- الجمعة مايو 04, 2012 1:40 pm
#50005
لم يعد أحد ينكر أن الإدارة الأمريكية تعاني من مشاكل كبيرة في العراق بما في ذلك هذه الإدارة نفسها. والعديد من قادة الحزب الديمقراطي الأمريكي الذين أيدوا بحماس خيار الحرب على العراق يتهمون القيادة الأمريكية بالافتقار إلى خطة وبرنامج واضحين لإدارة عراق ما بعد الحرب. وهو ما اضطر الرئيس الأمريكي إلى أن يحدد بشكل أدق أهداف سياسته في العراق في خطابه الأخير في منتصف سبتمبر الجاري 2003.
ويرجع التخبط الواضح في السياسة الأمريكية في العراق في نظري لأسباب عديدة يمكن أن يكون في مقدمها الاعتقاد المبسط الذي نشأ نتيجة تفكك النظام البعثي القديم بأن ما تقوم به واشنطن في العراق سوف ينظر إليه أساسا باعتباره عملية تحرير وإنقاذ للشعب الممتحن من ويلات السلطة الارهابية وأنه لا توجد هناك ولا يمكن أن توجد أي حوافز كي يرفض الشعب العراقي السير وراء أي حكومة جديدة تعمل على تشكيلها الإدارة العسكرية الأمريكية وتعده بإعادة إعمار البلاد وبالديمقراطية. لكن التجربة بينت من جهة أنه كان من الصعب على الإدارة الأمريكية أن تخفي مطامعها في العراق بعد أن رفضت كل الاقتراحات الدولية المتعلقة بوضع المرحلة الانتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة، بل بمشاركة الدول الكبرى الحليفة في المسؤولية السياسية. كما بينت من جهة ثانية أن من الصعب على الشعب الذي عانى الأمرين من النظام الديكتاتوري العراقي أن يتخلى ببساطة عن سيادته لسلطة أجنبية، حتى لو كانت هذه السلطة هي الأداة التي حصلت بها إطاحة النظام العراقي.
لكن في ما وراء هذا السبب الذي يشير إلى خطأ حسابات السياسة الأمريكية يبدو لي أن من الصعب فصل تخبط الإدارة العكسرية الأمريكية في العراق عن مسألة أكبر وأهم هي اختلاف وأحيانا تناقض أولويات أو "أجندات" الحروب الثلاث التي تخاض في ظل احتلال العراق والتي تفسر هذا الاحتلال وطبيعته كما تفسر عجز الإدارة الأمريكية في واشنطن عن إصلاح سياساتها ومراجعة حساباتها الخاطئة في العراق والشرق الأوسط معا.
الأجندة الأولى، أو جدول الأعمال الأول الذي أريد للحرب أن تحققه والذي من أجله تبلور خيار الاحتلال ورفض التعاون مع الدول الأطلسية الحليفة ومع الأمم المتحدة والدول العربية الصديقة أيضا، هو أجندة حرب الحفاظ على التفوق الأمريكي العالمي. وبنود هذه الأجندة الرئيسية، كما لا تكف الإدارة الأمريكية عن الترداد، هي بالفعل القضاء على نظم وترسانات الأسلحة الاستراتيجية أو أسلحة الدمار الشامل سواء أكان ذلك في العراق أو في أي دولة جديدة وحظر تنامي ترسانات الأسلحة النووية، والسيطرة على الموارد الاستراتيجية وتوسيع دائرة السيطرة الإقليمية. فالهدف الرئيسي اليوم للولايات المتحدة التي أدركت قوتها الاستثنائية ووجدت نفسها بالفعل في موقع القيادة والسيادة العالمية هو العمل على ترسيخ أسس قوتها وسيطرتها حتى تضمن لها الديمومة. وهو ما يستدعي الحفاظ على التفوق وعدم التفريط بأي موقع مكتسب والسعي إلى الإمساك باكثر ما يمكن من أوراق القوة الدولية. وتعني الترجمة الشرق أوسطية لهذه الأجندة العمل على التحكم بمنابع الطاقة واحتياطياتها في العراق ومن ورائه في منطقة الخليج بأسرها وإخضاعها لأهداف الاستراتيجية الهيمنية ، كما تعني تعزيز التحالف الأمريكي الاسرائيلي لقطع الطريق على أي معارضة إقليمية عربية وأخيرا تقزيم الدول العربية وترويع نخبها وأنظمتها لمنع نشوء أي حركة تعاون أو اندماج أو تفاهم إقليمي ينتج عنه ازدياد في هامش مناورة المجتمعات العربية الاستراتيجي وربما احتمال تحول تدريجي في ميزان القوى الاقليمية.
