- الجمعة ديسمبر 23, 2011 3:13 pm
#45319
كثيرا ما يتوقف الواحد منا ويضع سبابته على صدغه ويتساءل: لماذا لم تقم في الشرق حكومات ديموقراطية ومجالس نيابية وهيئات تمثيلية ومؤسسات مدنية؟ هل التسلط والاستبداد والسلوك القمعي طبيعة متأصلة في حضارتنا تسري مع الدم في عروقنا ونرضعها مع حليب أمهاتنا ونتنفسها مع هواء الشرق وشموسه الدافئة؟ وإن كانت كذلك فمن أين جاءتنا لا حيّاها الله؟ لم تحتفل أمة بمفهوم "الحُلم" الذي هو المقابل النقيض للتسلط والاستبداد مثلما تحتفل به شعوب الشرق لفرط ما تفتقده وتحتاج إليه. نلاحظ مثلا أننا نحن معشر الرجال لا نتسيّد فقط على النساء والأطفال والقطط المنزلية، بل حتى على بعضنا البعض كلما سنحت لنا الفرصة.
لم تعد النظريات الحديثة في تفسير السلوك البشري تقبل بمفهوم توريث أنماط السلوك عن طريق الدم أو الجينات (المورّثات)، بل غالبا ما يردها العلماء إلى البيئة الطبيعية والخلفية الثقافية والتاريخ الاجتماعي. وقد ظهرت مع مطلع القرن الفائت العديد من الدراسات حول ما يسمى بالشحصية القومية national character وكلها تحاول أن تختزل شخصية شعب من الشعوب في نمط محدد. ومن أهم هذه الدراسات تلك التي قامت بها مارغريت ميد Margaret Mead عن شعوب ساموا البدائية Samoa ودراسة روث بينيديكت Ruth Benedict عن الهنود الحمر والتي قدمتها في كتابها المعنون أنماط الثقافة Patterns of Culture. وهناك في علم الأنثروبولوجيا فرع متخصص في هذا المجال يسمونه الثقافة والشخصية Culture and Personality. ولا يهمني أن أدخل في التفاصيل هنا، إذ أن كل ما أريد التأكيد عليه هو أن هناك تخصص علمي ودراسات كثيرة في هذا المجال.
هناك نظرية تحاول تفسير النمط الاستبدادي في الثقافات الشرقية تحديدا وصاحب النظرية هو كارل ويتفوغل Karl A Wittfogel نشرها في كتاب له صدر عام 7591 تحت عنوان Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power، وتسمى نظريته أيضا النظرية الهيدرولوكية، أي النظرية المائية، وهي النظرية التي تقول بأن الحضارات القديمة بنظمها السياسية قامت أساسا كضرورة لتشييد مشاريع مائية ضخمة لجلب مياه الري عبر قنوات صناعية من الأنهار إلى أحواضها ووديانها الجافة. وهو الذي استحدث مصطلح الاستبداد الشرقي الذي استقاه أصلا من مقولة كارل ماركس عن ما سماه نمط الإنتاج الآسيوي. يرى ويتفوغل أن تشييد مثل هذه المشاريع المائية الضخمة بما تتطلبه من تمويل وجموع غفيرة من العمال والحرفيين وأصحاب المهن في مختلف التخصصات وإدارتهم والتنسيق فيما بينهم يتطلب حكما استبداديا قويا قادرا على فرض النظام والانضباط على الجميع وعلى فرض الضرائب والمكوس والإتاوات ومصادر التمويل اللازمة.
يضع ويتفوغيل أهمية خاصة على إدارة الموارد المائية في الحضارات النهرية، مثل النيل ودجلة والفرات، وما يتطلبه ذلك من إدارة وتنسيق. لا يختلف الماء عن المقومات الأخرى الضرورية للزراعة مثل المناخ والتضاريس وخصوبة التربة. إلا أن الماء عامل مهم، خصوصا في أحواض الأنهار ذات المناخ الجاف، لأنه مورد طبيعي يمكن التحكم به وزيادة حجمه وتدبيره وتصريفه. ري هذه المناطق الجافة من النهر المجاور وتحويلها إلى مناطق زراعية خصبة يستلزم القيام بمشاريع ري وصرف ضخمة تديرها وتقوم على تنفيذها سلطة مركزية. وكلما كان النهر عظيما كلما كان الناتج الغذائي الذي يمكن الحصول عليه من حوضه أعظم، لكن ذلك في نفس الوقت يتطلب جهدا أكبر من التنسيق والتنظيم والإدارة والصيانة والحماية، وما يترتب على ذلك من شق الترع والقنوات وبناء السدود والخزانات والتحكم بالفيضانات وتغيير مسارات النهر وروافده. هذا يتطلب تجنيد الجموع الغفيرة من العمال وتسخيرهم وتنظيمهم وإدارتهم وإعاشتهم وسكنهم، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا تركزت السلطة في يد عدد محدود من الرؤساء والمدراء الذين يتلقون توجيهاتهم من حاكم واحد مستبد.
