منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#60898
ذات يوم، اشتكت بوسطن، فتداعت لها الدنيا بالسهر والحمى؛ بالاستنكار والتعاطف. طاشت الأحلام، وعقد الخوف الألسنة، وتمتمت الشفاه: اللهم إنا نعوذ بك من الإرهاب، ومن خزي يوم الحساب. يا لها من صدمة أعادت إلى الأذهان هجمات 11/9 التي مازلنا نكتوي بنارها، وندفع ثمنها! انفجاران في بوسطن..يا للهول!.. ويسفران عن مقتل ثلاثة أشخاص، وتقارير في صحف ومواقع أميركية تتحدث عن السبيل إلى التعافي والتئام الجراح. لا شيء في هذا الكون يقلل من حجم معاناة إنسان بريء، لا كلمات تستطيع، مهما اتشحت بالاستعارات البلاغية، أن تبرر سفك دم امرىء بغير حق. لكن التناول الدرامي التهييجي لتفجيرَي بوسطن، في الوقت الذي يُذبح فيه المئات يومياً منذ ما يزيد على سنتين في سوريا، يخفي في طياته عنصرية بغيضة، واستخفافاً بكرامة إنسان لا ذنب له في هذه الأرض سوى أنه مسلم وعربي. بوسطن ترتدي السواد، وتندب قتلاها، وتبحث عن بلسم يداوي جرحها. هكذا تقول الأخبار. كيف يمكن وصف الجرح السوري، بل النزيف السوري؟ لا..لا..ليس جرحاً ولا نزيفاً ولا شلالاً؛ تحار الكلمات وتتجمد. لا شيء يقارن محرقة سوريا، بجريمة في بوسطن، تكاد تكون حدثاً عادياً في أنحاء شتى من العالم، لولا أنه يلائم مقاس «الإرهاب»، وجرى في بلد إذا عطس تداعت له سائر البلدان بالكحة والزكام. من الناس من ينزع إلى الهروب من مشاهد القتل والدمار في سوريا، لاسيما في ظل حال العجز عن فعل شيء لوقف الدم، ثم يشرع في تبرير هذا العجز، أو يفر من الأخبار فراره من «الأسد» متمثلاً بقول البردوني:
فظيعٌ جهلُ ما يجري.. وأفظعُ منه أن تدري!
أو ربما كان الفرار رغبة في «نسيان أي حقيقة غير مريحة» بحسب المفكر والروائي البريطاني جورج أورويل.
في السادس عشر من نيسان (أبريل) الجاري نشرت صحيفة النيويورك تايمز على صدر صفحتها الأولى هذا العنوان المثير: «مسؤولون: قنابل بوسطن حُشيت بقصد إحداث تشوهات». تقول قصة الخبر إن قدور ضغط حُشيت بمسامير وكرات معدنية «من أجل إطلاق قطع حادة من الشظايا على أي شخص قريب من انفجارها». يقارن الكاتب والناشط الأميركي نورمن سلَمِن (في موقعه الشخصي، 17 نيسان/أبريل 2013) هذه القنابل بالقنبلة العنقودية الأميركية التي تنفجر في الجو، وتقذف قطعاً من الشظايا فوق منطقة واسعة بحجم ملعب كرة قدم، فتقتل وتشوه وتجرح. وينقل عن جون سِمبسِن، مراسل بي بي سي، هذه الكلمات التي كتبها في صحيفة الصندي تلغراف: «القنابل العنقودية...التي تُستخدم ضد البشر...هي أكثر الأسلحة همجية في الحرب الحديثة». كل قنبلة، بحسب سلَمِن، تتطاير منها 60 ألف قطعة من شظايا الفولاذ المسنن، تتجه إلى «أهداف ناعمة»، بحسب تعبير صانع القنبلة («الأهداف الناعمة» مصطلح عسكري يدخل في «تلطيف القبيح»، ويشير إلى «هدف» مدني غير محمي وغير مسلح مثل شخص أو بيت أو سيارة). استخدمت الولايات المتحدة القنابل العنقودية في حروبها، بما فيها غزو أفغانستان والعراق. وتؤكد وزارة الخارجية الأميركية أن «استخدام الذخائر العنقودية يؤدي غالباً إلى «ضرر جانبي» أقل من الأسلحة الأحادية كالذي تسببه مثلاً قنبلة ضخمة أو قذيفة صاروخية» (عبارة «ضرر جانبي» تدخل هي الأخرى في «تلطيف القبيح»، وتعني قتل المدنيين أو إصابتهم). ويعلق سَلَمِن على بيان الخارجية بالقول: «ربما كان لدى المفجرين الذين حشوا قدور الضغط بالمسامير والكرات المعدنية لاستخدامها في بوسطن تبريراً ملتوياً مشابهاً»، مضيفاً أنه لا يمكن للصحف السائدة ولا للبرامج الإخبارية الشهيرة في الولايات المتحدة أن تستقصي هذه الأمور؛ لأنها أصلاً تسلّم بـ «القاعدة الأخلاقية العالية للحكومة الأميركية». جورج أورويل كتب في روايته الشهيرة (1984) عن الاستجابة اللاإرداية والمتمثلة في «التوقف، كما لو كان بالغريزة، على أعتاب أي تفكير خطير...وعن الملل أو النفور من أي نسق أفكار مؤهل للمضي قدماً في اتجاه انشقاقي».
