- الأحد ديسمبر 16, 2012 2:55 pm
#57392
فن السياسة بين الماوردي ومكيافيلي
إن الشائع في عالم السياسة أنه عالم لا يعرف الأخلاقيات ، ولا يعترف إلا بالمصالح ، وترجع هذه الشائعة إلى الابن البار لهذا العصر نيقولا مكيافلي رائد فن السياسة .
غير أن هناك فريقاً آخر يرى أن السياسة لا تكون فاضلة بغير الأخلاق ، ولا يجوز الفصل فيما بينهما .
وسنبحث هنا إمكانية فصل السياسة عن الأخلاق في المنظور الإسلامي لدى الماوردي !
ولكن سنبدأ بأفكار وفنيات مكيافلي ليتيسر مقارنتها لاحقاً مع أفكار وفنيات الماوردي .
أولاً : فن الحكم لدى مكيافلي :
ولد نيقولا مكيافلي بمدينة فلورنسا الإيطالية سنة 1469م ، أي في حقبة تفكك وتشرذم إيطاليا ، وما يصاحب ذلك التفكك شيوع الفساد في السياسة ، وتناحر الإمارات الإيطالية الخمس والذي كان يلهب صدر هذا المفكر الذي طالما حلم بإيطاليا الموحدة ، فألف كتاب الأمير في منفاه وأهداه للأمير الفلورنسي لعل وعسى أن يحقق وحدة إيطاليا ، ومن أهم الأفكار التي اعترض لها مكيافلي في كتابه :
• إن السياسة بكلا شقيها - الداخلية والخارجية – بيئة محفوفة بالمخاطر .
• يجب على الحاكم عدم الالتفات للأخلاق عند الممارسة الفعلية للسلطة ، فالفضيلة الحقة هي في الحفاظ على السلطة السياسية وتدعيم أركانها .
• إن الطبيعة البشرية طبيعة شريرة جشعة ، ويجب استخدام الأساليب التي هي من جنس طبيعة البشر ليستقيم حال السلطة السياسية .
• إذا كانت الواقعة تتهمه فإن الغاية تبرؤه .
• يجب على الحاكم خشية خصومة ، وغالب أصدقائه ، ومعظم رعاياه ، وعليه أن يتخلص من كل خصومه وحساده بكل ما أوتي من قوة ، والقدوة في ذلك روميلوس و بروتوس اللذان قتلا المقربين منهما من أجل تثبيت وتوطيد حكمهما .
• يجب على الأمير ألا يكون طيباً إلا حال الضرورة والمصلحة ، وأن يكون في غالب حكمه قاسياً مخشيّ الجانب ، لأن الرحمة والطيبة تؤدي بالضرورة إلى الفوضى والتمرد ، أما القسوة والبطش فتقيم النظام ، وتحقق الوحدة ، وتقضي على الفتنة في مهدها .
• على الحاكم أن يكون محبوباً ومخافاً بنفس الوقت ، وإن تعذر جمعهما كان الخوف أرجح وأجدى ، ذلك أن الاستناد إلى محبة الرعية هو اعتمادٌ على إرادة الغير ، والاستناد إلى خوف الرعية هو اعتمادٌ على الإرادة الذاتية للحاكم .
• يجب على الحاكم أن يجمع بين أسلوبي الثعلب والأسد ، فالاكتفاء بأسلوب الأسد سيوقع الأمير في الفخاخ التي تملأ الغابة الدولية ، والاكتفاء بأسلوب الثعلب سيوقع الأمير ضحية للذئاب المتناثرين في الغابة الدولية .
• عدم الالتزام بالوعود المبرمة حال زوال الداعي لذلك ، خصوصاً عندما تضر بالمصلحة الخاصة ، وإقران هذا الحنث بالأعذار والمسوغات أمام الرأي العام المحلي والأجنبي .
