منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By محمد العمري 36
#52316
لعل تعدد الطوائف في المجتمع وسيلة إغناء ثقافي وإنساني، باعتبار الطائفية تنوعاً ثقافياً واجتهاداً في إطار الدين الواحد: تنويعاً للقيم والعادات والتقاليد، واجتهاداً في أساليب التعبد والتقرب من الخالق.

ولا ينبغي لاهتمامات الفقهاء واجتهاداتهم (في الإسلام وفي غيره من الأديان) أن تفسد للود بين الطوائف قضية، أو تخلق حروباً بين الفقهاء، ولم تكن هذه الاجتهادات والتأويلات (بل والخلافات) مشكلة، لا لأبناء الطوائف، ولا للمجتمع ككل، بل كانت غالباً تنويعات مستحبة يشملها التسامح برعايته.

وتشكل غنى ثقافياً وتعددية اجتماعية في المجتمع الواحد الموحد. أما تحول هذا التنوع الثقافي، وتعدد الاجتهادات، إلى طائفية سياسية ومحاصصة في التمثيل والوظائف الإدارية، فذلك أمر مختلف جداً، وخطر يحمل بذور الانقسام والتناحر وتدمير المجتمع وتفتيت الشعب والأمة، وإفراغ الدولة من أي مضمون معاصر، وتجاهلها لمعايير الدولة الحديثة.

تلغي الطائفية السياسية ـ أول ما تلغي ـ مرجعية المواطنة، فتصير إجراء رسمياً مفرغاً من أي محتوى سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، لأن الانتماء الأساس في نظام الطائفية السياسية هو للطائفة، التي تصبح المرجعية الرئيس لأبنائها، فهم أولاً أبناء طائفتهم، ثم هم ثانياً أبناء وطنهم.

وهكذا تصبح الدولة عملياً مجموعة من الدويلات (الطائفية) القائمة على أرضها، وتبحث كل منها عن امتيازاتها ووسائل حمايتها، وتشد الحبال لصالحها دون الطوائف الأخرى، ويتغير في ضوء ذلك مفهوم الدولة بنظر أبناء الطوائف ووسائل نشاطها، مما يؤدي إلى المحاصصة بين الطوائف، وكأن المواطنين مجموعة من الكتل المتباينة التي يبحث كل منها عن مصالحها، وتتجاهل الطوائف الأخرى.

عندما يعترف بالطائفية السياسية، سواء أكان الاعتراف واقعياً أم دستورياً، فإن ذلك يعني وضع فقراء الطائفة وأغنياءها في سلة واحدة، وبذلك تتحول مصالح الطائفة لأغنيائها، ويلغى التمايز الطبقي والتمايز بالمصالح بين الفقراء والأغنياء فيها، لصالح الأغنياء طبعاً، ومعلوم أن مصالح الفقراء، من أية طائفة تقتضي التحالف مع أمثالهم من الطوائف الأخرى، عكس الأمر في نظام الطائفية السياسية التي تضطر فقراء الطائفة للتحالف مع أغنيائها، فتضيع حقوقهم باسم مصالح الطائفة.

وأحياناً يقال لصالح المذهب والدين، والأمر بطبيعة الحال ليس كذلك. تلجأ الطائفية السياسية إلى الطائفية الدينية لتحتمي بها، وتستخدمها لمصالح المتنفذين من الطائفة، وتسخر رجال الدين لتحقيق هذا الهدف، ويعطي هؤلاء لأنفسهم الحق في الاجتهاد بالقضايا السياسية والاقتصادية وغيرها، فضلاً عن القضايا الدينية.

وقد يقيمون هيكليات دينية مستقلة ونافذة (إكليروس) تعطي لنفسها الحق في إبداء الرأي، بل واتخاذ القرار في كل مجالات الحياة الدينية وغير الدينية، مما يلغي المجتمع المدني، والمؤسسات التشريعية، والتواصل والحوار ليس بين أبناء المجتمع الواحد فقط، بل أيضاً بين المجتمعات المتعددة، ويحول الطائفة إلى طائفة مغلقة منكفئة على ذاتها، والمجتمع مغلقاً أيضاً، ويتجاهل رجال الدين في حال الطائفية السياسية الحديث النبوي الشريف (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).

وينسبون اجتهاداتهم إلى تعليمات إلهية دينية، بعيدة عن أصول الدين، تلغي آراء الناس وخياراتهم، وتفرض عليهم (الجبرية)، ناسبة كل شيء لله وللدين، من طريقة تناول الطعام إلى التعامل مع الآخر إلى اليقينيات الكبرى. لعله من نافل القول الاعتقاد بأن الطائفية السياسية خصيصة إسلامية أو عربية أو مشرقية، ذلك لأنها كانت مطبقة في أوروبا على أوسع نطاق حتى منتصف القرن السابع عشر.

حيث اشتعلت حروب اضطرت الكنيسة إلى توقيع صلح (وستفاليا عام 1648) مما أدى إلى بداية تخلخل الطائفية السياسية في أوروبا، وإلى زعزعة سلطة الكنيسة الكاثوليكية على المجتمع والدولة أمام الحركة البروتستانتية الناهضة والتي انتصرت في بعض البلدان الأوروبية، إلا أن الطائفية السياسية هذه لم تلغ كلياً في أوروبا حتى عصرنا الحاضر، لكنها غيرت من مضمونها وأهدافها وأساليبها، ومازال التعاطف قائماً بين بلدان أوروبا ذات الثقافة اللاتينية (فرنسا، إيطاليا، إسبانيا) .

وهي جميعها بلدان كاثوليكية، والأمر نفسه بين البلدان البروتستانتية (إنجلترا، الولايات المتحدة) وحتى بين البلدان الأرثوذكسية (روسيا، صربيا، بلغاريا) بما في ذلك أيام الاتحاد السوفييتي الذي تبنى الماركسية، وهي التي من المفروض أن تكون أبعد النظريات الإيديولوجية والسياسية عن الطائفية الدينية. وهكذا تفتت الطائفية السياسية المجتمع، وتخلط الأوراق بين الفقراء والأغنياء، وتلغي بالتالي العدالة الاجتماعية،.

وتشوه مفهوم الدولة وتلغي معاييرها، حيث يستحيل تطبيق مفاهيم الحرية والديمقراطية في المجتمع تحت حكم الطائفية السياسية، فلا حرية للفرد مع وجود فقهاء الطائفة ولا ديمقراطية حيث يضطر كل للانحياز للمؤسسات الطائفية، وينتخب ابن طائفته براً كان أم فاجراً، فضلاً عن تجاهل مفهوم المواطنة، ومعلوم أن الدولة الحديثة هي دولة المواطن الفرد الحر المتساوي مع الجميع، مهما كان دينه أو مذهبه أو ثقافته أو وضعه الاجتماعي.