- الأحد ديسمبر 18, 2011 8:34 pm
#43406
المتابع لكتابات وأقوال الساسة والمثقفين الجنوبيين يلاحظ أنهم يكادون يجمعون على أن أهم أسباب دعوتهم لفصل الجنوب عن السودان هي اضطهاد الشمالي للجنوبي، واعتبار الجنوبي مواطنا من الدرجة الثانية، وفرض الثقافة العربية الإسلامية على الأفارقة النصارى والوثنيين، وإهمال مشاريع التنمية في الجنوب وقصرها على أهل الشمال والوسط. ولا يمل كثير من كتابهم من ترداد مزاعم استرقاق الشماليين للجنوبيين حتى خلصهم من ذلك المحتل الإنجليزي، مع أن هذا كان شركاته في وقت من الأوقات أكبر مصدر للرقيق من أفريقيا! فقد بلغ جملة ما صدّرت الشركات الإنجليزية وحدها من الرقيق ما بين سنة 1680 و 1786م ما يبلغ 2130000 زنجي، واستمرت الأعداد في التصاعد بعد ذلك" .
ولو سلمنا جدلاً بصحة هذه الدعاوى، فليس السودان ببدع من كثير من دول العالم، فكثير مما سلف موجود في بعض ما يسمى دول العالم الأول وكذلك الثاني والثالث! ولم يكن تمزيقها وتفتيتها خياراً مطروحاً لحل مشكلاتها، والتقسيم في الحقيقة ليس حلاً لتلك المشكلات، بل قد يكون طريقاً لتفاقمها وبدء عصر جديد من الحروب الدولية بسببها!
أما عبارة احتقار الشماليين للجنوبيين واضطهادهم ففيها مبالغة، والصحيح أن المجتمع فيه ثقافة قبائلية لا يستغرب معها تعالي القبائل بعضها على بعض، وهذا معروف بين الجنوبيين فيما بينهم. بل ربما كان الجنوبيون أسوأ من غيرهم في هذا الجانب، ومثل هذا عرف بين بعض القبائل العربية في القديم والحديث وفي السودان وغيره، كما أن التمازج بين الشماليين والجنوبيين، وتزاوجهم موجود وإن كان محدوداً نظراً لأسباب دينية وثقافية وطبعية كتلك التي تحد من التمازج مع الصينيين مثلاً! كما أن مساواتهم في التعليم والعمل والعلاج وغيرها من الخدمات دليل على عدم تفريق الدولة بينهم منذ استقلال السودان، وأما قلة الجنوبيين النسبية في الخدمة العامة فمردها لتأخرهم في الاهتمام بالتعليم الحديث لأسباب ليست عرقية.
أما فرية فرض الثقافة الإسلامية والعربية على الجنوبيين فهي من باب الكذب الصريح الذي لا يمكن ترقيعه، ولم يحدث هذا في تاريخ السودان إلا لمدة محدودة أيام حكم الفريق إبراهيم عبود رحمه الله كرد فعل للنشاط الكنسي الأجنبي الساعي لفرض واقع معين في الجنوب، ولو أن ثمة دين وثقافة فرضت على الجنوبيين فهي النصرانية والثقافة الغربية ما في ذلك شك.