من تلك النقاط سالفة الذكر نجد أن مكيافلي قد فصل بين السياسة والأخلاق ، وأن الغاية تبرر الوسيلة في نظره ، مع وجوب عدم الاكتراث بالأخلاق حيث أنه لا وجود لها في عالم السياسة ، بل وقد تطرف في ذلك إلى استخدام الأخلاق وسيلة من وسائل السياسة ، أو بالأحرى غطاءً للأمير ، إذ حتم على الأمير أن يقول ما لا يفعل ، وأن يخلف بوعوده .
ثانياً : فن الحكم لدى الماوردي :
ولد الفقيه أبو الحسن علي البصري - الماوردي - بالبصرة عام 974م ، وقد درس في صغره الحديث والفقه ، وقد عاصر الماوردي هو الآخر الدولة العباسية الثانية ، تلك التي كانت خلْف الدولة العباسية الأولى الفتية ، حيث كان الخلفاء العباسيون في الدولة الثانية دمىً بيد أسرة بني بويه .
وقد ذكر الماوردي كثيراً فنيات الحكم وأساليبه ، وقد أعطى أفكاراً وقواعد للحاكم من أجل استقامة السلطان ، ودعم الأركان ، وإصلاح حال الدولة والرعية .
وتلك القواعد التي صاغها الماوردي أتت نتاج فقهه بالدين ، ومعايشته للواقع ، بل وتجربته السياسية الذاتية ، بل ولهذا الشيخ قراءاتٍ أخرى متنوعة لأنظمة الحكم في الحضارات الأخرى كالإغريقية والهندية والصينية والفارسية وما شابهها .
وتلك القواعد قد ذكرها الماوردي في كتابه تسهيل النظر وتعجيل الظفر .
ففي ذلك الكتاب تم ذكر وشرح قواعد السلوك السياسي لتكون هاديةً وقائدةً للحاكم وهو يقطع الفيافي الوعرة لعالم السياسة ، فيسوس رعاياه في الداخل ويواجه المتربصين به وبرعاياه في الخارج دون أن يتخلى عن مكارم الأخلاق وسامقات الشيم .
وسنعرض أهم أفكار الفقيه الماوردي :
• حق على ذي الإمرة والسلطان أن يهتم بمراعاة أخلاقه ، وإصلاح شيمه ، لأنها آلة سلطانه ، وأس إمرته ، فلزم ذا الإمرة والسلطان أن يبدأ بسياسة نفسه ليحوز من الأخلاق أفضلها ، ويأتي من الأعمال أجملها ، فيسوس الرعية بعد رياضته ، ويقومهم بعد استقامته ، فإذا بدأ بسياسة نفسه كان على سياسة غيره أقدر ، وإذا أهمل مراعاة نفسه كان بإهمال غيره أجدر .
• لحسن الظن بالنفس أسباب ، فمن أقوى أسبابه الكبر والإعجاب ، وهو بكل أحدٍ قبيح ، وبالملوك أقبح ، لأنه من دواعي صغر الهمة ، وشواهد الاستكثار لعلو المنزلة ، وهذا من ضعف المنة الذي يجل الملوك عنه ، لأن قدرتهم تظهر بالقدرة والسلطان ، لا بالكبر والإعجاب ، وكفى بالمرء ذماً أن تكون رتبته ومنته أضعف من قدرته .
• من أقوى أسباب الكبر كثرة المتقربين ، وإطراء المتملقين الذين استبضعوا الكذب والنفاق ، واستحبوا المكر والخداع ، لدناءة نفسهم ، وضعة أقدارهم ، وهذا أمرٌ ينبغي لكل عاقلٍ أن يراعيه من نفسه ويفرق بين متملقه احتيالاً لما لديه ، وبين من يخلص له النصيحة من أهل الصدق والوفاء الذين هم مرايا محاسنه وعيوبه ، وأمناء مشهده ومغيبه .
• احذر قبول المدح من المتملقين ، فإن النفاق مركوزٌ في طباعهم ، ومدحك هينٌ عليهم ، فإن تسمع لهم غششت نفسك ، وداهنت حسك .