ومن هذه الزاوية يشكل مشروع احتلال العراق أداة من أدوات الاستراتيجية الجديدة الرامية إلى إمساك واشنطن بأهم أوراق وعناصر النمو والتفوق الاستراتيجي من أجل تأكيد قيادتها العالمية وضمان استمرار تفوقها الاستراتيجي على جميع القوى الدولية الأخرى التي تهم بالارتقاء إلى مصاف الدولة العظمى في السنوات القادمة وفي مقدمها الاتحاد الاوروبي والصين. وبالسيطرة على هذه الورقة لا تضمن الولايات المتحدة لنفسها التزود الثابت والمستقر بالطاقة ولكن أكثر من ذلك ضبط أسعارها التي تلعب دورا كبيرا اليوم في تحديد الهامش التنافسي الضيق في كلف الانتاج في الدول الصناعية وبالتالي في معدلات النمو الاقتصادي. وتزداد أهمية هذه السيطرة على منابع الطاقة الشرق أوسطية عندما نعرف أن المنابع الأمريكية للنفط سوف تنفذ خلال السنوات العشر الماضية وأن الشركات النفطية الأمريكية التي سيطرت خلال القرن الماضي على معظم تجارة النفط الدولية لن تقبل بأن تخرج من هذه السوق أو تفقد وزنها الهائل فيها. وبسيطرتها على منابع الشرق الأوسط، من خلال إلحاق هذه المنطقة بالسوق الأمريكية، كما اقترح الرئيس جورج بوش، تعيد هذه الشركات تأهيل نفسها وتثبت موقعها في سوق النفط العالمية. بل ربما كانت هذه هي فرصتها الوحيدة للحفاظ على البقاء.
لكن في ما وراء السيطرة على منابع الطاقة لأهداف إقتصادية يشكل التحكم بنفط الشرق الأوسط والنفط عامة ورقة استراتيجية عظيمة الاهمية لتعزيز مفهوم القوة والتفوق الاستراتيجي الامريكي تجاه الدول الصناعية الكبرى التي ستجد نفسها تحت رحمة الشركات الأمريكية في أهم عامل من عوامل الانتاج، أعني عامل الطاقة من حيث توفرها ومن حيث تحديد سعرها.
هذه من دون شك هي أجندة حرب النفط ليس بالمعنى البسيط الذي يعني حصول أمريكا على النفط، ولكن بالمعنى المركب الذي يعنى استخدام النفط وسيلة من وسائل التنافس والصراع العالمي الراهن على تحقيق الأسبقية الاقتصادية والاستراتيجية، وبالتالي التحكم بموقع القيادة الدولية وما يعنيه من تحديد جدول أعمال السياسة العالمية.
