- السبت ديسمبر 07, 2013 11:49 pm
#68478
د. رضوان السيد
ما لفت اليمن الانتباه حقا وحقيقة إلا بعد حصول أمرين انطلاقا منه: اختراق الحوثيين للحدود السعودية، وازدياد نشاطات «القاعدة» انطلاقا من بعض مناطقه. ولا شك أن هاتين المشكلتين الجديدتين نسبيا مترتبتان على مشكلات أُخرى صارت شبه مستعصية خلال السنوات القليلة الماضية، وهي: الانقسام داخل الطائفة الزيدية الذي تحول إلى انشقاق وتمرد على الحكومة، والتذمر في جنوب اليمن الذي تبلور في ما سمي بالحراك الجنوبي، وانفتاح حدود اليمن أو شواطئه البحرية على الهجرة والتدخلات من جهتي الصومال وإريتريا. ومنذ حدثِ المدمرة كول قبل سبع سنوات تعرف أجهزة المخابرات أن لـ«القاعدة» وجودا باليمن. وعندما كنت باليمن للتدريس بجامعة صنعاء، سمعت بمسجد الجامعة في سبتمبر (أيلول) عام 1988 الشيخ عبد الله عزام (شيخ الجهاد الأفغاني الأول) يدعو شباب اليمن للذهاب إلى «أرض الجهاد» الوحيدة بأفغانستان وجوارها! وبحسب كلامه كان اليمنيون الذين ذهبوا إلى أفغانستان لا يزيدون على المئات رغم البدل المادي المجزي، والشجاعة التي عُرف بها اليمنيون. وقد انتهى عشرات من اليمنيين في غوانتانامو كما هو معروف. لكنْ، ولسبب ما، ظل اليمنيون ذوي مراتب دنيا في تنظيم القاعدة أو شبكاتها رغم كثرة أعدادهم. فزعماء «القاعدة» باليمن اليوم هم في الأعمّ الأغلب من السعوديين. إنما يعتمد تمركز «القاعدة» باليمن على كثرة اليمنيين المنخرطين من جهة، وعلى عيش رجالاتها في كنَف أحد شيوخ القبائل للحماية وتبادُل الدعم. وقد كانت لـ«القاعدة» باليمن ثلاث وظائف أو أنها تحركت بثلاثة أشكال: إزعاج السعودية، والتعرض على الشواطئ للقِطَع البحرية الأجنبية، ومهاجمة المصالح والسفارات الغربية باليمن. والذي حصل مع النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب جديد، بمعنى إطلاق عملية من اليمن ضد الولايات المتحدة. واللافت فيها ليس الانطلاق من اليمن وحسب، بل إن الرجل نيجيري ومن أُسرة غنية هناك. وعلى أي حال؛ فإن العالم الغربي ينظر الآن إلى «القاعدة» باليمن باعتبارها خَطَرا كبيرا يريد مكافحته، والغريب أن ذلك تأخر حتى الآن، رغم ما يجري من سنوات أمام شواطئ اليمن وعلى أراضيه من خطف للسفن التجارية، ومن هجرة هائلة من الصومال وأقطار أفريقية أُخرى، وما كان كل هؤلاء من النساء والأطفال والشبان الهاربين من المجاعة؛ بل كان بينهم ولا شك كثيرون من المُرسَلين للتدريب والإمداد تحت مُسمى الهجرة هربا من الحرب والجوع.
