منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#51677
ايقاع الحرف
التخصص في الرد على الخصوم

إن منهج البرهنة لإثبات فكرة أو فرضية معينة يعدّ طريقة عقلية متقدّمة؛ وقد تدرب الطلاب في المدارس على هذا المنهج الذي تُذكر فيه النظرية أو الفكرة ثم يطلب منهم إثباتها. ولكن منهج الإبطال والتكذيب الذي يسعى إلى نقض الفكرة من أساسها وإثبات بطلانها يعدّ طريقة عقلية عالية، ومهارة ذهنية متميزة ضمن مقومات التفكير الناقد، ويحتاج الطلاب إلى التدرّب على هذا المنهج حسب الطرق العلمية والفلسفية التي تدرس جميع المعطيات المتصلة بالنص المراد نقضه.

والجميل في منهج النقض أنه يتّبع الأدوات والمعايير نفسها التي استُخدمت للإثبات، وبهذا فإنه يتوخّى الدقة والموضوعية والعدالة في التحليل والاستنتاج. والهدف من هذا المنهج هو الوصول إلى النسبية في الأشياء والبعد عن القطعية الصارمة التي تقوم عليها بعض النظريات والأفكار؛ فالآراء البشرية مهما بلغت من الدقة والإحكام فإنها تظل رهينة للخلل والقصور الذي يعتري أيّ مجهود بشري. وأي رأي يراه المرء هو رأي نسبي محدود بظروف مكانية وزمانية وبمعطيات عقلية ونفسية وبمتغيرات في الحدث وفي المحيط، ومن الصعوبة بمكان الجزم بدقة رأي أو قطعيته لأن صاحب الرأي نفسه قد يغيره أو يعدل فيه وقد يتركه إلى غيره. ولهذا، فإن الحكمة المتوازنة تقتضي التعامل مع الممكن دون مغالاة في المحتمل.

ولأننا لم نتدرّب على منهجية الإبطال في التعليم ولا في النقاشات العائلية أو الحوارات الأخرى، فقد ظهرت الردود عندنا بطريقة غير علمية. فهناك من يبذل مجهودًا كبيرًا في البحث عن المثالب لدى خصومه والرد عليهم من خلال الاعتماد على افتراضات وتخمينات غير صحيحة وإلصاقها بالخصم ثم توريطه بها والهجوم عليها وكأنها موجودة فيه، مع أنها مفترضة. وهذا النهج هو نوع من المغالطة العقلية.

وسأضرب مثالاً تقريبيًا لهذا النوع من الردود، والمثال افتراضي، كأن يكتب أحدهم مقالاً بعنوان: «الرد على القائلين بأن مدينة الرياض حارة في الصيف». ولكي يكون الرد قويًا –من وجهة نظر الكاتب- لابد أن يبنى على وصف لغوي مؤثر يشمل نعتًا ينتقص القائلين بأن الرياض مدينة حارة في الصيف، ثم مناقشة سبب قولهم هذا، والتوصل إلى أن هناك نوايا سيئة تكمن وراء هذا القول. وبهذا يصل الرد إلى ذروته عند فضح خططهم، ويأتي ختام الرد بعمل مقارنة سريعة لحال هؤلاء القائلين بأن الرياض حارة بأحوال غيرهم من الأمم السابقة أو الشعوب الحالية ممن وقعوا في المصائب وجلبوا المشاكل والويلات لمجتمعاتهم.

ولأن اللغة يمكن أن تخدع صاحبها، فإن انتقاء بعض العبارات والكلمات ذات الإيقاع القوي يجعل صاحب الرد ينشغل بها طويلا. ومن المتوقع أن نقرأ في مقدمة الرد جملة مثل: «قرأت وسمعت من يدندن هنا وهناك بأن مدينة الرياض حارة في الصيف، وهذا زعم باطل لا يستقيم، وهيهات لنا أن نصدقه مالم نعرف مايختبىء وراءه من مكر وخبث». ومن المحتمل أن يسير الرد على النحو التالي: إنكار قطعي بأن مدينة الرياض حارة في الصيف، مع تلميح بسيط إلى وجود حرارة عادية في النهار، ثم انعطاف بالقول إن المشكلة ليست في الحر بل فيما يراد بذلك من مخططات ماكرة. بعد هذه التهيئة، ينتقل صاحب الرد إلى القول بأن القائلين بذلك إنما يريدون تنفير الناس من هذه المدينة لكي يسافروا إلى بلاد غربية بحجة البحث عن اعتدال الجو، ولكن الهدف الخفي هو أنهم يريدون التلصص على نساء الغرب والاطلاع على مفاتنهن..إلخ. وحينما يصل إلى هذه النقطة يجد صاحب الرد أنه وصل إلى ذروة الحدث، فيبدأ يسترخي من خلال الاستفاضة بالحديث عن الشرور والفتن في بلاد الغرب، ويذكر نماذج لمن ضاعوا وتدمرت حياتهم، ويمكن ذكر بعض الاستشهادات القديمة أو الحديثة. ولتشويه صورة من يرد عليهم، يتساءل صاحب الرد: أين هؤلاء من الحديث عن برودة الشتاء أو زحام الشوارع أو كثرة السيارات..وغيرها من موضوعات أخرى لاعلاقة لها بالرد. وينتهي إلى التحذير من هؤلاء القوم، وستكون الفرصة مؤاتية له أن يصنفهم إلى اتجاهات فكرية سلبية في ذهن المتلقي.

ولو عدنا إلى أصل الموضوع مثلاً، لوجدنا أن القائلين بأن مدينة الرياض حارة في الصيف، كانوا يعبرون عن هذه الظاهرة المناخية الطبيعية ويطمحون أن يكون هناك تشجير ضخم للشوارع والطرقات وإيجاد بحيرات صناعية للتخفيف من هذه الحرارة، ولم يدر بخلدهم موضوع الغرب والتغريب وغيره من الأفكار التي قام صاحب الرد بتخمينها ثم الاعتماد عليها وإيقاع الخصم في تلك المصيدة والتربص به.

ومن هنا، لايجد كثير من القراء أهمية لبعض الردود المتشنّجة التي تخلو من الموضوعية وفيها ظلم وتجن على الآخرين لاعتمادها على الشكوك والبحث في النوايا، وكأن صاحب الرد لديه طاقة سلبية مكتومة في صدره ويريد التنفيس عنها بأي شكل من الأشكال، فوجد هذا الكاتب أو ذلك وسدّد إليه لكماته الصوتية.

وإذا كانت هذه الطريقة في الرد على الخصوم شائعة، فإنها لن تستمر لأن الناس اليوم يفكرون ويسألون، ولم يعد القراء بصدقون ما يقال دون تمحيص وتدقيق. وقد أتاح فضاء الإنترنت الفرصة للناس للنقاش والحوار بكل حرية. ولهذا، فإن الأفكار الصحيحة والمناهج الموضوعية هي التي تجد الرواج والتقدير عند الجمهور، أما المغالطات العقلية فليست سوى نزوة عاطفية مؤقتة سرعان ماتنطفىء.