من يتحكم في مصادر الماء يملك سلطة مطلقة على الفلاحين، وإذا كان مصدر من مصادر السلطة أقوى وأشمل من أي مصدر آخر فإن ذلك المصدر الأقوى سوف يستحوذ على جميع مصادر السلطة الأخرى ويحتكرها بالكامل وينتج عن ذلك سلطة مركزية مستبدة يطلق عليها ويتفوغيل مسمى "الاستبداد الشرقي" لأن هذا النوع من السلطة، في نظره، نشأ في الصين وبلاد الشرق الأوسط. ويعقد ويتفوغيل مقارنة بين هذا النوع من السلطة وتلك التي نشأت في أوربا بمناخها المعتدل المطير الذي سمح بقيام زراعة تعتمد على الأمطار التي لا يستطيع أحد أن يتحكم فيها. هذا حال دون الاستبداد بالسلطة التي كانت سلطة متوازنة وموزعة بين الكنيسة والنقابات والأثرياء. أما في بلاد الرافدين وحوض النيل مثلا، حيث كان التحكم في مصادر الماء أمرا حيويا، فإن من له السلطة على الموارد المائية يتسلط تبعا لذلك على كل شيء من التجارة إلى الصناعة إلى حقوق الملكية. كانت السلطة في البداية بيد رجال المعبد لكنها تحولت بالتدريج إلى سلطة مدنية يسندها الجيش ويدعمها رجال الدين. وتعمل هذه السلطة على الاستحواذ والسيطرة على مصادر الثروة وتقليص دور الملكية الخاصة وكل مراكز السلطة والنفوذ التي لا تقع تحت يد الدولة. تبدأ هذه المجتمعات بدايات قوية وخلاقة في مراحلها الأولى لكنها سرعان ما تتراجع وتتحول إلى كيانات جامدة ومهترئة ثم تنهار لتبدأ دورة جديدة تحت سلطة جديدة.
وقد وجهت إلى نظرية ويتفوغيل عدد من الانتقادات، خصوصا تأكيده على أن أهم دور كانت تقوم به النخبة الحاكمة في المجتمعات الشرقية القديمة هو إدارة المشاريع المائية والإشراف عليها. ومن البداية ينبغي التنبيه إلى أن الدافع وراء انتقادات الباحثين الغربيين (الرأسماليين) لنظرية ويتفوغل لم يكن "الفزعه" للشرقيين من أجل تبرئة ساحتهم من نقيصة الاستبداد، وإنما لأن هؤلاء الباحثين اشتموا في النظرية "صْنان" ماركس ورائحته الكريهة. يقول شوبيرغ Gideon Sjoberg إن مهام النخبة الحاكمة تشمل أمورا أخرى لا تقل أهمية، منها تجييش الجيوش وتنظيم العلاقات التجارية والنشاطات المهنية وتشجيع الحرف والصناعات والتعدين وتأمين استيراد المواد الخام والمصنّعة اللازمة لازدهار المدينة والدولة والإشراف على جمع المواد الغذائية وتوزيعها.
وهناك مآخذ أخرى على نظرية ويتفوغيل منها أن الشواهد الأثرية والتاريخية تفيد أن المشاريع المائية الضخمة لم تظهر إلا بعد ظهور سلطة الدولة مما يعني أنها كانت النتيجة وليست السبب لظهور الدولة. وهذا ما تشير إليه الدراسات الميدانية المعاصرة من وجود مشاريع ري تعاونية صغيرة تنفذ على المستوى المحلي في العراق بدون تدخل من السلطة المركزية ويحصل منها المزارعون على عائد لا بأس به. ويؤكد روبرت آدمز Robert McCormick Adams أنه خلافا لما يقوله ويتفوغل فإن تشييد وصيانة قنوات الري لم تكن تحت إشراف موظفين معينين من قبل الدولة بل ظلت إلى حد كبير تحت إشراف رجال المعبد وليس هناك ما يشير إلى أن ظهور السلطة المدنية في جنوب العراق مرتبط بالمشاريع المائية.