إلى جانب أجندة حرب حماية التفوق الأمريكي والسيطرة على منابع الطاقة، وأحيانا في مواجهتها، تقف أجندة أخرى من الصعب تمييزها بشكل مستقل وواضح لأن المستفيد منها لم يدفع بجيوشه إلى ساحة المعركة، هي أجندة الحرب الاسرائيلية الرامية إلى ضمان الأمن والاستقرار والإزدهار لاسرائيل. وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون تفكيك القوة العربية. وليس هناك أي شك في نظري في أن تحطيم العراق من حيث هو قوة عسكرية وتدمير معداته وحل جيشه وقطع الطريق أمام أي حكومة عراقية قادمة على إعادة بناء عراق قوي عسكريا واقتصادي وتقنيا وعلميا، و دفع العراق نحو الاقتتال الداخلي والعنف والفوضى الشاملة هو هدف خاص باسرائيل ولا علاقة له بالأهداف الأمريكية الرئيسية. وهو استنتاج صحيح حتى لو أن التحطيم العسكري للعراق يمكن أن يدخل ضمن الاستراتيجية الأمريكية بوصفه شرطا ضروريا لإنهاء الصراع في المنطقة وتعبيد الطريق نحو تسوية سياسية تعبر عن بداية الحقبة الجديدة للنفوذ أو السيطرة الأمريكية الشرق أوسطية. إن حرب تدمير البنية التحتية والدولة العراقية بوصفها جزءا من مصادر القوة الاستراتيجية العربية لا تخوضها الولايات المتحدة وبريطانيا لصالحها ولكن لحساب إسرائيل. وهي لا تهدف إلى إخراج العراق من ساحة الصراع العربي الاسرائيلي التاريخي كما أخرجت مصر باتفاقيات كمب ديفيد فحسب، ولكن أكثر من ذلك، إلى إنهاء جبهة الصراع العربي الاسرائيلي لصالح تل أبيب وفرض الاستسلام على البلاد العربية وإجبارها على القبول بإسرائيل كقوة مركزية وقيادية في المنطقة والتسليم بتسوية فلسطينية إسرائيلية وإسراائيلية عربية ضعيفة تراعي بالدرجة الأولى مصالح إسرائيل وتعزز موقعها المتفوق في المنطقة.
والواقع ليس هناك ما يمكن أن يفسر الطريقة التي تصرفت فيها القوات الأمريكية البريطانية تجاه الدولة العراقية القائمة ومؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة العسكرية سوى السعي إلى تدمير العراق كدولة وكوحدة سياسية وكمصدر محتمل في المستقبل لإعادة بناء قوة عسكرية يمكن أن تغير في موازين القوى الإقليمية. وليس هناك ما يفسر إرادة سلطات الاحتلال في نشر الفوضى والتشجيع عليها سوى رغبتها في تفجير الصراعات والنزاعات الداخلية الطائفية والأقوامية بهدف تفكيك العراق نفسه ومنعه من إعادة لم شمله واستعادة قدراته وموقعه في التوازنات الإقليمية. إن ما تريده إسرائيل من العراق، عبر ممثليها العلنيين داخل الإدارة الامريكية الراهنة، هو في الواقع دفع العراق نحو حالة مستمرة من الفوضى والاقتتال يحيده لسنوات طويلة وريما نهائيا عن ساحة الصراع إن لم يقض عليه كدولة موحدة عربية الانتماء. ويكاد المرء يعتقد بالفعل أن إسرائيل هي التي تخوض، من خلف التحالف الأمريكي البريطاني، حرب الانتقام التاريخي من نبوخذنصر وبمنطق حروب العصر القديم ذاتها التي تتطابق مفاهيمها مع تدمير الحجر وقطع الشجر وقتل البشر وترك البلاد قاعا صفصفا، أي القضاء المادي والكامل على الدولة بكل ما فيها من مؤسسات وبشر وماء وحياة .
ومما يزيد من صدقية هذه النظرية أن دفع العراق نحو الفوضى والانهيار الكامل لا يتماشى مع مشروع السيطرة الأمريكية الراهن على المنطقة. بل إنه يسيء إلى المصالح الامريكية وإلى الشعارات التي ترفعها واشنطن باسم الديمقراطية والحرية والتخلص من الاستبداد ومن أجل السلام والتغيير والإصلاح. فالاسرائيليون يعملون بالفعل، من خلال ممثليهم في الإدارة الأمريكية، سواء أكانوا من المسيحيين المتصهينين أو من الصهاينة الفعليين، على تجيير الحرب الأمريكية على العراق لخدمة مصالحهم الإقليمية الخاصة فحسب، ولا يهمهم إن أدى ذلك إلى تقويض مشروع السيطرة الأمريكية. وهو ما يحصل الآن أو ما هو في طريق الحصول.
أما الأجندة الثالثة التي تفسر ما يجري في العراق فهي أجندة ما تم التعارف على تسميته بالحرب الحضارية التي انتقلت بسرعة إلى أرض العراق بعد أن شهدت حلقاتها الأولى في أفغانستان ثم في واشنطن ونيويورك نفسها. وهي حرب يغذيها الاعتقاد لدى قسم من القادة الأمريكيين، منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، بصرف النظر عن صلتهم بشركات النفط أو بإسرائيل، بأن ما نعيشه اليوم هو صراع بين الثقافة والحضارة الغربية العقلانية والديمقراطية والثقافة والحضارة العربية الاسلامية، وربما أيضا الصينية المناهضة لهذه القيم والقائمة على قيم وتقاليد محافظة لاهوتية وإستبدادية ولا إنسانية. وتساعد مثل هذه الطروحات على التغطية على حقيقة الحربين الأساسيين، أعني حرب الطاقة وحرب التمكين التاريخي لاسرائيل في الشرق الأوسط، وتظهرهما كما لو كانتا حربين أخلاقيتين تخاضان باسم القيم الإنسانية وفي سبيل تأكيدها ضد البربرية والهمجية. وأجندة هذه الحرب هي التي تفسر ما تعرض له العراق من تدمير غير مفهوم للوهلة الأولى لمكتبات العراق ومتاحفه وآثاره التاريخية وكل ما يرمز إليه كثقافة ساهمت في تقدم الحضارة الإنسانية. وليس المقصود من هذا التدمير محو ذاكرة العراق وتراثه الثقافي والحضاري فحسب لقطع المجتمع عن جذوره وتشويه شخصيته وإعادته إلى حالة الضياع والهمجية وإنما أكثر من ذلك توجيه ضربة قوية إلى الحضارة العربية ومحو آثارها على الأرض، عبر أحد أهم مراكزها الثقافية والتاريخية.
كان لدى الإدارة الأمريكية فرصة أكبر لتحقيق سيطرتها على العراق وما يمثله من موقع جيوسياسي ونفطي استراتيجي لو لم تتبن خيار تدمير الدولة العراقية بكل ما يعنيه ذلك من حل الجيش والإدارة والشرطة وجميع المؤسسات القانونية والقضائية الأخرى. لكن كان سيبدو ذلك وكأنه على حساب أجندة حماية إسرائيل وضمان استقرارها، أو على الأقل ما كان من الممكن لاسرائيل أن تستفيد كثيرا من انهيار نظام صدام وتجعله جزءا من مكاسبها الاستراتيجية. وبالمثل، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تحتفظ بهامش مناورة استراتيجية أكبر في وجه القوى المعادية للاحتلال لو لم تجعل من القضاء على نظام صدام جزءا من برنامج أشمل لإعادة ترتيب المنطقة برمتها وتغيير عقليتها والتدخل في نظمها التعليمية والاعتقادية، أي لو لم تربط بين السعي لتغيير الثقافة العربية الاسلامية والحرب العالمية ضد الارهاب.
لكن كان من الصعب أن ننتظر من الإدارة الأمريكية الراهنة سياسات بناءة، أكثر اتساقا وعقلانية، يستفيد منها الشرق الأوسط. فليس لهذه السياسات من أساس آخر سوى احتقار الشعوب العربية والتضامن الشامل مع إسرائيل والحرص على استمرار السيطرة المنفردة على موارد المنطقة ومصائرها. ولا يمكن لحرب احتلال العراق التي تجسد هذه البرامج الثلاثة إلا أن تكون مناسبة لإظهار تخبط مشاريع السيطرة الأمريكية وتضارب الأهداف والمصالح التي تضمها وتقوم عليها في الشرق الاوسط، وفي ما وراء ذلك، تعميق القطيعة العربية الأمريكية وتعزيز سياسة اسرائيل الاستيطانية والتوسعية وتأكيد الطابع الاستعماري البدائي للهيمنة الأمريكية.