ولو كان آخر هموم المسلمين نشر ثقافتهم ودينهم بين أبناء الجنوب لما حدث الذي حدث، فالدعوة الإسلامية في الجنوب اقتصرت في الغالب على جهود أفرادٍ من التجار، وهؤلاء ما كان بينهم وبين أبناء الجنوب إلا الود والتقدير، بل ربما شهدوا لهم بالفضل عليهم، وقد أشار جوزيف لاقو في مذكراته إلى أنه من عادة قبيلتهم تسمية المولود بعدد من الأسماء، وأنه اختار لأحد أبنائه اسم حسن (بالإضافة لأسماء أخرى) على اسم الفكي حسن، التاجر المسلم الذي كان يدرس أبناء القرية القرآن في أوقات فراغه دون مقابل، وأن خلوته أسهمت في محو أمية أولئك الأطفال. وذكر لاقو في مذكراته قصة زواجه من آمنة المسلمة والتي تنتمي لأب شمالي وأم جنوبية، وحماية أقاربها له أيام الانتفاضة الشعبية سنة 1985 . وأشار كذلك في مذكراته إلى أن أحد الأسباب التي مكنته من الإمساك بزمام الأمور في الغابة أيام التمرد رغم أنه من قبيلة ضعيفة أنه كان قادراً على الحديث بعربي جوبا، وهي عربية مكسرة تعد لغة التخاطب بين أبناء الجنوب على اختلاف قبائلهم ومشاربهم. وأشار في مذكراته كذلك إلى ارتباط الدراسة في المدارس الكنسية التي لم يكن في الجنوب غيرها بالتعميد، وذكر التنافس بين الكاثوليك والبروتستانت، وكيف تنازل الكاثوليك عن تحريم تعدد الزوجات الذي كان شائعاً بين الجنوبيين، وبالتالي تسهيل تعميد أبناء المعددين واعتبارهم أبناء شرعيين، ثم قبولهم في مدارسهم، ونشر المذهب بينهم، كما أشار إلى أن دافعه إلى التعميد بجانب حرصه على التعليم كان التخلص من كلمة (وثني)-Pagan - التي تطلق على غير المعمدين على سبيل التعيير، وأن الدخول في إحدى الديانتين (الإسلام أو النصرانية) واستبدال الأسماء المحلية بأخرى عربية أو نصرانية كان موضة.
ومعروف أن الانجليز بذلوا جهوداً وأموالاً لجعل الإنجليزية لغة التخاطب في الجنوب، وإحلال النصرانية بمذاهبها المختلفة مكان الديانات الموجودة، فجُعلت الإنجليزية لغة التعليم، ومنع الحديث بغيرها في أي شيء رسمي، حتى التلغرافات لم يكن يقبل إرسالها أو استقبالها ما لم تكن بالإنجليزية، وقد أشير إلى ذلك في الوثيقة التي قدمها وفد السودان إلى مصر سنة 1946 بعنوان (مآسي الإنجليز في السودان) . أما البطش بالعرب والتنكيل بالمسلمين ومنعهم من الجهر بشعائرهم فكان من أهم أساليب مقاومة التعريب anti- arabication كما كان يذكر في المكاتبات الرسمية، وقصة إعدام الخياط الشمالي لأنه خاط ثوباً عربياً لأحد أبناء الجنوب مذكورة في الكتب التي تناولت سياسة المناطق المقفولة التي انتهجها الإنجليز في كثير من مناطق السودان.
أما لجوء حكومة الفريق إبراهيم عبود لسن قانون التبشير وطرد القسس الأجانب فكان سببه سياسياً لا دينياً فقد رأى خطر هؤلاء ونشاطهم السياسي المعادي للدولة، فوافقت سياسته الحكيمة في ذلك الشأن مقتضى الشريعة فحمد الناس ثمرتها زماناً!
وأما تحويل العطلة من الأحد إلى الجمعة فلا ينبغي أن يكون محل استغراب، بل الغريب أن يكون لكل جزء في القطر يوم عطلة، لا سيما أن حرية العبادة مكفولة، والنصارى أقلية في الجنوب، شأنهم شأن الأقليات المسلمة في كل مكان في الدنيا! ولو كان ثمة تصرف يثير الريبة فهو قرار السكرتير الإداري الإنجليزي سنة 1917 القاضي بتحويل العطلة من الجمعة إلى الأحد في الجنوب فقط، ثم أتبع ذلك بقانون المناطق المقفولة سنة 1921، وإطلاق يد المنظمات الكنسية في الجنوب قبيل ذلك.
أما الإشارة إلى الجنوبيين بـ "الأفارقة النصارى والوثنيين" فحق مزج بالباطل، فالكثرة الغالبة من الجنوبيين وثنيون أو أصحاب معتقدات أرواحية كما يقولون عن أنفسهم، ونسب المسلمين والنصارى متقاربة، وهؤلاء في الغالب من المتعلمين الذين درسوا في مدارس الإرساليات أو نزحوا إلى الشمال واختلطوا بالمسلمين.