على أن الملحوظ في هذه التحركات باليمن الإصرار على التحرش بالمملكة العربية السعودية ومن جهتين: «القاعدة»، وأخيرا من جانب الحوثيين. والمعروف أن المملكة هدف أصيل لدى «القاعدة» منذ عام 2003 على الأقل. وقد ازدادت أهمية اليمن في التحرش بالسعودية بعد أن نجحت قوات الأمن بالمملكة في ضرب التنظيم ثم الشبكات والخلايا النائمة بالداخل. فاحتاج «القاعديون» أكثر إلى اليمن للتسلل عبر الحدود أو المجيء من اليمن عبر طريق ثالث. بيد أن المثير حقا قرار الحوثيين باختراق الحدود السعودية قبل خمسة أشهر. وبالتأكيد هناك توجيه إيراني بذلك، يدل عليه الإصرار المنقطع النظير على الاستمرار في محاولات الاختراق رغم ضخامة أعداد القتلى. لكنْ من الناحية العملية فإن الحوثيين محتاجون إلى «القاعدة» في المعلومات، وفي الأساليب والتكتيكات القتالية ومنها العمليات الانتحارية. والواقعُ أنه على الطرف الآخر من الحدود مع اليمن فإن السكان هناك - وإن مارس بعضُهم التجارة والتهريب مع اليمنيين - ليسوا من الزيدية؛ بل هم شافعية في الأصل، وبينهم بعض السلفيين. وقد ذكرت بعض وكالات الأنباء تعاونا بين «القاعدة» والحوثيين. وسواء صحت تلك الأنباء أو لم تصح في هذه الحالة بالذات؛ فإن علاقة «القاعدة» بإيران منذ عام 2002 - 2003 تطرح عدة أسئلة ذات طبيعة أمنية وأُخرى ذات طبيعة سياسية. فمنذ سنوات جرى تداول أخبار عن وجود الظواهري بإيران. كما انكشف قبل شهر ونصف أن قسما كبيرا من أُسرة بن لادن موجود بإيران ربما منذ عام 2002. فإذا كان التحرش الحوثي بالسعودية في جانب منه تعبيرا عن سوء العلاقة بين السعودية وإيران؛ فمن الجانب الآخر يشكل التعاون بين «القاعدة» والحوثيين - إن كان - تكتيكا للإرهاق والاستنزاف شأن ما حاولته جهات وتحاوله من إرهاق لمصر وتشتيت للانتباه من خلال حماس.
وهكذا يكون مفهوما لماذا يكون على الخليجيين بخاصة والعرب بعامة أن يهتموا باليمن. إذ بالإضافة إلى أنه بلد عربي ينبغي حفظ استقراره ووحدته؛ فإن هناك عوامل متعددة أسهمت في السنوات الأخيرة في تحويله إلى ساحة أصيلة أو بديلة للصراعات، شأن ما جرى للبنان في تاريخه الحديث. فموقع اليمن على شواطئ الجزيرة الطويلة، وامتداداته إلى دواخلها؛ جعل منه واجهة استراتيجية لمنطقة الخليج، وإحدى الواجهات الاستراتيجية للأمن العربي أو التعرض العربي. ولا يزال جيلنا يذكر كيف كان جنوب الجزيرة وإطلالتها على البحر العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي، ساحة للصراع أو مجالا له أثناء الحرب الباردة. ونشهد اليوم مأْزقا من جهة وإمكانية أو فرصة من جهة أُخرى. فالمأزق يتجلى في ضعف اليمن وحيادية عمان أو انكماشها. والفرصة تكمن في تقوية هذه الجبهة ودفعها باتجاه التقدم بحيث يشارك العرب من جديد في الامتداد البحري، وفي أمن ومصائر المحيط الهندي الذي صار محيط المستقبل من حيث الثروات التي تتدفق فيه وعليه.
بيد أن المشكلة الأُخرى البارزة إلى جانب استخدام اليمن للاستنزاف والابتزاز، تبدو في الانقسام الداخلي العميق، وهو انقسام لا تظهر خطورته في الافتراق الزيدي، أو الاختراق القاعدي وحسب، بقدر ما تظهر في ما صار يعرف بالحراك الجنوبي. إذ للحركة الجنوبية بالإضافة للأبعاد الاجتماعية والسياسية، أبعاد جهوية المفروض أن الحركة الوطنية اليمنية تجاوزتها منذ أكثر من خمسين عاما. ولست أعرف بلدا عربيا تخلو حركته الوطنية من المذهبية والجهوية مثل الحركة الوطنية اليمنية. لكن كل تلك «المسلَّمات» توارت منذ مدة - وليس في اليمن فقط - تحت وطأة الفقر المتزايد، وسوء الإدارة السياسية، والتلاقي بين التشدد والنزعة التدخّلية لاستنزاف العرب والإمعان في إضعافهم.