• لزوم الصمت إلا من ضرورة لا يجد فيها من الكلام بداً ، ليسلم من هذر الاسترسال ، ويأمن من معرة الطيش ، فإن الملك مرموق الإلحاظ محفوظ الألفاظ ، تشيع زلاته ، وتنشر هفواته ، وبحسب ذلك تكون محاسنه أنشر ، وفضائله أشهر ، فهو بالسكوت ممدوح ، ومن الكلام على خطر ، وإذا دعته الحاجة إلى الكلام سبره قبل إطلاقه ، وروى فيه قبل إرساله ، ليكون وفق غرضه ، وفي إبان حاجته ، فإن كلامه ترجمان عقله ، وبرهان فضله .
• كتمان السر أقوى أسباب الظفر بالمطالب ، وأبلغ في كيد العدو الموارب .
• مما يجب على الملك أن يحفظه على نفسه من أسرارها أن يروضها بفضل حزمه ، ويأخذها بقوة عزمه ، حتى لا يظهر في وجهه إمارة سخطٍ ولا رضا ، ولا يعرف منه آثار حزنٍ أو سرور ، فيظهر ما في نفسه وهو كامن ، وينم عليه وهو آمن ، فيظن أنه قد كتم سره وقد ذاع ، وطوى ما في نفسه وقد شاع .
• مما هو ألزم في أخلاق الملك وأليق اعتماد الصدق واجتناب الكذب ، فإنه سهل المبادرة ، خبيث العاقبة ، لأنه يعكس الأمور إلى أضدادها ، ويستبدل الحقائق بأغيارها ، فيضع الباطل موضع الحق ، ويتخيل أن الكذب يتشبه بالصدق ، كلا ! فإن الزمان يكشف عن خباياه ، وينم عن خفاياه ، فيحذر من الكذب جاداً وهازلاً ، ولا يرخص لنفسه محقاً ولا مبطلاً إلا على وجه التورية في خداع الحروب ، انتهازاً للفرصة فيها ، واختداعاً لمكيدتها ، فما للحرب مهلة ، ولا للظفر فيها علة ، فأبيح في التوصل إليها رخص الكلام ، كما استعمل فيها رخص الأفعال ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : " الحرب خدعة " .
• لا شيء أضر على الملك من الغدر ولا أنفع له من الوفاء .
• إذا وسم الملك بالصدق ، وقصر كلامه على المهم ، وكان تبشيره وتحذيره على حسب خطر الأمور التي يجري فيها وعده أو وعيده كانت ألفاظه ألقاباً ، وصار ذمه عقاباً ، فاستغنى عن كثيرٍ من الإرغاب والإرهاب .
• يجب أن يكون وعد الملك ووعيده بقدر الاستحقاق من غير سردٍ ولا تقصيرٍ في ثوابٍ أو عقابٍ ، لتكون أقواله وفق أفعاله التي تقدر بشرعٍ أو سياسةٍ ، ولا تتجاوز محدودها ، ولا تفارق معهودها .
• قد اختير للملوك في الترغيب عذوبة الكلام ولين الصوت لأنه أرغب ، وفي الترهيب غلظة الكلام وجهارة الصوت لأنه أرهب .
• ليحذر الملك الغضب وليتوقاه ، فإن نفور فورته واشتطاط حدته يسلبان صواب ذوي الألباب ، فلا يتهذب لهم خطاب ، ولا يتحصل لهم جواب ، ولا يقتدر لهم عقاب .
• تحمد الرحمة عند اعتدالها ، وفي موضعها ، وتذم عند غلبتها وميلها ، لأنها إذا غلبت أفضت إلى ترك الحدود وإضاعة الحقوق . وأما القسوة إذا غلبت أفضت إلى مجاوزة الحدود في الحياة ، وعقوبة الأخيار ، والمؤاخذة بالتهم والظنون ، والتسوية بين الشك واليقين ، فلا يأمن سليم ولا يتميز سقيم .
