. انتهت الحرب في سنة 1721 عندما استنفذت قوى السويد وآثرت السلام مع روسيا. وكان من نتائج الحرب أن اكتسب بطرس أربع محافظات تقع جنوب وشرق خليج فنلندا، وبالتالي أمن وصوله إلى البحر، وهناك قام ببناء العاصمة الروسية الجديدة، سانت بطرسبرغ، لتحل محل موسكو، التي طالما كانت المركز الثقافي في روسيا.[8]
أعاد بطرس تنظيم حكومته وفقًا لأحدث الأنظمة الغربية، وحول روسيا إلى دولة استبدادية. فجعل مكان مجلس النبلاء القديم مجلس شيوخ بتسعة أعضاء، كان في الواقع مجلسًا أعلى للدولة. كما تم تقسيم الريف إلى مقاطعات ومناطق جديدة. وحصر بطرس مهمة مجلس الشيوخ في جمع العائدات الضريبية، فكان من نتيجة ذلك أن تضاعفت عائدات الضرائب ثلاث مرات طيلة عهده. دُمجت الكنيسة الأرثوذكسية جزئيًا في الهيكل الإداري للدولة، وذلك كجزء من عملية إصلاح الحكومة، الأمر الذي جعلها أداة للدولة. وفي خطوة مشابهة أقدم بطرس على إلغاء البطريركية واستعاض عنها بهيئة جماعية يُطلق عليها اسم "المجمع المقدس"، على رأسها مسؤول حكومي. وفي الوقت نفسه، قام بالقضاء على ما تبقى من أنظمة الحكم الذاتي المحلية، واستمر بالتركيز على العمل بمبدأ خدمة الدولة من قبل جميع النبلاء.
توفي بطرس الأكبر سنة 1725، تاركًا وراءه خلاف حول من سيعقبه، وبلد غير مستقر مستنفذ الموارد. أثار حكم بطرس الأكبر تساؤلات عديدة، منها إن كان تخلف روسيا، ورداءة علاقتها بالغرب راجع إليه، ومدى ملاءمة إصلاحاته من عدمها، وغيرها من المشاكل الأساسية التي واجهت العديد من حكام روسيا الذين تلوه لاحقًا. إلا أنه على الرغم من ذلك، يتفق المؤرخون على أن هذا القيصر هو من أرسى أسس الدولة الحديثة في روسيا.
وبعد وفاة بطرس الأكبر، لم يتربع أي حاكم عُرف بالطموح، أو حتى بشيء منه، على العرش الروسي، ما يُقارب أربعون سنة. وبعد هذه الفترة، ظهرت الإمبراطورة كاترين الثانية الكبيرة، الألمانية الأصل، والتي تزوجت بالقيصر بطرس الثالث، لتغيّر هذا الواقع، فساهمت في إعادة إحياء طبقة النبلاء، التي كانت قد بدأت بالظهور مجدداً بشكل بسيط فور وفاة بطرس الأكبر،[10] وقامت بإلغاء مبدأ خدمة الدولة المفروض على كل نبيل، فاكتسبت شعبية كبيرة في وسطهم، خصوصًا بعد أن أقدمت على إسناد معظم المهام الحكومية في المحافظات إليهم.
قامت كاترين الكبيرة بتوسيع التدخل الروسي في شؤون الكومنولث البولندي اللتواني بإجراءات عديدة كان من ضمنها دعم كونفدرالية تارغوويكا، إلا أن التكاليف الباهظة لهذا التدخل، جرّاء تجهيز الحملات والجنود واستمالة البولنديين، إلى جانب النظام القمعي الاجتماعي، الذي كان يفرض على الأقنان قضاء حياتهم في أراضي الملاك، دفع بالفلاحين الروس أن ينتفضوا ويثوروا على إمبراطورتهم في سنة 1773، خصوصًا بعد أن أصدرت الأخيرة مرسومًا ينص على بيع العبيد منفصلين عن الأرض. هدد المتمردون بالاستيلاء على موسكو، مرددين صرخة "الموت لجميع الملاك!"، المستوحاة من قوزاق آخر يدعى إميليان بوغاتشيف، قبل أن يتم قمعهم بلا رحمة. أخضعت كاترين بوغاشيف في نهاية المطاف، وتمّ حمله إلى الساحة الحمراء حيث قُطع رأسه، ولكن على الرغم من القضاء على سيد الثورة، إلا أن شبحها استمر يؤرق نوم كاترين وخلفاءها لسنين طويلة.[11]
وفي الفترة التي قامت فيها الإمبراطورة بقمع الفلاحين الروس، كانت تخوض حربًا ناجحة ضد الدولة العثمانية نجم عنها توسع روسيا في الحدود الجنوبية لمنطقة البحر الأسود. ثم أقدمت على التآمر مع حكام النمسا وبروسيا، للاستيلاء على أراضي الكومنولث البولندي اللتواني عندما كانت بولندا تُقسّم على يد الأمم الأوروبية، فدفعت بذلك الحدود الروسية غربًا إلى أوروبا الوسطى. كانت روسيا قد برزت وأصبحت قوة عظمى في أوروبا وقت وفاة كاترين الكبيرة عام 1796، واستمر الأمر على هذا المنوال في عهد القيصر ألكسندر الأول، الذي انتزع فنلندا من مملكة السويد الضعيفة في سنة 1809 وإقليم بيسارابيا من العثمانيين في عام 1812.[12]