بسم الله الرحمن الرحيم
مفكرة الاسلام: لقد عمل الاستعمار الأجنبي من اليوم الأول لاحتلاله لبلاد الإسلام على توجيه كل قوته وطاقاته من أجل ضرب العقيدة الإسلامية عند أهل البلاد؛ لأنهم أدركوا أن هذه العقيدة هي مصدر قوتهم وسبب صمودهم وبقاء مقاومتهم للمشروعات التغريبية الكثيرة التي جلبها المحتل الصليبي لبلاد الإسلام، وقد أدركوا أيضًا أن رابطة الإسلام لابد من حلها وإيجاد رابطة أخرى غيرها يلتف حولها المغفلون والحمقى من أبناء المسلمين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وكانت رابطة العروبة والقومية هي البديل الذي سوّقه أعداء الإسلام داخل بلاد المسلمين، هذه النبتة الخبيثة التي بذر بذرتها الأولى المحتل الأوروبي وتولى رعايتها نصارى الشام أمثال أنطون سعادة، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، وميشيل عفلق وغيرهم من خريجي الكلية البروتستانية والتي عرفت بعد ذلك بالجامعة الأمريكية ببيروت، والتي هي وكر للدس والتآمر، وبموجب هذه الرابطة الجديدة كل سواء المسلم والنصراني واليهودي والوثني لا فرق بين أحد منهم إلا بالعروبة، ولسان حالهم كما يقول شاعرهم:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعـده بجهنم
بعد أن نالت سوريا حريتها سنة 1366هـ تعرضت لسلسلة متتابعة من الانقلابات مختلفة الاتجاهات، وكلها ممولة من الخارج وبالتبادل بين فرنسا وأمريكا اللتين كانتا يتصارعان على النفوذ داخل سوريا، فكان أول رئيس لسوريا شكري القوتلي، ثم وقع انقلاب جاء بحسني الزعيم، ثم آخر جاء بسامي الحناوي، ثم ثالث جاء بأديب الشيشكلي، ثم رابع جاء بفيصل الأتاسي، وأخيرًا عاد شكري القوتلي للرياسة سنة 1375هـ، وخلال هذه الفترة المضطربة المليئة بالانقلابات والتغييرات تحكّم حزب البعث العربي والحزب الشيوعي في مقاليد الأمور داخل سوريا، وضج الناس من أفعالهم وساد التذمر داخل صفوف الجيش السوري بسبب سياسات رئيس الأركان السوري «عفيف البزري» ذي الميول الشيوعية، وتطلع الناس للمنقذ الذي يأتي من ناحية الجنوب ونعني مصر.
منذ أن قامت ثورة 1952م في مصر، أخذ نجم جمال عبد الناصر في الارتفاع والبزوغ شيئًا فشيئًا، وقد أحكم قبضته على البلاد وتخلص من كل منافسيه، وأطلق الشعارات الطنانة والأفكار الثورية، وأود عبد الناصر ينتفخ كل يوم ويزداد حبًا للسلطة والعظمة والسيطرة والزعامة، حتى استقرت الجبهة الداخلية وأخذ في الترويج لمشروعه وحلمه القومي والوجودي ليحقق طموحه الجامح بزعامة الأمة كلها، وأمريكا وإنجلترا تظهران للعالم عداءهما وخوفهما من عبد الناصر ومن وراء الستار يدعمانه بكل قوة، وانبهرت الشعوب المقهورة بنير المحتل الأجنبي عشرات السنين بشعارات القومية والثورية التي يصدّرها عبد الناصر، وأحلام العزة والكرامة والاستعلاء والاعتماد على النفس، وهكذا حتى صار في كل الدول العربية أنصار لفكرة القومية والاتحاد، وأحزاب تتبنى الفكرة والمنهج الناصري، وكانت سوريا أكثر الدول تأثرًا بالناصرية وأفكار الاتحاد والوحدة إلى حد يصل للدمج والانصهار الكامل بين البلدين.
كان شكري القوتلي رئيس سوريا وقتها قليل الحيلة، فالسلطة الحقيقية في يد الجيش السوري وحزب البعث ولكنه كان كارهًا لفكرة الاتحاد مع مصر لما يعلمه من طباع وخصال عبد الناصر، وكان عفيف البزري رئيس الأركان السوري يدرك رغبة عبد الناصر في الاتحاد وليس الدمج الكامل، فأراد عفيف البزري أن يحرج عبد الناصر ليرفض الوحدة والدمج وبذلك تبقى سوريا تحت قبضة البزري والبعثيين، ثم تقع في النهاية في أنياب الشيوعية العالمية، ولكن لما عرض عفيف الوحدة على عبد الناصر وافق وقبل لأنه أدرك نوايا عفيف البزري، ولكن عبد الناصر اشترط ثلاثة شروط:
1ـ أن يكون هو الزعيم للدولة الجديدة المتحدة والقاهرة هي عاصمتها.
2ـ حل كل الأحزاب السورية لأنه لا يطيق أي معارضة.
3ـ أن يجري استفتاء شعبي في البلدين وهو شرط للتمويه.
وفي يوم 12 رجب 1377هـ ـ 1 فبراير 1958م، تم الاتفاق على الوحدة التي أطلق عليها اسم «وحدة ما يغلبها غلاب» وأصبح الاسم الجديد لمصر وسوريا الجمهورية العربية المتحدة، وأصبح عبد الناصر الزعيم لكلا البلدين، وأطلق على شكري القوتلي اسم «المواطن العربي الأول»، ولم يقم بأي عمل سواءً كان رسميًا أم غير رسمي، وهكذا قام حلف من نوع جديد لا هو من حلف الفضول ولا حلف بغداد ولا حتى حلف وارسو أو الأطلنطي، بل حلف أساسه قومي عصبي لتلبية طموحات جامحة لزعيم عربي، والعجيب أن هذه الوحدة التي قيل إنها وحدة ما يغلبها غلاب لم تستمر سوى أربعة سنوات، ثم انفكت غير مأسوف عليها.