• إن العدل يفصل بين الحق والباطل ، وبه يستقيم حال الرعية وتنتظم أمور المملكة ، فلا ثبات لدولةٍ لا يتناصف أهلها ، ويغلب جورها على عدلها ، فإن الندرة من الجور تؤثر ، فكيف به إذا كثر .
• لا ينبغي للملك أن يمضي الأمور المستبهمة بهاجس رأيه ، وينفذ عزائمه ببداهة فكره ، تحرزاً من إفشاء سره ، وأنفةً من الاستعانة بغيره ، فمن استغنى برأيه ضل ، ومن اكتفى بعقله زل ، وينبغي للملك يشاور ذوي الأحلام والنهى ، ويستطلع برأي ذوي الأمانة والتقى ، ممن حنكتهم التجارب ، فارتاضوا بها ، وعرفوا موارد الأمور وحقائق مصادرها .
• إن الملك جديرٌ أن لا يذهب عليه صغيرٌ ولا كبير من أخبار رعيته ، وأمور حاشيته ، وسير خلفائه ، والنائبين عنه في أعماله ، بمداومة الاستخبار عنهم ، وبث أصحاب الأخبار فيهم سراً وجهراً .
• لئن كان من حقوق ما استرعى الملك من بلاده أن يتعرف على أخبار أعماله وعماله ، فمن حقوق السياسة أن يراعي أخبار ما تاخمها من بلاد وملوك يتصل به خيرهم وشرهم ، ويعود عليه نفعهم وضرهم ، لأن الصلاح والفساد يسريان فيما جاوراه ، وربما روصد فاغتفل بالإهمال ، وعوجل بالاسترسال ، فيحم عليه الأعداء ، ويحجم عنه الأوفياء ، فإن للغافلات فرصاً ينتهزها المستيقظ من اللاهي ، ويدركها المتحفظ من الساهي .
وفي الختام نجد أن فكر الماوردي لا يقبل فصل السياسة عن الأخلاق ، فمن وجهة نظره هما متلازمتان في صلاح بعضهما البعض ، فلا سياسة فاضلة بلا أخلاق ، وفي المقابل نستطيع أن نستنبط من فكره أنه لا أخلاق فاضلة بدون سياسة .
إن الشائع في عالم السياسة أنه عالم لا يعرف الأخلاقيات ، ولا يعترف إلا بالمصالح ، وترجع هذه الشائعة إلى الابن البار لهذا العصر نيقولا مكيافلي رائد فن السياسة .
غير أن هناك فريقاً آخر يرى أن السياسة لا تكون فاضلة بغير الأخلاق ، ولا يجوز الفصل فيما بينهما .
وسنبحث هنا إمكانية فصل السياسة عن الأخلاق في المنظور الإسلامي لدى الماوردي !
ولكن سنبدأ بأفكار وفنيات مكيافلي ليتيسر مقارنتها لاحقاً مع أفكار وفنيات الماوردي .
أولاً : فن الحكم لدى مكيافلي :
ولد نيقولا مكيافلي بمدينة فلورنسا الإيطالية سنة 1469م ، أي في حقبة تفكك وتشرذم إيطاليا ، وما يصاحب ذلك التفكك شيوع الفساد في السياسة ، وتناحر الإمارات الإيطالية الخمس والذي كان يلهب صدر هذا المفكر الذي طالما حلم بإيطاليا الموحدة ، فألف كتاب الأمير في منفاه وأهداه للأمير الفلورنسي لعل وعسى أن يحقق وحدة إيطاليا ، ومن أهم الأفكار التي اعترض لها مكيافلي في كتابه :
• إن السياسة بكلا شقيها - الداخلية والخارجية – بيئة محفوفة بالمخاطر .
• يجب على الحاكم عدم الالتفات للأخلاق عند الممارسة الفعلية للسلطة ، فالفضيلة الحقة هي في الحفاظ على السلطة السياسية وتدعيم أركانها .
• إن الطبيعة البشرية طبيعة شريرة جشعة ، ويجب استخدام الأساليب التي هي من جنس طبيعة البشر ليستقيم حال السلطة السياسية .
• إذا كانت الواقعة تتهمه فإن الغاية تبرؤه .