ويرد تشارلز ريدمان Charles L. Redman ومارفين هاريس Marvin Harris على هذه الاعتراضات بالقول إن مثل هذه الانتقادات لا تنفي أن إقامة المشاريع الأضخم سوف يترتب عليه عائد أضخم أو أن المشاريع المائية والسلطة المركزية كلاهما نشآ نشأة متواضعة ومتزامنة دون الضرورة إلى أن يسبق أحدهما الآخر، لكنهما تدريجيا وبفعل التأثير المتبادل بينهما والتغذية الاسترجاعية عمل كل منهما على تطوير الآخر، فالسلطة صارت تنحو نحو المركزية التي أعطتها القدرة لأن تجند كمًّا أكبر من الموارد وعددا أكثر من الأيدي العاملة التي مكنتها من إقامة مشاريع الري الضخمة مما قوّى من سلطتها، وهكذا. وعلى هذا النحو لم يعد وجود أنظمة الري في حد ذاته هو السبب في قيام سلطة مركزية مستبدة وإنما السبب الحقيقي هو الحاجة إلى من يتولى إدارة هذه الأنظمة والإشراف عليها وصيانتها وحمايتها، وهذا ما يحاول ويتفوغيل تفسيره وليس نشوء سلطة الدولة. وكلما قويت قبضة هذه السلطة التي تشرف على أنظمة الري كلما طمعت في المزيد ومدت سلطتها على الشؤون العامة الأخرى بما في ذلك الاقتصاد والتجارة والدين وأصبح استبدالها أمرا صعبا. ونظرا لما تحققه هذه السلطة القوية من أمن واستقرار ورخاء فقلما تجد من يعارضها.
تُرى لو عُمّر ويتفوغل طويلا ليدرك عصر النفط، والذي شاءت الأقدار أن يظهر في نفس المنطقة التي كان يتحدث عنها، هل تراه سيجد أوجها للمقارنة بين الماء والنفط
نظرية الاستبداد الشرقي
كثيرا ما يتوقف الواحد منا ويضع سبابته على صدغه ويتساءل: لماذا لم تقم في الشرق حكومات ديموقراطية ومجالس نيابية وهيئات تمثيلية ومؤسسات مدنية؟ هل التسلط والاستبداد والسلوك القمعي طبيعة متأصلة في حضارتنا تسري مع الدم في عروقنا ونرضعها مع حليب أمهاتنا ونتنفسها مع هواء الشرق وشموسه الدافئة؟ وإن كانت كذلك فمن أين جاءتنا لا حيّاها الله؟ لم تحتفل أمة بمفهوم "الحُلم" الذي هو المقابل النقيض للتسلط والاستبداد مثلما تحتفل به شعوب الشرق لفرط ما تفتقده وتحتاج إليه. نلاحظ مثلا أننا نحن معشر الرجال لا نتسيّد فقط على النساء والأطفال والقطط المنزلية، بل حتى على بعضنا البعض كلما سنحت لنا الفرصة.
لم تعد النظريات الحديثة في تفسير السلوك البشري تقبل بمفهوم توريث أنماط السلوك عن طريق الدم أو الجينات (المورّثات)، بل غالبا ما يردها العلماء إلى البيئة الطبيعية والخلفية الثقافية والتاريخ الاجتماعي. وقد ظهرت مع مطلع القرن الفائت العديد من الدراسات حول ما يسمى بالشحصية القومية national character وكلها تحاول أن تختزل شخصية شعب من الشعوب في نمط محدد. ومن أهم هذه الدراسات تلك التي قامت بها مارغريت ميد Margaret Mead عن شعوب ساموا البدائية Samoa ودراسة روث بينيديكت Ruth Benedict عن الهنود الحمر والتي قدمتها في كتابها المعنون أنماط الثقافة Patterns of Culture. وهناك في علم الأنثروبولوجيا فرع متخصص في هذا المجال يسمونه الثقافة والشخصية Culture and Personality. ولا يهمني أن أدخل في التفاصيل هنا، إذ أن كل ما أريد التأكيد عليه هو أن هناك تخصص علمي ودراسات كثيرة في هذا المجال.