من المصطلحات التي ابتدعها أورويل، ووجدت طريقها إلى حقول الإعلام والنفس والاجتماع، مصطلح «التفكير المزدوج» الذي يعني أن يحمل المرء الفكرة ونقيضها في آن. ويرى سلَمِن أن هذا النمط من التفكير شائع، تغذيه الميديا، ولايزال بعيداً عن المساءلة، بل إنه «مجرد ضحك على الذات، إن لم يكن ضاراً ضرراً فادحاً بالتماسك الفكري والأخلاقي». يسارع أسرى التفكير المزدوج إلى إدانة هجوم بوسطن ، لكنهم يفشلون في إدانة عنف القتل من وراء البحار بالقنابل العنقودية أو بالطائرات من دون طيار. يقدم لنا سلَمن مثالاً على التحرر من هذا التفكير، فيقول: «كل تقرير إخباري عن الأطفال الذين قُتلوا وجُرحوا في خط النهاية في بوسطن؛ كل رواية عن الفقد المرعب للأطراف، تجعلني أفكر في بنت صغيرة اسمها غولجوما، كان عمرها 7 سنوات عندما التقيت بها في مخيم للاجئين الأفغان في يوم من أيام صيف 2009. حينها...روت ما حدث ذات صباح من عام 2008 إذ كانت نائمة في بيتها بوادي هلمند جنوب أفغانستان، وفي الساعة الخامسة صباحاً، انفجرت القنبلة. مات بعض أفراد عائلتها، وفقدت هي أحد ذراعيها. يقول سلمن: «تزدهر الحرب في عالم التجريدات، لكن غولجوما ليست تجريداً. هي لا تختلف كثيراً من حيث التجريد عن الأطفال الذين دُمرّت حياتهم بالتفجير في خط النهاية في بوسطن. لكن الميديا الأميركية نفسها التي توحي بالقيمة الغالية للأطفال الذين أصيبوا بأذى بالغ جداً في بوسطن، لا تبدي اهتماماً يُذكر بأطفال مثل غولجوما». ويمضي سلمن قائلاً إنه تذكر الصبيّة الأفغانية مرة أخرى عندما شاهد تقارير إخبارية وصورة يقشعر لها البدن في نيسان (أبريل) الجاري عن 11 طفلاً شرقي أفغانستان قتلتهم الضربات الجوية للولايات المتحدة والنيتو. لم يكن هذا القتل قصة مثيرة في نظر الصحافيين الأميركيين البارزين، ولم يكن قضية تستحق الاهتمام في نظر المسؤولين الأميركيين.
سلمن لم يتناول استخدام عصابات بشار الأسد هذا السلاح المتوحش ضد الشعب السوري، ربما لأنه افترض أن أميركا غير مشاركة في القتل هناك، كما هي الحال في أفغانستان والعراق. ولكن دور واشنطن في دعم مشروع الإبادة في سوريا (عبر منع تسليح الضحايا وغض الطرف عن توحش القتلة ومنحهم الفرص والوقت) لا يمكن أن ينساه التاريخ، وسيظل محفوراً في ذاكرة شعوب المنطقة. في السادس عشر من شهر آذار (مارس) الماضي نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش على موقعها تقريراً عن استخدام عصابات الأسد القنابل العنقودية، قالت فيه إنها استطاعت تحديد 119 موقعاً سورياً على الأقل أسقطت عليه عصابات السفاح 156 قنبلة عنقودية خلال الستة أشهر التي سبقت التقرير. في الأسبوعين الأولين من آذار (مارس) أسقطت العصابات الأسدية قنبلتين، واحدة على دير جمال بالقرب من حلب، والأخرى على تلبيسة في ريف حمص، ما أسفر عن استشهاد 11 مدنياً منهم امرأتان و5 أطفال، وجرح 27 آخرين. وتضيف المنظمة أن توسع عصابة دمشق في استخدام القنابل العنقودية «المحرمة» على نحو لا هوادة فيه، أدى إلى خسائر فادحة في صفوف المدنيين الذين «يدفعون الثمن من أرواحهم وأطرافهم». عصابات الأسد ابتدعت أيضاً فكرة الذبح بالبراميل المحشوة بمادة تي إن تي وشظايا معدنية ومواد نفطية وربما كيميائية، وهي تلقي بهذه البراميل منذ أشهر طويلة على رؤوس الأبرياء العزّل. نعم براميل..وليست قدور طبخ!
في بوسطن، حبس العالم أنفاسه، وحزن كثيرون على أبرياء فقدوا حياتهم. لكن من يموت في فلسطين وأفغانستان والعراق وسوريا في حروب متوحشة وبأسلحة فتاكة (ذات مسامير وشظايا) ليسوا أقل إنسانية؛ ليسوا «أنصاف بشر». إن أرواحهم غالية، ولهم أعزاء ومحبون، ولا يوجد ما يبرر اختلاف الاهتمام الإنساني والتركيز الإخباري. يستشهد سلمن بتشبيه لأورويل يقول فيه إن «كلب السيرك يقفزعندما يهز المدرب سوطه، ولكن الكلب المدرب تدريباً جيداً هو ذلك الذي يمارس الشقلبة عندما لا يكون هناك سوط».
ا
د. احمد بن راشدبن سعيد