• يجب على الحاكم خشية خصومة ، وغالب أصدقائه ، ومعظم رعاياه ، وعليه أن يتخلص من كل خصومه وحساده بكل ما أوتي من قوة ، والقدوة في ذلك روميلوس و بروتوس اللذان قتلا المقربين منهما من أجل تثبيت وتوطيد حكمهما .
• يجب على الأمير ألا يكون طيباً إلا حال الضرورة والمصلحة ، وأن يكون في غالب حكمه قاسياً مخشيّ الجانب ، لأن الرحمة والطيبة تؤدي بالضرورة إلى الفوضى والتمرد ، أما القسوة والبطش فتقيم النظام ، وتحقق الوحدة ، وتقضي على الفتنة في مهدها .
• على الحاكم أن يكون محبوباً ومخافاً بنفس الوقت ، وإن تعذر جمعهما كان الخوف أرجح وأجدى ، ذلك أن الاستناد إلى محبة الرعية هو اعتمادٌ على إرادة الغير ، والاستناد إلى خوف الرعية هو اعتمادٌ على الإرادة الذاتية للحاكم .
• يجب على الحاكم أن يجمع بين أسلوبي الثعلب والأسد ، فالاكتفاء بأسلوب الأسد سيوقع الأمير في الفخاخ التي تملأ الغابة الدولية ، والاكتفاء بأسلوب الثعلب سيوقع الأمير ضحية للذئاب المتناثرين في الغابة الدولية .
• عدم الالتزام بالوعود المبرمة حال زوال الداعي لذلك ، خصوصاً عندما تضر بالمصلحة الخاصة ، وإقران هذا الحنث بالأعذار والمسوغات أمام الرأي العام المحلي والأجنبي .
من تلك النقاط سالفة الذكر نجد أن مكيافلي قد فصل بين السياسة والأخلاق ، وأن الغاية تبرر الوسيلة في نظره ، مع وجوب عدم الاكتراث بالأخلاق حيث أنه لا وجود لها في عالم السياسة ، بل وقد تطرف في ذلك إلى استخدام الأخلاق وسيلة من وسائل السياسة ، أو بالأحرى غطاءً للأمير ، إذ حتم على الأمير أن يقول ما لا يفعل ، وأن يخلف بوعوده .
ثانياً : فن الحكم لدى الماوردي :
ولد الفقيه أبو الحسن علي البصري - الماوردي - بالبصرة عام 974م ، وقد درس في صغره الحديث والفقه ، وقد عاصر الماوردي هو الآخر الدولة العباسية الثانية ، تلك التي كانت خلْف الدولة العباسية الأولى الفتية ، حيث كان الخلفاء العباسيون في الدولة الثانية دمىً بيد أسرة بني بويه .
وقد ذكر الماوردي كثيراً فنيات الحكم وأساليبه ، وقد أعطى أفكاراً وقواعد للحاكم من أجل استقامة السلطان ، ودعم الأركان ، وإصلاح حال الدولة والرعية .
وتلك القواعد التي صاغها الماوردي أتت نتاج فقهه بالدين ، ومعايشته للواقع ، بل وتجربته السياسية الذاتية ، بل ولهذا الشيخ قراءاتٍ أخرى متنوعة لأنظمة الحكم في الحضارات الأخرى كالإغريقية والهندية والصينية والفارسية وما شابهها .
وتلك القواعد قد ذكرها الماوردي في كتابه تسهيل النظر وتعجيل الظفر .
ففي ذلك الكتاب تم ذكر وشرح قواعد السلوك السياسي لتكون هاديةً وقائدةً للحاكم وهو يقطع الفيافي الوعرة لعالم السياسة ، فيسوس رعاياه في الداخل ويواجه المتربصين به وبرعاياه في الخارج دون أن يتخلى عن مكارم الأخلاق وسامقات الشيم .