لدينا في اليمن إذن مشكلة الحوثيين ومشكلة «القاعدة». ولا تبدو هاتان المشكلتان بنيويتين. فـ«القاعدة» مستوردة، وإن استندت إلى تأثيرات سلفية بعيدة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. أما الحوثيون فهم في الأصل انقسام داخل الزيدية بين التقليديين والجدد. وقد اتخذ الجدد لأنفسهم النموذج الإيراني ونموذج حزب الله، دونما اطمئنان إلى نموذج ولاية الفقيه. وكانت السلطة اليمنية قد أظهرت منذ عام 1997 - 1998 حيادية تجاه المذاهب الدينية، إذا ثبتت وتطورت؛ فإنها ستكون مفيدة في إبعاد المذهبية عن عمل الدولة بعد سيطرة السلفيين (وأهل تيار الإصلاح) على السياسات الداخلية والتعليمية على مدى حوالي العشرين عاما. وستترك الإحيائية الزيدية هذه تأثيراتها على شكل المشاركة في نظام الحكم والمجال السياسي، وإن خمدت حركتها المسلحة. ولذا فينبغي أن تظل هناك إضافة للحيادية، توازن حَذِر من جانب الدولة بين التقليديين والإحيائيين - أما الإصلاحيون، الذين استخدمتهم السلطة بإسراف ضد الزيدية والشافعية على حد سواء؛ فقد فقدوا تأثيرهم عندما تحولوا إلى سلفيين متشددين!
ولست أدري سبيلا الآن لمعالجة ثوران «الحِراك الجنوبي» الذي لن تخمد فعالياته بسرعة. إذ هو يستند إلى سلطويات محلية تقليدية (صوفية وقَبَلية وجهوية)، ومستجدات سلفية واشتراكية. وربما كان السبيل بالتنمية القوية، وبالتعليم القوي، وبالإنصاف في حركية الدولة، والعدالة في توزيع وظائفها. لكن هذه اقتراحات عامة وطويلة الأمد. ولو كانت هناك مؤسسات عاملة، وتداول للسلطة؛ فقد يكون مفيدا للجنوب اليمني كما للشمال اشتراع لا مركزية إدارية واسعة تفيد وحدة الدولة والأرض ولا تضرها.
ولننصرف قليلا لتأمل القضايا أو الفرص، التي ما كان ينبغي الانتظار حتى الآن للعمل عليها. فالمشكلات لا ينبغي التقليل من شأنها كما فعلنا إلى وقت قريب، كما أنه لا ينبغي التهويل بها إلى حد القول إنها خطر على المنطقة والعالم، كما تنبه لذلك فجأة البريطانيون والأميركيون. وللسلطة اليمنية برئاسة علي عبد الله صالح - على مساوئها البارزة - فضيلتان لا ينبغي إنكارهما: تحقيق الاستقرار الطويل، وتحقيق الوحدة بين الجنوب والشمال. بيد أن الوحدة سرعان ما تعثرت بعد أربع سنوات على قيامها، ونشبت حرب بين جيش علي عبد الله صالح، وبقايا سلطة الحزب الاشتراكي عام 1994. ورغم انتصار الوحدة في تلك الحرب؛ فإن الرئيس علي عبد الله صالح ما أَخذ عبرة من ذلك، بل اعتبر النصر دليلا على صحة سياساته مائة في المائة. فالدخول إلى القضايا يعني دخول اليمن في عملية إصلاحية كبرى وتنموية (تمولها كل من السعودية والإمارات). وينبغي أن تصل هذه العملية إلى ذروتها بإدخال اليمن لمجلس التعاون الخليجي خلال عشر سنوات، يكون فيها الحال قد انصلح مبدئيا بحيث لا تحدث هجرة يمنية كبيرة إن انفتح مجال الدخول على مصراعيه إلى مواطن الثروة والرفاه. وكما أن دخول اليمن إلى مجلس التعاون يشجع عمليات النمو والاستثمار ويصحح مسائل الهجرة والسكان والعمالة في عدة دول خليجية؛ فإن ذلك الدخول يعين في تكوين أفق بحري خليجي - عربي على البحار والمحيط الهندي حيث تتدفق الثروات العربية، وحيث يقطن حول المحيط المذكور زهاء السبعمائة مليون مسلم، بينما تسيطر في جنباته الأساطيل الغربية، وأساطيل الصين والهند التجارية. وإذا جدد العرب الخليجيون وغير الخليجيين التزاماتهم التاريخية البحرية والثقافية؛ فإن الأحوال ستنصلح ولا شك في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وقد كانا حتى مطالع القرن العشرين ناحيتين عربيتين.
أذكر أنه في مطالع عام 1995 وكنت في عداد الوفد الذي رافق الرئيس رفيق الحريري إلى دولة الإمارات، قال الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات تعليقا على أحداث اليمن التي كانت قد انتهت آنذاك: لا أزال أرى أن اليمن فرصة، وعلى العرب أن يعملوا لكي لا تتحول إلى عبء!