أما قصة استرقاق الشماليين للجنوبيين، وربط ذلك بالعرب المسلمين فتلك دعاية كنسية استعمارية لجأت إليها الكنيسة والاحتلال الإنجليزي للمباعدة بين أبناء الشمال والجنوب، وللحيلولة دون انتشار الإسلام والثقافة العربية في الجنوب. والحقيقة أن أول من ابتدر تجارة الرقيق في السودان هو محمد علي باشا المؤيد بالإنجليز وهو لم يكن سودانياً شمالياً بل ولا عربياً أصيلاً، ولم يفعل ذلك باسم الإسلام،بل لأغراض اقتصادية، وأطماع شخصية، وقد استبسل المسلمون من أهل الشمال في صد جيوشه لكن تغلبت عليهم الأسلحة الحديثة. كما شارك الإنجليز والتجار من الرومان والسوريين وغيرهم ممن عملوا بالتجارة في تلك المناطق في ذلك، وشارك كذلك أبناء الشمال والجنوب، بعضهم مضطراً لذلك، والبعض الآخر متكسباً. هذا غير أن تجارة الرقيق كانت نشاطاً اقتصادياً قانونياً في ذلك الزمان في كل الدنيا شأنه شأن تجارة العاج والذهب وغيره وقد فضله الكثير من التجار بل والدول على غيره لقلة كلفته، وكثرة أرباحه، وأثره المباشر على التنمية الصناعية، والنهضة العمرانية، وكما هو معروف فقد قامت الولايات المتحدة على أكتاف العبيد، وشاع الاسترقاق عند الرومان واليونان ومارسته إسبانيا وبريطانيا والبرتغال وغيرها من القوى المتغلبة في ذلك الوقت، وما تحمست بريطانيا لإلغائه إلا لضرب الولايات المتحدة وإسبانيا والبرتغال اقتصادياً.
وأما قضية تهميش الجنوب واستثنائه من مشاريع التنمية فيشهد الواقع بخلافها، فحال الجنوب رغم الحروب المتطاولة، وطبيعة الغابات والأدغال يشابه إن لم يكن خيراً من حال كثير من مناطق السودان في الشمال والغرب والشرق. صحيح أن المشاريع التنموية التي أُنشأت في الجنوب كانت نتيجة لاتفاقية السلام سنة 1972 ولم تنشئها الحكومات ابتداء، لكن لم يكن سبب الإهمال والتقصير التحيز لأهل الشمال أو غيرهم، بل الأمر فساد مالي، وسوء إدارة، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها من المتخصصين والمخلصين. فضعف الأداء الحكومي، وسوء الخدمات الاجتماعية، وقلة مشاريع التنمية التي تلبي حاجات الناس الأساسية، والفقر كل تلك أسباب رئيسية في كل تمرد أو ثورة في كل أجزاء البلاد.
أما الأسباب الحقيقية المهمة لتصويت جل الجنوبيين للانفصال فمنها:
أولاً: التعبئة العنصرية، والكنسية، وشحن الجنوبيين على العرب المسلمين، وتصويرهم على أنهم مستعمرون، وهذا الشحن يروج على المثقفين فكيف بغيرهم، وقد شهدت تحول إحدى الزميلات الجنوبيات المسلمات في الجامعة إلى النصرانية،وكانت تنتمي للجبهة الوطنية الإفريقية ANF وهي تنظيم عنصري كان يناصر حركة التمرد في الجامعة، ودافعها الأساسي للارتداد عن الإسلام شحنها بأنه دين من استعبدوا أجدادهم، وهضموا حقوقهم! فهذه الدعاوى راجت على مثل هذه التي كان أهلها مسلمين! وكذلك مجزرة سنة 1955 التي ارتكبت في الجنوب، أبيد فيها الشماليون في الجنوب لمجرد أنهم شماليون، أطفالاً ونساء ورجالاً، فكانت دليلاً على عنصرية متمردي الأمس ورغبتهم في الانتقام والتشفي جراء الشحن الغربي. والمؤسف أن الجماعات المسلحة المتمردة، أو بعض المدنية المعارضة المتبنية لانقسام مناطقهم عن السودان في الغرب أو الشرق أو الشمال تضرب على ذات الوتر، وتتحزب على نفس الأساس، ولا سبيل لعلاج هذا الإشكال وإزالة ذلك الإسفين إلاّ بتقرير مبادئ الإسلام: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، (كلكم لآدم وآدم من تراب)، لا بالفلكلور والمهرجانات السخيفة!