هناك نظرية تحاول تفسير النمط الاستبدادي في الثقافات الشرقية تحديدا وصاحب النظرية هو كارل ويتفوغل Karl A Wittfogel نشرها في كتاب له صدر عام 7591 تحت عنوان Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power، وتسمى نظريته أيضا النظرية الهيدرولوكية، أي النظرية المائية، وهي النظرية التي تقول بأن الحضارات القديمة بنظمها السياسية قامت أساسا كضرورة لتشييد مشاريع مائية ضخمة لجلب مياه الري عبر قنوات صناعية من الأنهار إلى أحواضها ووديانها الجافة. وهو الذي استحدث مصطلح الاستبداد الشرقي الذي استقاه أصلا من مقولة كارل ماركس عن ما سماه نمط الإنتاج الآسيوي. يرى ويتفوغل أن تشييد مثل هذه المشاريع المائية الضخمة بما تتطلبه من تمويل وجموع غفيرة من العمال والحرفيين وأصحاب المهن في مختلف التخصصات وإدارتهم والتنسيق فيما بينهم يتطلب حكما استبداديا قويا قادرا على فرض النظام والانضباط على الجميع وعلى فرض الضرائب والمكوس والإتاوات ومصادر التمويل اللازمة.
يضع ويتفوغيل أهمية خاصة على إدارة الموارد المائية في الحضارات النهرية، مثل النيل ودجلة والفرات، وما يتطلبه ذلك من إدارة وتنسيق. لا يختلف الماء عن المقومات الأخرى الضرورية للزراعة مثل المناخ والتضاريس وخصوبة التربة. إلا أن الماء عامل مهم، خصوصا في أحواض الأنهار ذات المناخ الجاف، لأنه مورد طبيعي يمكن التحكم به وزيادة حجمه وتدبيره وتصريفه. ري هذه المناطق الجافة من النهر المجاور وتحويلها إلى مناطق زراعية خصبة يستلزم القيام بمشاريع ري وصرف ضخمة تديرها وتقوم على تنفيذها سلطة مركزية. وكلما كان النهر عظيما كلما كان الناتج الغذائي الذي يمكن الحصول عليه من حوضه أعظم، لكن ذلك في نفس الوقت يتطلب جهدا أكبر من التنسيق والتنظيم والإدارة والصيانة والحماية، وما يترتب على ذلك من شق الترع والقنوات وبناء السدود والخزانات والتحكم بالفيضانات وتغيير مسارات النهر وروافده. هذا يتطلب تجنيد الجموع الغفيرة من العمال وتسخيرهم وتنظيمهم وإدارتهم وإعاشتهم وسكنهم، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا تركزت السلطة في يد عدد محدود من الرؤساء والمدراء الذين يتلقون توجيهاتهم من حاكم واحد مستبد.
من يتحكم في مصادر الماء يملك سلطة مطلقة على الفلاحين، وإذا كان مصدر من مصادر السلطة أقوى وأشمل من أي مصدر آخر فإن ذلك المصدر الأقوى سوف يستحوذ على جميع مصادر السلطة الأخرى ويحتكرها بالكامل وينتج عن ذلك سلطة مركزية مستبدة يطلق عليها ويتفوغيل مسمى "الاستبداد الشرقي" لأن هذا النوع من السلطة، في نظره، نشأ في الصين وبلاد الشرق الأوسط. ويعقد ويتفوغيل مقارنة بين هذا النوع من السلطة وتلك التي نشأت في أوربا بمناخها المعتدل المطير الذي سمح بقيام زراعة تعتمد على الأمطار التي لا يستطيع أحد أن يتحكم فيها. هذا حال دون الاستبداد بالسلطة التي كانت سلطة متوازنة وموزعة بين الكنيسة والنقابات والأثرياء. أما في بلاد الرافدين وحوض النيل مثلا، حيث كان التحكم في مصادر الماء أمرا حيويا، فإن من له السلطة على الموارد المائية يتسلط تبعا لذلك على كل شيء من التجارة إلى الصناعة إلى حقوق الملكية. كانت السلطة في البداية بيد رجال المعبد لكنها تحولت بالتدريج إلى سلطة مدنية يسندها الجيش ويدعمها رجال الدين. وتعمل هذه السلطة على الاستحواذ والسيطرة على مصادر الثروة وتقليص دور الملكية الخاصة وكل مراكز السلطة والنفوذ التي لا تقع تحت يد الدولة. تبدأ هذه المجتمعات بدايات قوية وخلاقة في مراحلها الأولى لكنها سرعان ما تتراجع وتتحول إلى كيانات جامدة ومهترئة ثم تنهار لتبدأ دورة جديدة تحت سلطة جديدة.