* نقلا عن الشرق الأوسط" اللندنية
ما لفت اليمن الانتباه حقا وحقيقة إلا بعد حصول أمرين انطلاقا منه: اختراق الحوثيين للحدود السعودية، وازدياد نشاطات «القاعدة» انطلاقا من بعض مناطقه. ولا شك أن هاتين المشكلتين الجديدتين نسبيا مترتبتان على مشكلات أُخرى صارت شبه مستعصية خلال السنوات القليلة الماضية، وهي: الانقسام داخل الطائفة الزيدية الذي تحول إلى انشقاق وتمرد على الحكومة، والتذمر في جنوب اليمن الذي تبلور في ما سمي بالحراك الجنوبي، وانفتاح حدود اليمن أو شواطئه البحرية على الهجرة والتدخلات من جهتي الصومال وإريتريا. ومنذ حدثِ المدمرة كول قبل سبع سنوات تعرف أجهزة المخابرات أن لـ«القاعدة» وجودا باليمن. وعندما كنت باليمن للتدريس بجامعة صنعاء، سمعت بمسجد الجامعة في سبتمبر (أيلول) عام 1988 الشيخ عبد الله عزام (شيخ الجهاد الأفغاني الأول) يدعو شباب اليمن للذهاب إلى «أرض الجهاد» الوحيدة بأفغانستان وجوارها! وبحسب كلامه كان اليمنيون الذين ذهبوا إلى أفغانستان لا يزيدون على المئات رغم البدل المادي المجزي، والشجاعة التي عُرف بها اليمنيون. وقد انتهى عشرات من اليمنيين في غوانتانامو كما هو معروف. لكنْ، ولسبب ما، ظل اليمنيون ذوي مراتب دنيا في تنظيم القاعدة أو شبكاتها رغم كثرة أعدادهم. فزعماء «القاعدة» باليمن اليوم هم في الأعمّ الأغلب من السعوديين. إنما يعتمد تمركز «القاعدة» باليمن على كثرة اليمنيين المنخرطين من جهة، وعلى عيش رجالاتها في كنَف أحد شيوخ القبائل للحماية وتبادُل الدعم. وقد كانت لـ«القاعدة» باليمن ثلاث وظائف أو أنها تحركت بثلاثة أشكال: إزعاج السعودية، والتعرض على الشواطئ للقِطَع البحرية الأجنبية، ومهاجمة المصالح والسفارات الغربية باليمن. والذي حصل مع النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب جديد، بمعنى إطلاق عملية من اليمن ضد الولايات المتحدة. واللافت فيها ليس الانطلاق من اليمن وحسب، بل إن الرجل نيجيري ومن أُسرة غنية هناك. وعلى أي حال؛ فإن العالم الغربي ينظر الآن إلى «القاعدة» باليمن باعتبارها خَطَرا كبيرا يريد مكافحته، والغريب أن ذلك تأخر حتى الآن، رغم ما يجري من سنوات أمام شواطئ اليمن وعلى أراضيه من خطف للسفن التجارية، ومن هجرة هائلة من الصومال وأقطار أفريقية أُخرى، وما كان كل هؤلاء من النساء والأطفال والشبان الهاربين من المجاعة؛ بل كان بينهم ولا شك كثيرون من المُرسَلين للتدريب والإمداد تحت مُسمى الهجرة هربا من الحرب والجوع.
