منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By فهد القحطاني ١٢
#49012
ساهر في عيون ميكافيلي

صالح بن محمد الخثلان

الأحد, 02 يناير 2011 18:53





للمفكر السياسي العظيم نيقولا مكيافيلي عدد من النصائح المهمة موجهة للحكام نشرها قبل خمسمئة عام في كتابه الموسوم " الأمير"، و يقال أن كثيراَ من الحكام حتى زمننا الحاضر يحتفظون بنسخة من الكتاب تحت وساداتهم يقرؤون منه كل ليلة ما يفيدهم في إدارة شؤون رعاياهم ويمكنهم من المحافظة على سلطانهم. ومن بين أشهر النصائح التي وجهها مكيافيلي للحاكم أن يحذر عند التعامل مع أموال الناس فهم كما يقول "ربما يسامحونك إن قتلت أباهم، لكنهم أبداً لن يسامحوك إن سلبت أموالهم".


هذا القول شبيه إلى درجة التماثل بالمثل الشعبي الشهير "قطع الاعناق ولا قطع الارزاق". ويبدو أن من صاغ هذا المثل قد اطلع على كتاب الأمير، أو أن مكيافيلي قد سمع بمثلنا الشعبي وضمنه في كتابه. المهم والمؤكد أن الأقوال كثيرة فيما يتعلق بتأثير دخول الناس وأحوالهم المعيشية على اتجاهاتهم ومواقفهم، لاسيما السياسية منها. وهذا قد يحدث بطريقة سلميه، كما هي الحال أثناء الانتخابات حين يصبح الاقتصاد العامل الأكثر تأثيراً في تحديد نتائجها. ولعلنا نتذكر العبارة الشهيرة التي قيلت أثناء الانتخابات الأميركية قبل سنوات، والتي تقول (إنه الاقتصاد يا غبي) في إشارة إلى أن من يريد أن يكسب أصوات الناخبين فعليه مراعاة أوضاعهم وحاجاتهم الاقتصادية.



غير أن هناك مظاهر أخرى ولكنها أقل سلمية لتأثير الاقتصاد وأحوال الناس المعيشية على مواقفهم، منها تأثير الأزمات الاقتصادية على استقرار الاوضاع السياسية، وما يحدث من مسيرات احتجاج ضد تخفيض الدعم الحكومي للسلع الاساسية أو ضد رفع الأسعار. ولعلنا لا نزال نتذكر ما أصبح يعرف بثورة الخبز أو انتفاضة صندوق النقد الدولي احتجاجاً على النصائح التي يقدمها الصندوق للحكومات لمعالجة مشاكلها الاقتصادية، ومعظمها يدعو إلى تقليص الإنفاق الحكومي، وأكثر من يتأثر بها الفئات الأقل دخلاً. بل إن أثر الاقتصاد على السلوك السياسي للجماهير قد يرتقي أحياناً ويتظافر مع عوامل أخرى ليقود إلى ثورات كما حدث في فرنسا و روسيا وإيران.


نحن في السعودية والخليج بشكل عام رزقنا المولى عز وجل من باطن الارض ثروات عظيمة كفتنا الحاجة إلى التعرف على هذه العلاقة العكسية بين الأحوال المعيشية من جهة والمواقف السياسية من جهة أخرى، حيث حمتنا ثروة النفط– أطال الله عمره– كما قال الملك عبد الله مداعباً- من هم الضرائب، وضمنت لنا طوال هذه العقود مستوياتِ معيشية طيبة نسأل الله أن يرزقنا شكرها.


ولكن وخلال السنوات الاخيرة تغيرت هذه الحالة حيث بدأت الأحوال المعيشية في التردي لأسباب مختلفة، وزادت مساحة الفقر في المجتمع، ورغم أننا بقينا في مأمن من الضرائب المثقلة للكاهل في الكثير من الدول، إلا أن بعضنا بدأ يحس بثقل رسوم فرضت ليس لهدف تحصيل المال- وإن كان هناك من يعتقد ذلك-بل بقصد تعديل السلوك من خلال تحميل المواطن تكاليف في شكل رسوم مالية. من ذلك مثلاً رسوم الاستقدام التي تهدف إلى الحد من استقدام العمالة الاجنبية، ولكن يظهر أن الرسوم المرتفعة لم تنجح في تعديل السلوك حيث لا نزال نستقدم العمالة بمعدلات عالية جداً. واليوم نجدنا أمام رسوم جديدة فرضت من أجل تعديل السلوك المروري للحد من الخسائر الكبيرة في الأرواح و الممتلكات، ولا يزال الوقت مبكراً للحكم على نجاح هذه الرسوم في تحقيق الهدف المنشود.


المؤكد أن مخالفات ساهر المبالغ فيها أصبحت مصدر شكوى الكثير من شرائح المجتمع، وخاصة أبناء الطبقتين الوسطى والمحدودة الدخل. ومن خلال ما يصلنا في الجمعية الوطنية لحقوق الانسان من شكاوى تجاه ساهر أستطيع أن أقول أننا اليوم أمام مصدر احتقان واستياء لم يعرفه المجتمع السعودي من قبل. فمن خلال الاتصالات التي ترد احتجاجاً على ساهر أحس بلغة مختلفة في مفرداتها وتعبيراتها؛ لغة مشحونة تختزن الكثير من الألم، وتعبر عن درجة متقدمة من الاستياء. الناس بالطبع لا يشتكون من النظام، بل جميعهم مؤيد له ومقدر للحكومة تطبيقه، لكنهم يشتكون المبالغة الكبيرة في قيمة المخالفات التي أصبحت تثقل كواهلهم.