ثانياً: الضغوط الخارجية والتدخلات الأجنبية. سواء من دول الجوار التي كانت تنطلق منها حركة التمرد، وتُقدم لها الأسلحة ومعسكرات التدريب، وغير ذلك، وتستخدم هذا الأسلوب كورقة ضغط على الحكومة للوصول لاتفاقات تستفيد منها في حل مشاكلها الداخلية، أو المؤسسات الكنسية، أو المنظمات الطوعية والخيرية التي تمثل في حقيقتها واجهات لوكالات استخباراتية، بالإضافة إلى الدول الغربية البعيدة التي كانت تدعم وترفد وتعلم وتخطط.
ثالثاً: سوء الإدارة الذي بليت به البلاد منذ الاستقلال، والذي أهدر موارد البلاد، وأفقر الناس، وحرمهم من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية.
رابعاً: فقدان الثقة بين أبناء الشمال والجنوب جعل كل طرف ينظر بعين الريبة لكل تصرف، ولعل الأخطاء السياسية منذ استقلال السودان، عمقت الإحساس بعدم اطمئنان أحد الطرفين إلى الآخر.
وما سوى ما ذكر كثير، لكن المهم أن مشكلة دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق تتكرر فيها ذات العوامل ذاتها، وشرق السودان مرشح للسيناريو نفسه، نرجو أن تفيق حكومتنا، وتتعظ من هذه التجربة المحزنة لتقي البلاد من شر الاحتراب والتمزق، ولا يكون ذلك بغير رؤية إسلامية تسوي بين المسلمين وتجمع كلمتهم، أما التعويل على الرشاوي، والولاءات التنظيمية لا الشرعية، والاستجابة لضغوط الغرب، وتقريب من يجب أن يقصى، وكذلك العكس، والتساهل في الإدارة، وعدم سماع كلام الناصحين ولاسيما من أهل العلم، وتقديم آراء الساسة على مقررات الشريعة بدعوى المصلحة، وإيثار التنازل بالمجان على إراقة الدماء في جهاد يحمل غايات الجهاد السامية فكل ذلك عاقبته ستكون وخيمة على البلاد وقد كانت! (فاعتبروا يا أولي الأبصار).
ولو سلمنا جدلاً بصحة هذه الدعاوى، فليس السودان ببدع من كثير من دول العالم، فكثير مما سلف موجود في بعض ما يسمى دول العالم الأول وكذلك الثاني والثالث! ولم يكن تمزيقها وتفتيتها خياراً مطروحاً لحل مشكلاتها، والتقسيم في الحقيقة ليس حلاً لتلك المشكلات، بل قد يكون طريقاً لتفاقمها وبدء عصر جديد من الحروب الدولية بسببها!
أما عبارة احتقار الشماليين للجنوبيين واضطهادهم ففيها مبالغة، والصحيح أن المجتمع فيه ثقافة قبائلية لا يستغرب معها تعالي القبائل بعضها على بعض، وهذا معروف بين الجنوبيين فيما بينهم. بل ربما كان الجنوبيون أسوأ من غيرهم في هذا الجانب، ومثل هذا عرف بين بعض القبائل العربية في القديم والحديث وفي السودان وغيره، كما أن التمازج بين الشماليين والجنوبيين، وتزاوجهم موجود وإن كان محدوداً نظراً لأسباب دينية وثقافية وطبعية كتلك التي تحد من التمازج مع الصينيين مثلاً! كما أن مساواتهم في التعليم والعمل والعلاج وغيرها من الخدمات دليل على عدم تفريق الدولة بينهم منذ استقلال السودان، وأما قلة الجنوبيين النسبية في الخدمة العامة فمردها لتأخرهم في الاهتمام بالتعليم الحديث لأسباب ليست عرقية.
أما فرية فرض الثقافة الإسلامية والعربية على الجنوبيين فهي من باب الكذب الصريح الذي لا يمكن ترقيعه، ولم يحدث هذا في تاريخ السودان إلا لمدة محدودة أيام حكم الفريق إبراهيم عبود رحمه الله كرد فعل للنشاط الكنسي الأجنبي الساعي لفرض واقع معين في الجنوب، ولو أن ثمة دين وثقافة فرضت على الجنوبيين فهي النصرانية والثقافة الغربية ما في ذلك شك.
ولو كان آخر هموم المسلمين نشر ثقافتهم ودينهم بين أبناء الجنوب لما حدث الذي حدث، فالدعوة الإسلامية في الجنوب اقتصرت في الغالب على جهود أفرادٍ من التجار، وهؤلاء ما كان بينهم وبين أبناء الجنوب إلا الود والتقدير، بل ربما شهدوا لهم بالفضل عليهم، وقد أشار جوزيف لاقو في مذكراته إلى أنه من عادة قبيلتهم تسمية المولود بعدد من الأسماء، وأنه اختار لأحد أبنائه اسم حسن (بالإضافة لأسماء أخرى) على اسم الفكي حسن، التاجر المسلم الذي كان يدرس أبناء القرية القرآن في أوقات فراغه دون مقابل، وأن خلوته أسهمت في محو أمية أولئك الأطفال. وذكر لاقو في مذكراته قصة زواجه من آمنة المسلمة والتي تنتمي لأب شمالي وأم جنوبية، وحماية أقاربها له أيام الانتفاضة الشعبية سنة 1985 . وأشار كذلك في مذكراته إلى أن أحد الأسباب التي مكنته من الإمساك بزمام الأمور في الغابة أيام التمرد رغم أنه من قبيلة ضعيفة أنه كان قادراً على الحديث بعربي جوبا، وهي عربية مكسرة تعد لغة التخاطب بين أبناء الجنوب على اختلاف قبائلهم ومشاربهم. وأشار في مذكراته كذلك إلى ارتباط الدراسة في المدارس الكنسية التي لم يكن في الجنوب غيرها بالتعميد، وذكر التنافس بين الكاثوليك والبروتستانت، وكيف تنازل الكاثوليك عن تحريم تعدد الزوجات الذي كان شائعاً بين الجنوبيين، وبالتالي تسهيل تعميد أبناء المعددين واعتبارهم أبناء شرعيين، ثم قبولهم في مدارسهم، ونشر المذهب بينهم، كما أشار إلى أن دافعه إلى التعميد بجانب حرصه على التعليم كان التخلص من كلمة (وثني)-Pagan - التي تطلق على غير المعمدين على سبيل التعيير، وأن الدخول في إحدى الديانتين (الإسلام أو النصرانية) واستبدال الأسماء المحلية بأخرى عربية أو نصرانية كان موضة.
ومعروف أن الانجليز بذلوا جهوداً وأموالاً لجعل الإنجليزية لغة التخاطب في الجنوب، وإحلال النصرانية بمذاهبها المختلفة مكان الديانات الموجودة، فجُعلت الإنجليزية لغة التعليم، ومنع الحديث بغيرها في أي شيء رسمي، حتى التلغرافات لم يكن يقبل إرسالها أو استقبالها ما لم تكن بالإنجليزية، وقد أشير إلى ذلك في الوثيقة التي قدمها وفد السودان إلى مصر سنة 1946 بعنوان (مآسي الإنجليز في السودان) . أما البطش بالعرب والتنكيل بالمسلمين ومنعهم من الجهر بشعائرهم فكان من أهم أساليب مقاومة التعريب anti- arabication كما كان يذكر في المكاتبات الرسمية، وقصة إعدام الخياط الشمالي لأنه خاط ثوباً عربياً لأحد أبناء الجنوب مذكورة في الكتب التي تناولت سياسة المناطق المقفولة التي انتهجها الإنجليز في كثير من مناطق السودان.