على أن الملحوظ في هذه التحركات باليمن الإصرار على التحرش بالمملكة العربية السعودية ومن جهتين: «القاعدة»، وأخيرا من جانب الحوثيين. والمعروف أن المملكة هدف أصيل لدى «القاعدة» منذ عام 2003 على الأقل. وقد ازدادت أهمية اليمن في التحرش بالسعودية بعد أن نجحت قوات الأمن بالمملكة في ضرب التنظيم ثم الشبكات والخلايا النائمة بالداخل. فاحتاج «القاعديون» أكثر إلى اليمن للتسلل عبر الحدود أو المجيء من اليمن عبر طريق ثالث. بيد أن المثير حقا قرار الحوثيين باختراق الحدود السعودية قبل خمسة أشهر. وبالتأكيد هناك توجيه إيراني بذلك، يدل عليه الإصرار المنقطع النظير على الاستمرار في محاولات الاختراق رغم ضخامة أعداد القتلى. لكنْ من الناحية العملية فإن الحوثيين محتاجون إلى «القاعدة» في المعلومات، وفي الأساليب والتكتيكات القتالية ومنها العمليات الانتحارية. والواقعُ أنه على الطرف الآخر من الحدود مع اليمن فإن السكان هناك - وإن مارس بعضُهم التجارة والتهريب مع اليمنيين - ليسوا من الزيدية؛ بل هم شافعية في الأصل، وبينهم بعض السلفيين. وقد ذكرت بعض وكالات الأنباء تعاونا بين «القاعدة» والحوثيين. وسواء صحت تلك الأنباء أو لم تصح في هذه الحالة بالذات؛ فإن علاقة «القاعدة» بإيران منذ عام 2002 - 2003 تطرح عدة أسئلة ذات طبيعة أمنية وأُخرى ذات طبيعة سياسية. فمنذ سنوات جرى تداول أخبار عن وجود الظواهري بإيران. كما انكشف قبل شهر ونصف أن قسما كبيرا من أُسرة بن لادن موجود بإيران ربما منذ عام 2002. فإذا كان التحرش الحوثي بالسعودية في جانب منه تعبيرا عن سوء العلاقة بين السعودية وإيران؛ فمن الجانب الآخر يشكل التعاون بين «القاعدة» والحوثيين - إن كان - تكتيكا للإرهاق والاستنزاف شأن ما حاولته جهات وتحاوله من إرهاق لمصر وتشتيت للانتباه من خلال حماس.
وهكذا يكون مفهوما لماذا يكون على الخليجيين بخاصة والعرب بعامة أن يهتموا باليمن. إذ بالإضافة إلى أنه بلد عربي ينبغي حفظ استقراره ووحدته؛ فإن هناك عوامل متعددة أسهمت في السنوات الأخيرة في تحويله إلى ساحة أصيلة أو بديلة للصراعات، شأن ما جرى للبنان في تاريخه الحديث. فموقع اليمن على شواطئ الجزيرة الطويلة، وامتداداته إلى دواخلها؛ جعل منه واجهة استراتيجية لمنطقة الخليج، وإحدى الواجهات الاستراتيجية للأمن العربي أو التعرض العربي. ولا يزال جيلنا يذكر كيف كان جنوب الجزيرة وإطلالتها على البحر العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي، ساحة للصراع أو مجالا له أثناء الحرب الباردة. ونشهد اليوم مأْزقا من جهة وإمكانية أو فرصة من جهة أُخرى. فالمأزق يتجلى في ضعف اليمن وحيادية عمان أو انكماشها. والفرصة تكمن في تقوية هذه الجبهة ودفعها باتجاه التقدم بحيث يشارك العرب من جديد في الامتداد البحري، وفي أمن ومصائر المحيط الهندي الذي صار محيط المستقبل من حيث الثروات التي تتدفق فيه وعليه.
بيد أن المشكلة الأُخرى البارزة إلى جانب استخدام اليمن للاستنزاف والابتزاز، تبدو في الانقسام الداخلي العميق، وهو انقسام لا تظهر خطورته في الافتراق الزيدي، أو الاختراق القاعدي وحسب، بقدر ما تظهر في ما صار يعرف بالحراك الجنوبي. إذ للحركة الجنوبية بالإضافة للأبعاد الاجتماعية والسياسية، أبعاد جهوية المفروض أن الحركة الوطنية اليمنية تجاوزتها منذ أكثر من خمسين عاما. ولست أعرف بلدا عربيا تخلو حركته الوطنية من المذهبية والجهوية مثل الحركة الوطنية اليمنية. لكن كل تلك «المسلَّمات» توارت منذ مدة - وليس في اليمن فقط - تحت وطأة الفقر المتزايد، وسوء الإدارة السياسية، والتلاقي بين التشدد والنزعة التدخّلية لاستنزاف العرب والإمعان في إضعافهم.