ويرجع التخبط الواضح في السياسة الأمريكية في العراق في نظري لأسباب عديدة يمكن أن يكون في مقدمها الاعتقاد المبسط الذي نشأ نتيجة تفكك النظام البعثي القديم بأن ما تقوم به واشنطن في العراق سوف ينظر إليه أساسا باعتباره عملية تحرير وإنقاذ للشعب الممتحن من ويلات السلطة الارهابية وأنه لا توجد هناك ولا يمكن أن توجد أي حوافز كي يرفض الشعب العراقي السير وراء أي حكومة جديدة تعمل على تشكيلها الإدارة العسكرية الأمريكية وتعده بإعادة إعمار البلاد وبالديمقراطية. لكن التجربة بينت من جهة أنه كان من الصعب على الإدارة الأمريكية أن تخفي مطامعها في العراق بعد أن رفضت كل الاقتراحات الدولية المتعلقة بوضع المرحلة الانتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة، بل بمشاركة الدول الكبرى الحليفة في المسؤولية السياسية. كما بينت من جهة ثانية أن من الصعب على الشعب الذي عانى الأمرين من النظام الديكتاتوري العراقي أن يتخلى ببساطة عن سيادته لسلطة أجنبية، حتى لو كانت هذه السلطة هي الأداة التي حصلت بها إطاحة النظام العراقي.
لكن في ما وراء هذا السبب الذي يشير إلى خطأ حسابات السياسة الأمريكية يبدو لي أن من الصعب فصل تخبط الإدارة العكسرية الأمريكية في العراق عن مسألة أكبر وأهم هي اختلاف وأحيانا تناقض أولويات أو "أجندات" الحروب الثلاث التي تخاض في ظل احتلال العراق والتي تفسر هذا الاحتلال وطبيعته كما تفسر عجز الإدارة الأمريكية في واشنطن عن إصلاح سياساتها ومراجعة حساباتها الخاطئة في العراق والشرق الأوسط معا.
الأجندة الأولى، أو جدول الأعمال الأول الذي أريد للحرب أن تحققه والذي من أجله تبلور خيار الاحتلال ورفض التعاون مع الدول الأطلسية الحليفة ومع الأمم المتحدة والدول العربية الصديقة أيضا، هو أجندة حرب الحفاظ على التفوق الأمريكي العالمي. وبنود هذه الأجندة الرئيسية، كما لا تكف الإدارة الأمريكية عن الترداد، هي بالفعل القضاء على نظم وترسانات الأسلحة الاستراتيجية أو أسلحة الدمار الشامل سواء أكان ذلك في العراق أو في أي دولة جديدة وحظر تنامي ترسانات الأسلحة النووية، والسيطرة على الموارد الاستراتيجية وتوسيع دائرة السيطرة الإقليمية. فالهدف الرئيسي اليوم للولايات المتحدة التي أدركت قوتها الاستثنائية ووجدت نفسها بالفعل في موقع القيادة والسيادة العالمية هو العمل على ترسيخ أسس قوتها وسيطرتها حتى تضمن لها الديمومة. وهو ما يستدعي الحفاظ على التفوق وعدم التفريط بأي موقع مكتسب والسعي إلى الإمساك باكثر ما يمكن من أوراق القوة الدولية. وتعني الترجمة الشرق أوسطية لهذه الأجندة العمل على التحكم بمنابع الطاقة واحتياطياتها في العراق ومن ورائه في منطقة الخليج بأسرها وإخضاعها لأهداف الاستراتيجية الهيمنية ، كما تعني تعزيز التحالف الأمريكي الاسرائيلي لقطع الطريق على أي معارضة إقليمية عربية وأخيرا تقزيم الدول العربية وترويع نخبها وأنظمتها لمنع نشوء أي حركة تعاون أو اندماج أو تفاهم إقليمي ينتج عنه ازدياد في هامش مناورة المجتمعات العربية الاستراتيجي وربما احتمال تحول تدريجي في ميزان القوى الاقليمية.