أما لجوء حكومة الفريق إبراهيم عبود لسن قانون التبشير وطرد القسس الأجانب فكان سببه سياسياً لا دينياً فقد رأى خطر هؤلاء ونشاطهم السياسي المعادي للدولة، فوافقت سياسته الحكيمة في ذلك الشأن مقتضى الشريعة فحمد الناس ثمرتها زماناً!
وأما تحويل العطلة من الأحد إلى الجمعة فلا ينبغي أن يكون محل استغراب، بل الغريب أن يكون لكل جزء في القطر يوم عطلة، لا سيما أن حرية العبادة مكفولة، والنصارى أقلية في الجنوب، شأنهم شأن الأقليات المسلمة في كل مكان في الدنيا! ولو كان ثمة تصرف يثير الريبة فهو قرار السكرتير الإداري الإنجليزي سنة 1917 القاضي بتحويل العطلة من الجمعة إلى الأحد في الجنوب فقط، ثم أتبع ذلك بقانون المناطق المقفولة سنة 1921، وإطلاق يد المنظمات الكنسية في الجنوب قبيل ذلك.
أما الإشارة إلى الجنوبيين بـ "الأفارقة النصارى والوثنيين" فحق مزج بالباطل، فالكثرة الغالبة من الجنوبيين وثنيون أو أصحاب معتقدات أرواحية كما يقولون عن أنفسهم، ونسب المسلمين والنصارى متقاربة، وهؤلاء في الغالب من المتعلمين الذين درسوا في مدارس الإرساليات أو نزحوا إلى الشمال واختلطوا بالمسلمين.
أما قصة استرقاق الشماليين للجنوبيين، وربط ذلك بالعرب المسلمين فتلك دعاية كنسية استعمارية لجأت إليها الكنيسة والاحتلال الإنجليزي للمباعدة بين أبناء الشمال والجنوب، وللحيلولة دون انتشار الإسلام والثقافة العربية في الجنوب. والحقيقة أن أول من ابتدر تجارة الرقيق في السودان هو محمد علي باشا المؤيد بالإنجليز وهو لم يكن سودانياً شمالياً بل ولا عربياً أصيلاً، ولم يفعل ذلك باسم الإسلام،بل لأغراض اقتصادية، وأطماع شخصية، وقد استبسل المسلمون من أهل الشمال في صد جيوشه لكن تغلبت عليهم الأسلحة الحديثة. كما شارك الإنجليز والتجار من الرومان والسوريين وغيرهم ممن عملوا بالتجارة في تلك المناطق في ذلك، وشارك كذلك أبناء الشمال والجنوب، بعضهم مضطراً لذلك، والبعض الآخر متكسباً. هذا غير أن تجارة الرقيق كانت نشاطاً اقتصادياً قانونياً في ذلك الزمان في كل الدنيا شأنه شأن تجارة العاج والذهب وغيره وقد فضله الكثير من التجار بل والدول على غيره لقلة كلفته، وكثرة أرباحه، وأثره المباشر على التنمية الصناعية، والنهضة العمرانية، وكما هو معروف فقد قامت الولايات المتحدة على أكتاف العبيد، وشاع الاسترقاق عند الرومان واليونان ومارسته إسبانيا وبريطانيا والبرتغال وغيرها من القوى المتغلبة في ذلك الوقت، وما تحمست بريطانيا لإلغائه إلا لضرب الولايات المتحدة وإسبانيا والبرتغال اقتصادياً.
وأما قضية تهميش الجنوب واستثنائه من مشاريع التنمية فيشهد الواقع بخلافها، فحال الجنوب رغم الحروب المتطاولة، وطبيعة الغابات والأدغال يشابه إن لم يكن خيراً من حال كثير من مناطق السودان في الشمال والغرب والشرق. صحيح أن المشاريع التنموية التي أُنشأت في الجنوب كانت نتيجة لاتفاقية السلام سنة 1972 ولم تنشئها الحكومات ابتداء، لكن لم يكن سبب الإهمال والتقصير التحيز لأهل الشمال أو غيرهم، بل الأمر فساد مالي، وسوء إدارة، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها من المتخصصين والمخلصين. فضعف الأداء الحكومي، وسوء الخدمات الاجتماعية، وقلة مشاريع التنمية التي تلبي حاجات الناس الأساسية، والفقر كل تلك أسباب رئيسية في كل تمرد أو ثورة في كل أجزاء البلاد.
