منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#51149
روح الثورات .. بين البعث والإغتيال
بقلم د. طارق عبد الحليم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قلت في مقال لي من قَبل، إنّ العسكر لن يسمحوا بترشيح أبو اسماعيل، مهما كلّف الأمر. وهذا الذي نراه على أرض الواقع هو مصداق ذلك. وقد أرجعت ذلك إلى سنن الله في عباده، سنة التدافع، وهي أن الشرّ لا يدفعه إلا القوة المعلقة بالحق، لا بغيرها، وأنّ الوسائل الخانعة القانونية والديموقراطية، لا تبلغ بالحق طريقاً، ولا تقطع به وادياً.

الأمر اليوم أصبح من الظهور والجلاء بحيث لا يحتمل جدلاً أو تحاورا. سنن الله سبحانه لا يمكن تخطيها، بأي حال من الأحوال، وكفانا خداعاً للنفس، وكفاناً ثقة في عقول البشر، وانحرافاً عن سنن الله. الثورة هي الطريق الأوحد لاقتناص الحقوق من غاصبيها، ليست الصناديق، ولا الأحزاب ولا البرلمانات، ولا المحاكم. تقديم الشكاوى، يصلح لامرأة ظلمها زوجها أو تعدى عليها بالضرب، أما مظلمة أمة فليس لها إلا الثورة والخروج.

هذا الذي نشاهده من كثير من القوى الإسلامية المخلصة، من محاولة منهجة الثورة، وبرمجتها، وإخراجها في مواعيد ثابتة محددة، يعنى أن جذوة الثورة الحقيقية لا تزال لم يوقد عليها بعد! والثورة بطبيعتها تلقائية، عفوية، لا تحسب حساباً لما قد يعيقها أو يقف في طريقها. المؤامرة، وإن كانت تآمراً للخير، هي التي تحسب حسابات وتضع جداول لخروجها. أما الثورات، فهي أمر آخر بالكلية.

الثائر، كالغاضب أشد الغضب، يخرج ليقول كلمته مهما كانت العواقب، فإنّ الحسابات تعنى فكراً رائقاً هادئاً، والثورة تعنى فكراً هادراً غاضباً، وهما لا ولن يلتقيا.

إن ما لاحظته في بعض المداخلات، هو الدعوة إلى الهدوء، وإلى التريث، وإلى التفكير، وإلى حساب العواقب، وتقدير قوى العدو. وكلها أمور جيدة مطلوبة، لكنها ليست ثورية، مع الأسف. نحن نخلط بين الحالة الثورية التي لا يعنيها إلا هدم الظلم الذي يحيط بها، بالقوة، حتى ولو القوة السلمية والإعتصام، وبين الحالة الإحتجاجية التي ترتب وتكيد وترسم الخطط. الثورة هي وسيلة الشعب المقهور، والتآمر هو وسيلة العادى الظالم، وهو ما مارسه العسكر على مدى السنة الماضية بمهارة فائقة.

الهدوء والتريث، والتفكير، هي مُحبطاتٌ للثورة، ولا أشك أن بعضاً ممن يروّجونها هم من حسنى النية وصحيحي التوجّه. لكن، لا أشك أنّ منهم مندسين يعلمون تماما تأثير هذه الأفكار، على إخماد مشاعر التلقائية العفوية، التي هي روح الثورة وطبيعتها التي لا تنفك عنها.

الثورة، من طبيعتها، أنها ككرة الثلج، تبدأ صغيرة في أول انحدارها، ثم تكبر وتجمع حولها شيئاً فشيئاً ما يجعلها كرة عملاقة تطيح بما يقف في طريقها، دون سابق إعداد أو ترتيب. ومن أراد أن يسلب من الثورة طبيعتها ويخرجها عن عفويتها، فقد خرج بها عن صفتها، وانحرف بها عن طريقها وسننها.

ولا أظن أنّنا نسينا كيف تولدت ثورة 25 يناير، فأحداثها ليست ببعيدة عنا هذا البُعد، بَعد. مجموعة من الشباب المتحمس، لم يأبه بعدد ولا بعدة، خرج إلى الشارع، لا يريد العودة ولا يفكر في إنهاء تظاهره الساعة السادسة. فكان ما كان مما نعرفه جميعا. لكن هذه المليونيات الجُمَعية (يوم الجمعة)، التي تبدأ التاسعة وتنتهى في السادسة، كأنها يوم عمل عادى، لا ثورة كاسحة. هذا تكتيك احتجاجات لا ثورات. وقد كانت من خطط الإخوان، لكبح جماح الثورة، وتحويلها من الحالة الثورية المتحركة المتدفقة المستمرة، إلى الحالة الإحتجاجية المؤقتة المحكومة.

الثورة التي تغير أوضاع الأمم ليست إحتجاجاً يخرج له الناس بحسابات وتوقيتات. الثورة عفوية تلقائية آنية. الثورة مثلها كمثل القدر، من تحته جمرات ساخنة ملتهبة، يظلّ يغلى بما فيه طالما الجمرات متقدات، وطالما القدر قائم عليها لا يبرح. فإن تركنا الجمرات، وصرنا إلى التباحث في درجة حرارتها، وطبيعة المادة المغلية في القدر، وهل إن فارت ستسكب أم لا، وأرجأنا وضع القدر عليها، لن يغلى القدر بما فيه، إلا في تصورنا وعقولنا، لا في الواقع المعاش.

لذلك، أحسست بإحباطٍ شديد حين قرر الشيخ حازم أن يمنع أتباعه من الخروج يوم السبت، إنتظاراً لقرار لجنة العملاء مرة أخرى. وكأنّ هناك أملاً أن يراجعوا أنفسهم، كما أصابني الإحباط من خبر تكوين حزب جديد هو حزب الأمة المصرية. إذ لا أرى في هذه القرارات، إلا روح الإحتجاج، ومقارعة الظلم بقوانينه، وهو ما ولن يجدى، ولو حاولناه عشرة عقود قادمة.

أظن أنه يجب أن يعلم الناس أنّ أمر الثورة، وأمر الأمة، وأمر مصر، أكبر كثيراً من أمر ترشيح الشيخ حازم، والذي اعتبرناه جميعا، مثالا ورمزا لهذه الأمة التي تبغي أن تتفيئ الحياة في ظل دينها وقرآنها. لكن اليوم، اختلف الأمر، وصارت القضية قضية الأمة كلها، التي زُوّرت إرادتها، وتحدى الطواغيت رغبتها، علانية وعلى المكشوف، بكل بجاحة وخسة، كأنهم يقولون "أعلى ما في خيلكم اركبوه".

أظن أن تكتيك الإنتظار والهدوء والتروى، الذي غالباً ما يروج له مشايخ أدعياء السلفية المأجورين من أمن الدولة لهذا الغرض، هو ما سيقتل هذه الأمة، وينهى مشوار سعيها إلى الحرية الحقيقية، لا حرية الطنطاوى وعنان، وعمر سليمان.


* 16 إبريل 2012