ومن هذه الزاوية يشكل مشروع احتلال العراق أداة من أدوات الاستراتيجية الجديدة الرامية إلى إمساك واشنطن بأهم أوراق وعناصر النمو والتفوق الاستراتيجي من أجل تأكيد قيادتها العالمية وضمان استمرار تفوقها الاستراتيجي على جميع القوى الدولية الأخرى التي تهم بالارتقاء إلى مصاف الدولة العظمى في السنوات القادمة وفي مقدمها الاتحاد الاوروبي والصين. وبالسيطرة على هذه الورقة لا تضمن الولايات المتحدة لنفسها التزود الثابت والمستقر بالطاقة ولكن أكثر من ذلك ضبط أسعارها التي تلعب دورا كبيرا اليوم في تحديد الهامش التنافسي الضيق في كلف الانتاج في الدول الصناعية وبالتالي في معدلات النمو الاقتصادي. وتزداد أهمية هذه السيطرة على منابع الطاقة الشرق أوسطية عندما نعرف أن المنابع الأمريكية للنفط سوف تنفذ خلال السنوات العشر الماضية وأن الشركات النفطية الأمريكية التي سيطرت خلال القرن الماضي على معظم تجارة النفط الدولية لن تقبل بأن تخرج من هذه السوق أو تفقد وزنها الهائل فيها. وبسيطرتها على منابع الشرق الأوسط، من خلال إلحاق هذه المنطقة بالسوق الأمريكية، كما اقترح الرئيس جورج بوش، تعيد هذه الشركات تأهيل نفسها وتثبت موقعها في سوق النفط العالمية. بل ربما كانت هذه هي فرصتها الوحيدة للحفاظ على البقاء.
لكن في ما وراء السيطرة على منابع الطاقة لأهداف إقتصادية يشكل التحكم بنفط الشرق الأوسط والنفط عامة ورقة استراتيجية عظيمة الاهمية لتعزيز مفهوم القوة والتفوق الاستراتيجي الامريكي تجاه الدول الصناعية الكبرى التي ستجد نفسها تحت رحمة الشركات الأمريكية في أهم عامل من عوامل الانتاج، أعني عامل الطاقة من حيث توفرها ومن حيث تحديد سعرها.
هذه من دون شك هي أجندة حرب النفط ليس بالمعنى البسيط الذي يعني حصول أمريكا على النفط، ولكن بالمعنى المركب الذي يعنى استخدام النفط وسيلة من وسائل التنافس والصراع العالمي الراهن على تحقيق الأسبقية الاقتصادية والاستراتيجية، وبالتالي التحكم بموقع القيادة الدولية وما يعنيه من تحديد جدول أعمال السياسة العالمية.