أما الأسباب الحقيقية المهمة لتصويت جل الجنوبيين للانفصال فمنها:
أولاً: التعبئة العنصرية، والكنسية، وشحن الجنوبيين على العرب المسلمين، وتصويرهم على أنهم مستعمرون، وهذا الشحن يروج على المثقفين فكيف بغيرهم، وقد شهدت تحول إحدى الزميلات الجنوبيات المسلمات في الجامعة إلى النصرانية،وكانت تنتمي للجبهة الوطنية الإفريقية ANF وهي تنظيم عنصري كان يناصر حركة التمرد في الجامعة، ودافعها الأساسي للارتداد عن الإسلام شحنها بأنه دين من استعبدوا أجدادهم، وهضموا حقوقهم! فهذه الدعاوى راجت على مثل هذه التي كان أهلها مسلمين! وكذلك مجزرة سنة 1955 التي ارتكبت في الجنوب، أبيد فيها الشماليون في الجنوب لمجرد أنهم شماليون، أطفالاً ونساء ورجالاً، فكانت دليلاً على عنصرية متمردي الأمس ورغبتهم في الانتقام والتشفي جراء الشحن الغربي. والمؤسف أن الجماعات المسلحة المتمردة، أو بعض المدنية المعارضة المتبنية لانقسام مناطقهم عن السودان في الغرب أو الشرق أو الشمال تضرب على ذات الوتر، وتتحزب على نفس الأساس، ولا سبيل لعلاج هذا الإشكال وإزالة ذلك الإسفين إلاّ بتقرير مبادئ الإسلام: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، (كلكم لآدم وآدم من تراب)، لا بالفلكلور والمهرجانات السخيفة!
ثانياً: الضغوط الخارجية والتدخلات الأجنبية. سواء من دول الجوار التي كانت تنطلق منها حركة التمرد، وتُقدم لها الأسلحة ومعسكرات التدريب، وغير ذلك، وتستخدم هذا الأسلوب كورقة ضغط على الحكومة للوصول لاتفاقات تستفيد منها في حل مشاكلها الداخلية، أو المؤسسات الكنسية، أو المنظمات الطوعية والخيرية التي تمثل في حقيقتها واجهات لوكالات استخباراتية، بالإضافة إلى الدول الغربية البعيدة التي كانت تدعم وترفد وتعلم وتخطط.
ثالثاً: سوء الإدارة الذي بليت به البلاد منذ الاستقلال، والذي أهدر موارد البلاد، وأفقر الناس، وحرمهم من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية.
رابعاً: فقدان الثقة بين أبناء الشمال والجنوب جعل كل طرف ينظر بعين الريبة لكل تصرف، ولعل الأخطاء السياسية منذ استقلال السودان، عمقت الإحساس بعدم اطمئنان أحد الطرفين إلى الآخر.
وما سوى ما ذكر كثير، لكن المهم أن مشكلة دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق تتكرر فيها ذات العوامل ذاتها، وشرق السودان مرشح للسيناريو نفسه، نرجو أن تفيق حكومتنا، وتتعظ من هذه التجربة المحزنة لتقي البلاد من شر الاحتراب والتمزق، ولا يكون ذلك بغير رؤية إسلامية تسوي بين المسلمين وتجمع كلمتهم، أما التعويل على الرشاوي، والولاءات التنظيمية لا الشرعية، والاستجابة لضغوط الغرب، وتقريب من يجب أن يقصى، وكذلك العكس، والتساهل في الإدارة، وعدم سماع كلام الناصحين ولاسيما من أهل العلم، وتقديم آراء الساسة على مقررات الشريعة بدعوى المصلحة، وإيثار التنازل بالمجان على إراقة الدماء في جهاد يحمل غايات الجهاد السامية فكل ذلك عاقبته ستكون وخيمة على البلاد وقد كانت! (فاعتبروا يا أولي الأبصار).