وسنعرض أهم أفكار الفقيه الماوردي :
• حق على ذي الإمرة والسلطان أن يهتم بمراعاة أخلاقه ، وإصلاح شيمه ، لأنها آلة سلطانه ، وأس إمرته ، فلزم ذا الإمرة والسلطان أن يبدأ بسياسة نفسه ليحوز من الأخلاق أفضلها ، ويأتي من الأعمال أجملها ، فيسوس الرعية بعد رياضته ، ويقومهم بعد استقامته ، فإذا بدأ بسياسة نفسه كان على سياسة غيره أقدر ، وإذا أهمل مراعاة نفسه كان بإهمال غيره أجدر .
• لحسن الظن بالنفس أسباب ، فمن أقوى أسبابه الكبر والإعجاب ، وهو بكل أحدٍ قبيح ، وبالملوك أقبح ، لأنه من دواعي صغر الهمة ، وشواهد الاستكثار لعلو المنزلة ، وهذا من ضعف المنة الذي يجل الملوك عنه ، لأن قدرتهم تظهر بالقدرة والسلطان ، لا بالكبر والإعجاب ، وكفى بالمرء ذماً أن تكون رتبته ومنته أضعف من قدرته .
• من أقوى أسباب الكبر كثرة المتقربين ، وإطراء المتملقين الذين استبضعوا الكذب والنفاق ، واستحبوا المكر والخداع ، لدناءة نفسهم ، وضعة أقدارهم ، وهذا أمرٌ ينبغي لكل عاقلٍ أن يراعيه من نفسه ويفرق بين متملقه احتيالاً لما لديه ، وبين من يخلص له النصيحة من أهل الصدق والوفاء الذين هم مرايا محاسنه وعيوبه ، وأمناء مشهده ومغيبه .
• احذر قبول المدح من المتملقين ، فإن النفاق مركوزٌ في طباعهم ، ومدحك هينٌ عليهم ، فإن تسمع لهم غششت نفسك ، وداهنت حسك .
• لزوم الصمت إلا من ضرورة لا يجد فيها من الكلام بداً ، ليسلم من هذر الاسترسال ، ويأمن من معرة الطيش ، فإن الملك مرموق الإلحاظ محفوظ الألفاظ ، تشيع زلاته ، وتنشر هفواته ، وبحسب ذلك تكون محاسنه أنشر ، وفضائله أشهر ، فهو بالسكوت ممدوح ، ومن الكلام على خطر ، وإذا دعته الحاجة إلى الكلام سبره قبل إطلاقه ، وروى فيه قبل إرساله ، ليكون وفق غرضه ، وفي إبان حاجته ، فإن كلامه ترجمان عقله ، وبرهان فضله .
• كتمان السر أقوى أسباب الظفر بالمطالب ، وأبلغ في كيد العدو الموارب .
• مما يجب على الملك أن يحفظه على نفسه من أسرارها أن يروضها بفضل حزمه ، ويأخذها بقوة عزمه ، حتى لا يظهر في وجهه إمارة سخطٍ ولا رضا ، ولا يعرف منه آثار حزنٍ أو سرور ، فيظهر ما في نفسه وهو كامن ، وينم عليه وهو آمن ، فيظن أنه قد كتم سره وقد ذاع ، وطوى ما في نفسه وقد شاع .
• مما هو ألزم في أخلاق الملك وأليق اعتماد الصدق واجتناب الكذب ، فإنه سهل المبادرة ، خبيث العاقبة ، لأنه يعكس الأمور إلى أضدادها ، ويستبدل الحقائق بأغيارها ، فيضع الباطل موضع الحق ، ويتخيل أن الكذب يتشبه بالصدق ، كلا ! فإن الزمان يكشف عن خباياه ، وينم عن خفاياه ، فيحذر من الكذب جاداً وهازلاً ، ولا يرخص لنفسه محقاً ولا مبطلاً إلا على وجه التورية في خداع الحروب ، انتهازاً للفرصة فيها ، واختداعاً لمكيدتها ، فما للحرب مهلة ، ولا للظفر فيها علة ، فأبيح في التوصل إليها رخص الكلام ، كما استعمل فيها رخص الأفعال ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : " الحرب خدعة " .