إلى جانب أجندة حرب حماية التفوق الأمريكي والسيطرة على منابع الطاقة، وأحيانا في مواجهتها، تقف أجندة أخرى من الصعب تمييزها بشكل مستقل وواضح لأن المستفيد منها لم يدفع بجيوشه إلى ساحة المعركة، هي أجندة الحرب الاسرائيلية الرامية إلى ضمان الأمن والاستقرار والإزدهار لاسرائيل. وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون تفكيك القوة العربية. وليس هناك أي شك في نظري في أن تحطيم العراق من حيث هو قوة عسكرية وتدمير معداته وحل جيشه وقطع الطريق أمام أي حكومة عراقية قادمة على إعادة بناء عراق قوي عسكريا واقتصادي وتقنيا وعلميا، و دفع العراق نحو الاقتتال الداخلي والعنف والفوضى الشاملة هو هدف خاص باسرائيل ولا علاقة له بالأهداف الأمريكية الرئيسية. وهو استنتاج صحيح حتى لو أن التحطيم العسكري للعراق يمكن أن يدخل ضمن الاستراتيجية الأمريكية بوصفه شرطا ضروريا لإنهاء الصراع في المنطقة وتعبيد الطريق نحو تسوية سياسية تعبر عن بداية الحقبة الجديدة للنفوذ أو السيطرة الأمريكية الشرق أوسطية. إن حرب تدمير البنية التحتية والدولة العراقية بوصفها جزءا من مصادر القوة الاستراتيجية العربية لا تخوضها الولايات المتحدة وبريطانيا لصالحها ولكن لحساب إسرائيل. وهي لا تهدف إلى إخراج العراق من ساحة الصراع العربي الاسرائيلي التاريخي كما أخرجت مصر باتفاقيات كمب ديفيد فحسب، ولكن أكثر من ذلك، إلى إنهاء جبهة الصراع العربي الاسرائيلي لصالح تل أبيب وفرض الاستسلام على البلاد العربية وإجبارها على القبول بإسرائيل كقوة مركزية وقيادية في المنطقة والتسليم بتسوية فلسطينية إسرائيلية وإسراائيلية عربية ضعيفة تراعي بالدرجة الأولى مصالح إسرائيل وتعزز موقعها المتفوق في المنطقة.
والواقع ليس هناك ما يمكن أن يفسر الطريقة التي تصرفت فيها القوات الأمريكية البريطانية تجاه الدولة العراقية القائمة ومؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة العسكرية سوى السعي إلى تدمير العراق كدولة وكوحدة سياسية وكمصدر محتمل في المستقبل لإعادة بناء قوة عسكرية يمكن أن تغير في موازين القوى الإقليمية. وليس هناك ما يفسر إرادة سلطات الاحتلال في نشر الفوضى والتشجيع عليها سوى رغبتها في تفجير الصراعات والنزاعات الداخلية الطائفية والأقوامية بهدف تفكيك العراق نفسه ومنعه من إعادة لم شمله واستعادة قدراته وموقعه في التوازنات الإقليمية. إن ما تريده إسرائيل من العراق، عبر ممثليها العلنيين داخل الإدارة الامريكية الراهنة، هو في الواقع دفع العراق نحو حالة مستمرة من الفوضى والاقتتال يحيده لسنوات طويلة وريما نهائيا عن ساحة الصراع إن لم يقض عليه كدولة موحدة عربية الانتماء. ويكاد المرء يعتقد بالفعل أن إسرائيل هي التي تخوض، من خلف التحالف الأمريكي البريطاني، حرب الانتقام التاريخي من نبوخذنصر وبمنطق حروب العصر القديم ذاتها التي تتطابق مفاهيمها مع تدمير الحجر وقطع الشجر وقتل البشر وترك البلاد قاعا صفصفا، أي القضاء المادي والكامل على الدولة بكل ما فيها من مؤسسات وبشر وماء وحياة .
ومما يزيد من صدقية هذه النظرية أن دفع العراق نحو الفوضى والانهيار الكامل لا يتماشى مع مشروع السيطرة الأمريكية الراهن على المنطقة. بل إنه يسيء إلى المصالح الامريكية وإلى الشعارات التي ترفعها واشنطن باسم الديمقراطية والحرية والتخلص من الاستبداد ومن أجل السلام والتغيير والإصلاح. فالاسرائيليون يعملون بالفعل، من خلال ممثليهم في الإدارة الأمريكية، سواء أكانوا من المسيحيين المتصهينين أو من الصهاينة الفعليين، على تجيير الحرب الأمريكية على العراق لخدمة مصالحهم الإقليمية الخاصة فحسب، ولا يهمهم إن أدى ذلك إلى تقويض مشروع السيطرة الأمريكية. وهو ما يحصل الآن أو ما هو في طريق الحصول.