وقد وجهت إلى نظرية ويتفوغيل عدد من الانتقادات، خصوصا تأكيده على أن أهم دور كانت تقوم به النخبة الحاكمة في المجتمعات الشرقية القديمة هو إدارة المشاريع المائية والإشراف عليها. ومن البداية ينبغي التنبيه إلى أن الدافع وراء انتقادات الباحثين الغربيين (الرأسماليين) لنظرية ويتفوغل لم يكن "الفزعه" للشرقيين من أجل تبرئة ساحتهم من نقيصة الاستبداد، وإنما لأن هؤلاء الباحثين اشتموا في النظرية "صْنان" ماركس ورائحته الكريهة. يقول شوبيرغ Gideon Sjoberg إن مهام النخبة الحاكمة تشمل أمورا أخرى لا تقل أهمية، منها تجييش الجيوش وتنظيم العلاقات التجارية والنشاطات المهنية وتشجيع الحرف والصناعات والتعدين وتأمين استيراد المواد الخام والمصنّعة اللازمة لازدهار المدينة والدولة والإشراف على جمع المواد الغذائية وتوزيعها.
وهناك مآخذ أخرى على نظرية ويتفوغيل منها أن الشواهد الأثرية والتاريخية تفيد أن المشاريع المائية الضخمة لم تظهر إلا بعد ظهور سلطة الدولة مما يعني أنها كانت النتيجة وليست السبب لظهور الدولة. وهذا ما تشير إليه الدراسات الميدانية المعاصرة من وجود مشاريع ري تعاونية صغيرة تنفذ على المستوى المحلي في العراق بدون تدخل من السلطة المركزية ويحصل منها المزارعون على عائد لا بأس به. ويؤكد روبرت آدمز Robert McCormick Adams أنه خلافا لما يقوله ويتفوغل فإن تشييد وصيانة قنوات الري لم تكن تحت إشراف موظفين معينين من قبل الدولة بل ظلت إلى حد كبير تحت إشراف رجال المعبد وليس هناك ما يشير إلى أن ظهور السلطة المدنية في جنوب العراق مرتبط بالمشاريع المائية.
ويرد تشارلز ريدمان Charles L. Redman ومارفين هاريس Marvin Harris على هذه الاعتراضات بالقول إن مثل هذه الانتقادات لا تنفي أن إقامة المشاريع الأضخم سوف يترتب عليه عائد أضخم أو أن المشاريع المائية والسلطة المركزية كلاهما نشآ نشأة متواضعة ومتزامنة دون الضرورة إلى أن يسبق أحدهما الآخر، لكنهما تدريجيا وبفعل التأثير المتبادل بينهما والتغذية الاسترجاعية عمل كل منهما على تطوير الآخر، فالسلطة صارت تنحو نحو المركزية التي أعطتها القدرة لأن تجند كمًّا أكبر من الموارد وعددا أكثر من الأيدي العاملة التي مكنتها من إقامة مشاريع الري الضخمة مما قوّى من سلطتها، وهكذا. وعلى هذا النحو لم يعد وجود أنظمة الري في حد ذاته هو السبب في قيام سلطة مركزية مستبدة وإنما السبب الحقيقي هو الحاجة إلى من يتولى إدارة هذه الأنظمة والإشراف عليها وصيانتها وحمايتها، وهذا ما يحاول ويتفوغيل تفسيره وليس نشوء سلطة الدولة. وكلما قويت قبضة هذه السلطة التي تشرف على أنظمة الري كلما طمعت في المزيد ومدت سلطتها على الشؤون العامة الأخرى بما في ذلك الاقتصاد والتجارة والدين وأصبح استبدالها أمرا صعبا. ونظرا لما تحققه هذه السلطة القوية من أمن واستقرار ورخاء فقلما تجد من يعارضها.
تُرى لو عُمّر ويتفوغل طويلا ليدرك عصر النفط، والذي شاءت الأقدار أن يظهر في نفس المنطقة التي كان يتحدث عنها، هل تراه سيجد أوجها للمقارنة بين الماء والنفط