منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#56225
ظل المسلمون على ما كان عليه من قولهم إن القرآن غير مخلوق، قال محمد بن نوح: سمعت هارون أمير المؤمنين يقول: « بلغني أن بشر المريسى زعم أن القرآن مخلوق، عليّ، إن ظفرني الله به، لأقتلنّه قتلةً ما قتلها أحدٌ قطّ.»
واستمرّ الأمر كذلك في زمن الأمين محمد بن هارون الرشيد.
ثم ولي المأمون أبو جعفر عبد الله بن هارون الرشيد، فاستحوذ عليه جماعة من المعتزلة ، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل وزيّنوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله عز وجل.
وفي عام مائتين واثني عشر أعلن المأمون القول بخلق القرآن، وناظر من كان يغشى مجلسه في ذلك، ولكنه ترك الناس أحراراً فيما يذهبون إليه، وفي عام ثماني عشرة ومائتين رأى المأمون حمل الناس والعلماء، والقضاة والمفتين على القول بخلق القرآن الكريم، وكان آنذاك منشغلاً بغزو الروم، فكتب إلى نائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فلما وصل الكتاب استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فهددهم بالضرب، وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد.، ولمّا اقتربا من طرسوس جاءهما الصريخ بموت المأمون.،ولكنه- عفا الله عنه- لم يودع هذه الدنيا من غير أن يوصي أخاه المعتصم بالاستمساك بمذهبه في القرآن، ودعوة الناس إليه بقوة السلطان. ولهذه الوصية لم تنقطع المحنة بوفاة المأمون، فأعيد إلى السجن ولبث فيه (ثمانية وعشرين شهراً) وقيل: نيفاً وثلاثين شهراً.
ورأى المعتصم تنفيذ وصية أخيه، والقيام بدوره في المحنة، فعقد مجلساً حضره مستشاره ابن أبي دؤاد، واستدعى الإمام أحمد من السجن، وأحضر المعتصم له الفقهاء من المتكلمين فناظروه بحضرته لمدة ثلاثة أيام، وهو يناظرهم، ويظهر عليهم بالحجج القاطعة ويقول: أنا رجل علمت علماً، ولم أعلم فيه بهذا، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسول الله حتى أقول به، ولما انقطعت حججهم، وأيسوا من إجابته لهم جعلوا يحرضون الخليفة عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا كافر ضالّ مضلّ، وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن نخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمى واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء، قال الإمام أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه، واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت، وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط، وأنا أنظر...فقلت: يا أمير المؤمنين اللهَ اللهَ، إن رسول الله قال: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث»،وتلوت الحديث، وإن رسول الله قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم.» ، فبم تستحلّ دمي، ولم آت شيئاً من هذا؟ يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك، ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين، إنه ضالّ مضلّ كافر...
وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شدّ، قطع الله يديك، ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثمّ الآخر كذلك، فضربوني أسواطاً فأغمي عليّ، وذهب عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي... ثم أعادوا الضرب، فذهب عقلي، فلم أحسّ بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي» . وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين.
وأمر المعتصم عم الإمام إسحاق بن حنبل أن يشيع في الناس أن الإمام بخير، وقال المعتصم: لو لم أفعل ذلك بأحمد لوقع شرّ عظيم. قال الذهبي: كأنه خاف أن يموت من الضرب، فتخرج عليه العامة ولو خرج عليه عامة بغداد لربما عجز عنهم.
ولم يستطع خصوم الإمام أحمد أن ينالوا من إيمانه، أو يوهنوا من عقيدته، وإن نالوا بعض مآربهم من جسده الفاني وانتهى عهد المعتصم، وتولى الخلافة ابنه الواثق، وقد اشتد في عهده القول بخلق القرآن، وسبق أن ذكرت أنه قتل بيده العالم الجليل أحمد بن نصر الخزاعي لعدم إقراره بخلق القرآن، وكان الإمام أحمد في عهده معتقلاً في منزله، وأرسل إليه الواثق كتاباً يأمره فيه أن لا يجتمع بالناس ولا يساكنه بأرض ولا مدينة هو فيها.
ولما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فقد كان محباً للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب في الآفاق: أن لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، وخرج الإمام أحمد من هذه المحنة وهو أصلب عوداً، وأثبت يقيناً، وأقوى إيماناً، وأصفى نفساً، وأطهر قلباً، وأبقاه الله مثالاً للتضحية والثبات على الحق والتمسك به، وبعدها عاد إلى الدرس والتحديث مكرماً عزيزاً، ترفعه عزة التقى، وجلال السن والقناعة، والزهادة، وحسن البلاء.
وشرع المتوكل في الإحسان إلى الإمام أحمد رحمه الله، وتعظيمه وإكرامه وكتب إلى نائبه ببغداد أن يبعث إليه بالإمام أحمد مجهزا ً معظماً مكرماً إلى سر من رأي.
قال عبد الله: فأمر لأبي بثياب، ودراهم، وخلعة فبكى وقال: أسلم من هؤلاء منذ ستين سنة، فلما كان آخر العمر ابتليت بهم. كما أمر المتوكل بشراء دار للإمام أحمد وأولاده، فقال الإمام لابنه صالح: لئن أقررت لهم بشراء دار ليكونن القطيعة بيني وبينك فلم يزل يدفع شراء الدار حتى اندفع.
وكان المتوكل لا يولي أحداً إلا بمشورة الإمام أحمد، ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها، ويستثيره.