• لا شيء أضر على الملك من الغدر ولا أنفع له من الوفاء .
• إذا وسم الملك بالصدق ، وقصر كلامه على المهم ، وكان تبشيره وتحذيره على حسب خطر الأمور التي يجري فيها وعده أو وعيده كانت ألفاظه ألقاباً ، وصار ذمه عقاباً ، فاستغنى عن كثيرٍ من الإرغاب والإرهاب .
• يجب أن يكون وعد الملك ووعيده بقدر الاستحقاق من غير سردٍ ولا تقصيرٍ في ثوابٍ أو عقابٍ ، لتكون أقواله وفق أفعاله التي تقدر بشرعٍ أو سياسةٍ ، ولا تتجاوز محدودها ، ولا تفارق معهودها .
• قد اختير للملوك في الترغيب عذوبة الكلام ولين الصوت لأنه أرغب ، وفي الترهيب غلظة الكلام وجهارة الصوت لأنه أرهب .
• ليحذر الملك الغضب وليتوقاه ، فإن نفور فورته واشتطاط حدته يسلبان صواب ذوي الألباب ، فلا يتهذب لهم خطاب ، ولا يتحصل لهم جواب ، ولا يقتدر لهم عقاب .
• تحمد الرحمة عند اعتدالها ، وفي موضعها ، وتذم عند غلبتها وميلها ، لأنها إذا غلبت أفضت إلى ترك الحدود وإضاعة الحقوق . وأما القسوة إذا غلبت أفضت إلى مجاوزة الحدود في الحياة ، وعقوبة الأخيار ، والمؤاخذة بالتهم والظنون ، والتسوية بين الشك واليقين ، فلا يأمن سليم ولا يتميز سقيم .
• إن العدل يفصل بين الحق والباطل ، وبه يستقيم حال الرعية وتنتظم أمور المملكة ، فلا ثبات لدولةٍ لا يتناصف أهلها ، ويغلب جورها على عدلها ، فإن الندرة من الجور تؤثر ، فكيف به إذا كثر .
• لا ينبغي للملك أن يمضي الأمور المستبهمة بهاجس رأيه ، وينفذ عزائمه ببداهة فكره ، تحرزاً من إفشاء سره ، وأنفةً من الاستعانة بغيره ، فمن استغنى برأيه ضل ، ومن اكتفى بعقله زل ، وينبغي للملك يشاور ذوي الأحلام والنهى ، ويستطلع برأي ذوي الأمانة والتقى ، ممن حنكتهم التجارب ، فارتاضوا بها ، وعرفوا موارد الأمور وحقائق مصادرها .
• إن الملك جديرٌ أن لا يذهب عليه صغيرٌ ولا كبير من أخبار رعيته ، وأمور حاشيته ، وسير خلفائه ، والنائبين عنه في أعماله ، بمداومة الاستخبار عنهم ، وبث أصحاب الأخبار فيهم سراً وجهراً .
• لئن كان من حقوق ما استرعى الملك من بلاده أن يتعرف على أخبار أعماله وعماله ، فمن حقوق السياسة أن يراعي أخبار ما تاخمها من بلاد وملوك يتصل به خيرهم وشرهم ، ويعود عليه نفعهم وضرهم ، لأن الصلاح والفساد يسريان فيما جاوراه ، وربما روصد فاغتفل بالإهمال ، وعوجل بالاسترسال ، فيحم عليه الأعداء ، ويحجم عنه الأوفياء ، فإن للغافلات فرصاً ينتهزها المستيقظ من اللاهي ، ويدركها المتحفظ من الساهي .
وفي الختام نجد أن فكر الماوردي لا يقبل فصل السياسة عن الأخلاق ، فمن وجهة نظره هما متلازمتان في صلاح بعضهما البعض ، فلا سياسة فاضلة بلا أخلاق ، وفي المقابل نستطيع أن نستنبط من فكره أنه لا أخلاق فاضلة بدون سياسة .