لدينا في اليمن إذن مشكلة الحوثيين ومشكلة «القاعدة». ولا تبدو هاتان المشكلتان بنيويتين. فـ«القاعدة» مستوردة، وإن استندت إلى تأثيرات سلفية بعيدة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. أما الحوثيون فهم في الأصل انقسام داخل الزيدية بين التقليديين والجدد. وقد اتخذ الجدد لأنفسهم النموذج الإيراني ونموذج حزب الله، دونما اطمئنان إلى نموذج ولاية الفقيه. وكانت السلطة اليمنية قد أظهرت منذ عام 1997 - 1998 حيادية تجاه المذاهب الدينية، إذا ثبتت وتطورت؛ فإنها ستكون مفيدة في إبعاد المذهبية عن عمل الدولة بعد سيطرة السلفيين (وأهل تيار الإصلاح) على السياسات الداخلية والتعليمية على مدى حوالي العشرين عاما. وستترك الإحيائية الزيدية هذه تأثيراتها على شكل المشاركة في نظام الحكم والمجال السياسي، وإن خمدت حركتها المسلحة. ولذا فينبغي أن تظل هناك إضافة للحيادية، توازن حَذِر من جانب الدولة بين التقليديين والإحيائيين - أما الإصلاحيون، الذين استخدمتهم السلطة بإسراف ضد الزيدية والشافعية على حد سواء؛ فقد فقدوا تأثيرهم عندما تحولوا إلى سلفيين متشددين!
ولست أدري سبيلا الآن لمعالجة ثوران «الحِراك الجنوبي» الذي لن تخمد فعالياته بسرعة. إذ هو يستند إلى سلطويات محلية تقليدية (صوفية وقَبَلية وجهوية)، ومستجدات سلفية واشتراكية. وربما كان السبيل بالتنمية القوية، وبالتعليم القوي، وبالإنصاف في حركية الدولة، والعدالة في توزيع وظائفها. لكن هذه اقتراحات عامة وطويلة الأمد. ولو كانت هناك مؤسسات عاملة، وتداول للسلطة؛ فقد يكون مفيدا للجنوب اليمني كما للشمال اشتراع لا مركزية إدارية واسعة تفيد وحدة الدولة والأرض ولا تضرها.
ولننصرف قليلا لتأمل القضايا أو الفرص، التي ما كان ينبغي الانتظار حتى الآن للعمل عليها. فالمشكلات لا ينبغي التقليل من شأنها كما فعلنا إلى وقت قريب، كما أنه لا ينبغي التهويل بها إلى حد القول إنها خطر على المنطقة والعالم، كما تنبه لذلك فجأة البريطانيون والأميركيون. وللسلطة اليمنية برئاسة علي عبد الله صالح - على مساوئها البارزة - فضيلتان لا ينبغي إنكارهما: تحقيق الاستقرار الطويل، وتحقيق الوحدة بين الجنوب والشمال. بيد أن الوحدة سرعان ما تعثرت بعد أربع سنوات على قيامها، ونشبت حرب بين جيش علي عبد الله صالح، وبقايا سلطة الحزب الاشتراكي عام 1994. ورغم انتصار الوحدة في تلك الحرب؛ فإن الرئيس علي عبد الله صالح ما أَخذ عبرة من ذلك، بل اعتبر النصر دليلا على صحة سياساته مائة في المائة. فالدخول إلى القضايا يعني دخول اليمن في عملية إصلاحية كبرى وتنموية (تمولها كل من السعودية والإمارات). وينبغي أن تصل هذه العملية إلى ذروتها بإدخال اليمن لمجلس التعاون الخليجي خلال عشر سنوات، يكون فيها الحال قد انصلح مبدئيا بحيث لا تحدث هجرة يمنية كبيرة إن انفتح مجال الدخول على مصراعيه إلى مواطن الثروة والرفاه. وكما أن دخول اليمن إلى مجلس التعاون يشجع عمليات النمو والاستثمار ويصحح مسائل الهجرة والسكان والعمالة في عدة دول خليجية؛ فإن ذلك الدخول يعين في تكوين أفق بحري خليجي - عربي على البحار والمحيط الهندي حيث تتدفق الثروات العربية، وحيث يقطن حول المحيط المذكور زهاء السبعمائة مليون مسلم، بينما تسيطر في جنباته الأساطيل الغربية، وأساطيل الصين والهند التجارية. وإذا جدد العرب الخليجيون وغير الخليجيين التزاماتهم التاريخية البحرية والثقافية؛ فإن الأحوال ستنصلح ولا شك في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وقد كانا حتى مطالع القرن العشرين ناحيتين عربيتين.
أذكر أنه في مطالع عام 1995 وكنت في عداد الوفد الذي رافق الرئيس رفيق الحريري إلى دولة الإمارات، قال الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات تعليقا على أحداث اليمن التي كانت قد انتهت آنذاك: لا أزال أرى أن اليمن فرصة، وعلى العرب أن يعملوا لكي لا تتحول إلى عبء!
* نقلا عن الشرق الأوسط" اللندنية