أما الأجندة الثالثة التي تفسر ما يجري في العراق فهي أجندة ما تم التعارف على تسميته بالحرب الحضارية التي انتقلت بسرعة إلى أرض العراق بعد أن شهدت حلقاتها الأولى في أفغانستان ثم في واشنطن ونيويورك نفسها. وهي حرب يغذيها الاعتقاد لدى قسم من القادة الأمريكيين، منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، بصرف النظر عن صلتهم بشركات النفط أو بإسرائيل، بأن ما نعيشه اليوم هو صراع بين الثقافة والحضارة الغربية العقلانية والديمقراطية والثقافة والحضارة العربية الاسلامية، وربما أيضا الصينية المناهضة لهذه القيم والقائمة على قيم وتقاليد محافظة لاهوتية وإستبدادية ولا إنسانية. وتساعد مثل هذه الطروحات على التغطية على حقيقة الحربين الأساسيين، أعني حرب الطاقة وحرب التمكين التاريخي لاسرائيل في الشرق الأوسط، وتظهرهما كما لو كانتا حربين أخلاقيتين تخاضان باسم القيم الإنسانية وفي سبيل تأكيدها ضد البربرية والهمجية. وأجندة هذه الحرب هي التي تفسر ما تعرض له العراق من تدمير غير مفهوم للوهلة الأولى لمكتبات العراق ومتاحفه وآثاره التاريخية وكل ما يرمز إليه كثقافة ساهمت في تقدم الحضارة الإنسانية. وليس المقصود من هذا التدمير محو ذاكرة العراق وتراثه الثقافي والحضاري فحسب لقطع المجتمع عن جذوره وتشويه شخصيته وإعادته إلى حالة الضياع والهمجية وإنما أكثر من ذلك توجيه ضربة قوية إلى الحضارة العربية ومحو آثارها على الأرض، عبر أحد أهم مراكزها الثقافية والتاريخية.
كان لدى الإدارة الأمريكية فرصة أكبر لتحقيق سيطرتها على العراق وما يمثله من موقع جيوسياسي ونفطي استراتيجي لو لم تتبن خيار تدمير الدولة العراقية بكل ما يعنيه ذلك من حل الجيش والإدارة والشرطة وجميع المؤسسات القانونية والقضائية الأخرى. لكن كان سيبدو ذلك وكأنه على حساب أجندة حماية إسرائيل وضمان استقرارها، أو على الأقل ما كان من الممكن لاسرائيل أن تستفيد كثيرا من انهيار نظام صدام وتجعله جزءا من مكاسبها الاستراتيجية. وبالمثل، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تحتفظ بهامش مناورة استراتيجية أكبر في وجه القوى المعادية للاحتلال لو لم تجعل من القضاء على نظام صدام جزءا من برنامج أشمل لإعادة ترتيب المنطقة برمتها وتغيير عقليتها والتدخل في نظمها التعليمية والاعتقادية، أي لو لم تربط بين السعي لتغيير الثقافة العربية الاسلامية والحرب العالمية ضد الارهاب.
لكن كان من الصعب أن ننتظر من الإدارة الأمريكية الراهنة سياسات بناءة، أكثر اتساقا وعقلانية، يستفيد منها الشرق الأوسط. فليس لهذه السياسات من أساس آخر سوى احتقار الشعوب العربية والتضامن الشامل مع إسرائيل والحرص على استمرار السيطرة المنفردة على موارد المنطقة ومصائرها. ولا يمكن لحرب احتلال العراق التي تجسد هذه البرامج الثلاثة إلا أن تكون مناسبة لإظهار تخبط مشاريع السيطرة الأمريكية وتضارب الأهداف والمصالح التي تضمها وتقوم عليها في الشرق الاوسط، وفي ما وراء ذلك، تعميق القطيعة العربية الأمريكية وتعزيز سياسة اسرائيل الاستيطانية والتوسعية وتأكيد الطابع الاستعماري البدائي للهيمنة الأمريكية.