وردت إلينا شكاوى من كثير من الآباء والأمهات أصحاب الدخل المحدود، الذين ولأسباب خارج سيطرتهم، حصل أبناؤهم على مخالفات في شهر واحد تجاوزت في مجملها ثلثي دخلهم. هم يشتكون من هذه المخالفات التي في حال أضيفت إلى الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات أصبحت لا تبقي لهم سوى النزر اليسير من الدخل، وجعلتهم في معاناة يومية حتى فيما يتعلق باحتياجاتهم الأساسية.

ما يزيد الحسرة ويعمق حالة الاستياء هو أن هذه المخالفات المبالغ فيها تُفرض في وقت تتمتع فيه الدولة بأكبر ميزانيات في تاريخها، وقد أعلن قبل أيام عن ميزانية هذا العام التي أظهرت أرقاماً عظيمة ولله الحمد. والمفارقة أن الحديث المتكرر عن الميزانية والاحتفاء بها ووصفها بأنها الأكبر في التاريخ يزيد- ولا ينقص- من ألم و استياء من صادتهم كاميرات ساهر حيث يتساءلون باستنكار: كيف يطالبون بدفع هذه المخالفات المبالغ فيها في وقت يقفز فيه دخل الدولة إلى أرقام فلكية.


تزداد الحيرة حين يشعر هؤلاء أن مسؤولية هذه المخالفات لا تقع عليهم وحدهم، بل تشاركهم في تحملها إدارة المرور؛ بسبب ضعف التهيئة قبل وأثناء تطبيق النظام. فالجميع يشتكي بأن ارتكابهم المخالفات سببه عدم وجود تحديد دقيق وواضح للسرعات القصوى في معظم الشوارع والطرق. ويراهن البعض أن الغالبية الكبرى من المخالفات في مدينة الرياض على سبيل المثال سُجلت في الشوارع الداخلية، وليس على الطريق الدائري، أو الطرق السريعة. وسبب ذلك أن السرعة القصوى معروفة بشكل جلي في الطريق الدائري وبقية الطرق السريعة ولذلك يلتزم السائقون بها، في حين أن الشوارع الداخلية تفتقر إلى تحديد واضح للسرعة، فقد لا توجد لوحات سرعة، أو أنها توجد ولكن يصعب رؤيتها بسبب حجبها بشجرة أو نحوه، أو أن تتغير السرعة القصوى بين مسافات قصيرة في نفس الشارع. وللتأكد من هذا القول وتفنيده فقد يكون من الملائم تكليف جهة محايدة مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، أو جامعة الملك سعود، للقيام بدراسة للمخالفات المرورية المسجلة في مدينة الرياض لتحديد موقع حدوثها. وبذلك تتبين على من تقع المسئولية، فقد يتبين أن المشكلة ليست في السائقين، بل في تطبيق النظام من دون الوفاء الكامل باشتراطاته .


وعودة إلى شكوى الناس وما تعبر عنه من احتقان، ومن أجل احتوائه وعدم تطوره باتجاهات سلبية، نقول إن الوقت لا يزال مناسباً لإعادة النظر في قيمة المخالفات وتخفيضها بحيث تحقق الغرض منها، وفي الوقت ذاته لا تثقل كاهل المواطن صاحب الدخل المحدود. فمخالفة قدرها (300 أو 500 ريال) ورفعها للحد الأعلى في حال عدم التسديد خلال شهر تعد مرتفعة جداً بالنظر لدخل الكثير من المواطنين والذي تراجع خلال السنوات الاخيرة بسبب ارتفاع تكاليف الحياة. وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن 45% من الموظفين السعوديين يتقاضون مرتبات شهرية لا تتجاوز 3000 ريال، وعليكم الحساب حين يسجًل على صاحب هذا الدخل أو من يعوله مخالفتان أو أكثر في الشهر.! وقد حدثني زميل متخصص في الدراسات الاجتماعية أن احتمال ارتكاب المخالفات يزداد بين أصحاب الدخول المحدودة مقارنة بأصحاب الدخول المرتفعة بسبب الهموم المعيشية التي تشغل تفكيرهم، وتصرفهم عن مراقبة مؤشر السرعة.


قرار تخفيض قيمة المخالفات لابد أن يرافقه أيضاً قرار آخر بتجميد مؤقت لنظام ساهر حتى تقوم إدارة المرور بمسؤولياتها في تهيئة جميع الشوارع والطرق باللوحات المحددة للسرعة وتكثيفها وكذلك إعادة تخطيط هذه الشوارع. نعم على السائقين الالتزام بضوابط المرور، وهم بل لاشك مسؤولون عن المخالفات ولكنهم-وهذا ما يجب أن يدركه صانع القرار – ليسوا منفردين في تحمل هذه المسؤولية، إذ إن المرور شريك لهم، وقد يكون نصيبه أكبر في تحمل مسؤولية المخالفات التي تقع في ظل نظام تم العمل به قبل تحديد واضح لا لبس فيه ولا غموض للسرعة النظامية.


لا زلت أراهن على الطبيعة المسالمة للثقافة السياسية السعودية، وكذلك الأثر الايجابي للتدين في المجتمع السعودي الذي يساعد الفرد على تحمل معاناته وتفريغها حين يرفع يديه نحو السماء داعياً الله أن يخفف عنه، ومن ثم يزول أي أثر سلبي لهذه المعاناة.


أخيراً، قد لا يكون نيقولا مكيافيلي خبيراً مرورياً، ولكنه دون شك حكيم سياسي يحرص الحكام دائماً على عدم مخالفة نصائحه خشية من العواقب. والله هو الحكيم الخبير.

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود