- الأربعاء ديسمبر 11, 2013 2:51 pm
#69707
لا ينكر أحد أبدًا أن فترة حكم صدام حسين للعراق كانت فترة كئيبة حزينة، دفع فيها الشعب العراقي الكثير والكثير من ثرواته وحريته، وحُكم فيها العراق بالحديد والنار، وأصبح القهر والظلم والاستبداد هي السمات الغالبة على طريقة سياسة الناس، تمامًا كما يحدث في معظم البلاد العربية.
وترقب كثير من أبناء الشعب العراقي يوم الخلاص من الطاغية الجبار، وفعلوا كما يفعل الناس يوم القيامة، فإنهم من هول ذلك اليوم يظنون أن النار أهون، فيسألون الله الحساب ولو إلى النار!
وهكذا ظن كثيرٌ من أفراد الشعب العراقي أن الخلاص من صدام هو الغاية، ولو إلى الأمريكان!
وحدث ما تمناه البعض، وما يتمناه كذلك الكثير من أبناء الدول العربية الأخرى، حيث تعاني الشعوب من قهر حكامها فيلجئون إلى الزعامات ذات
التوجُّه الأمريكي الواضح؛ أملاً في أن تنظر أمريكا إلى البلد بعين الرأفة بعد إزاحة طغاتها. ولقد سمعتُ بأذني أكثر من واحد يقولون: يا ليت أمريكا تأتي إلى بلادنا كما ذهبت إلى العراق، فتقيم حكمًا ديمقراطيًّا، وتُقِرّ انتخابات نزيهة، وتزيل طُغمة حاكمة ظالمة، وتسمح للشعب أن يختار قيادته وممثليه، بل إنني قابلتُ عراقيًّا في أيرلندا يلومني بعد إلقائي محاضرة هناك؛ لأنني في آخر المحاضرة دعوت الله أن يحرِّر العراق، ووجهُ اللوم أنه يرى أن الجيوش الأمريكية جيوش صديقة أتت برضا النظام الحاكم، وقد أزالت الطاغية صدام الذي استحالت الحياة تحت حكمه!!
وأنا لا أتعجب من سعادته لذهاب صدام، فقد كان طاغية حقًّا، ولكني أتعجب من أنه لا يرى الحال الذي آلت إليه العراق بعد الاحتلال الأمريكي.
إننا عند سرد النظريات نتكلم كما نشاء، ونفترض كما نشاء، ونحلِّل كما نشاء، ولكن بعد مرور ست سنوات على الاحتلال خرج الأمر من طور التنظير والتوقع إلى طور تحليل الواقع المرئيّ، والأحوال المشاهدة.
إننا نستطيع الآن أن نقوِّم التجربة، وأن نرى النتائج، وأن نعلم حالة الشعب العراقي بعد ست سنوات من دخول أمريكا إلى الأرض العراقية..
أولاً: قتلى الشعب العراقي في هذه السنوات الست بلغ عددًا لا يمكن تخيله!
قدَّر مركز استطلاعات الرأي الإنجليزي orb عدد القتلى العراقيين من إبريل 2003 إلى أغسطس 2007 (قبل ما يقرب من عامين) بمليون وثلاثة وثلاثين قتيلاً!! وهو رقم هائل، ولكنه ليس عجيبًا بالقياس إلى عدد القتلى الذي نشاهدهم على شاشات التليفزيون كل يوم، وقد تعددت أسباب الوفاة، ولكن الموت واحد. وقد ذكر مركز الاستطلاع أن عدد القتلى الذين قتلوا برصاص الأمريكان وصل إلى 40% من القتلى، إضافةً إلى 8% قُتلوا عن طريق غارات جوية. ولا شكَّ أن هذه الأرقام المفزعة أكثر بكثير مما كنا نراه أيام صدام، مع بشاعة ما كان يحدث أيام صدام، فقد دأبت المصادر على تصوير إجرام صدام عندما قتل خمسة آلاف في قرية حلبجة الكردية، وهو رقم كبير ولا شكَّ، ولكن أين هو من المليون؟!
التعذيب في سجون الاحتلال
ثانيًا: ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها عن العراق عام 2008 أن عدد المحتجزين في السجون العراقية بشأن قضية الاحتلال ومقاومة المحتل الأمريكي بلغ عدد 24 ألف معتقل في عام 2008، وليست المشكلة فقط في مجرد الاحتجاز، ولكننا جميعًا شاهدنا ما يحدث في سجن أبي غريب من إهانة وامتهان لكرامة المسلمين، وذلك بصورة لفتت أنظار العالم أجمع، كما نعلم.
ثالثًا: بلغ عدد المشردين العراقيين 4.8 مليون عراقي! وقد ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها أن حوالي 2 مليون من هؤلاء مشرَّد خارج الحدود العراقية، وأغلبهم في سوريا والأردن، وهذا يعني أن خُمس الشعب العراقي المتبقي بعد القتل أصبح مشردًا. كما أن مستقبل الجميع في خطر شديد، ليس أمنيًّا فقط، وليس اقتصاديًّا فحسب، ولكن لأن الكثير منهم من الأطفال الذين فقدوا عائلهم، وقد ذكرت إحصائيات اليونيسيف أن هذا القتل البشع في العراق قد خلَّف من 4 إلى 5 ملايين يتيم تعولهم 1.5 مليون أرملة!
رابعًا: حالة الفوضى الأمنية التي تتعرض لها العراق الآن غير مسبوقة في تاريخ العراق كله، بل لعلها غير مسبوقة في تاريخ المنطقة بكاملها. ولعلَّنا إذا قارنا الوضع بما يحدث في فلسطين لأدركنا الكارثة، فإن فلسطين تتعرض لمشكلة كبيرة جدًّا تحت الاحتلال الصهيوني، ومع ذلك فمصابهم أقل بكثير مما نراه في أرض العراق، وليس هذا تقليلاً من الأزمة الفلسطينية، ولكنْ لفت الانتباه لحجم المشكلة العراقية.
خامسًا:كيف كان الجيش العراقي قديمًا، وكيف صار الآن؟ اسألوا أنفسكم يا من توقعتم الخير للعراق بعد دخول الأمريكان! لقد سُرِّح الجيش العراقي بأكمله تقريبًا، وبعد أن كانت العراق القوة السادسة عسكريًّا على مستوى العالم، وكان جيشها أقوى جيوش الشرق الأوسط، وكان يبلغ من العدد أكثر من مليون جندي سنة 1990م، وهو بذلك رابع جيش في العالم من ناحية العدد، صارت دولة
الجيش العراقي السادس عالميًّا وقت حكم صدام
بلا جيش أصلاً. ولا يخفى على أحد أن ما يسمَّى الآن بالجيش العراقي، والذي تقوم القوات الأمريكية المحتلة بتدريبه، ما هو إلا قوات هزيلة تهدف إلى حفظ الأمن الأمريكي قبل العراقي، وهذه القوات لا تملك بحالٍ من الأحوال طاقات الجيوش، ولو خرج الأمريكان في يوم ما فإنَّ هذا الجيش لا يقوى على دفع أي جيش محتل آخر، سواء كان صهيونيًّا أو إيرانيًّا.
سادسًا:من الناحية العلمية أصبحت دولة العراق متخلفة بمعنى الكلمة، فقد دُمِّرت البنية التحتية العلمية تمامًا، وأغلقت الجامعات الكبرى، بل ودمرت الآلاف من المدارس، وتسابقت العقول العراقية المتميزة في الخروج من العراق، والهجرة إلى أي مكان في العالم. والعجيب أن الدول التي احتلت العراق هي من أكثر الدول التي تستقبل
المهاجرين العراقيين من العلماء، وقد بلغ عدد الأطباء العراقيين الذين هاجروا إلى بريطانيا فقط أكثر من ألفي طبيب، فإذا أخذنا في الاعتبار أن الطبيب العراقي كان يكلِّف دولته في السبعينيات حولي 45 ألف دولار لكي يُنهي دراسته التخصصية، علمنا أن الخسارة المادية بلغت نحو 100 مليون دولار (بحساب السبعينيات) في بريطانيا فقط، وبسبب هجرة الأطباء فحسب، فضلاً عن الخسارة العلمية بمغادرة هؤلاء للعراق، فضلاً عن الخسارة الصحيَّة الناتجة عن فَقْد الأطباء، فإذا أضفت إلى ذلك هجرة العلماء والمهندسين والفلكيين والمحاسبين وغيرهم من التخصصات علمت مدى الفاجعة التي نكبت بها دولة العراق.
وقد وصل الأمر إلى أن تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر من القاهرة، والذي يشرح الحالة العلمية في الدول العالمية، ويعتمد على تقريرات من البنك الدولي، قد فشل في معرفة عدد العلماء أو الفنيين في العراق بالنسبة إلى عدد السكان، وذلك للندرة الشديدة لهم، إضافةً إلى فقْد الوسائل العلمية للإحصاء في ظل الوضع الأمني المتردي في الدولة.
سابعًا: الوضع الاقتصادي في العراق لا يحتاج إلى تعليق، فبعد أن كانت العراق من أغنى دول العالم، ومن الدول التي تستقبل العمال والفلاحين والمهنيين الراغبين في الثراء، تبدَّل الحال تمامًا حتى أصبحت من أفقر دول العالم! مع أنها تعوم على بحيرة من النفط تختزن ثاني مخزون بترولي في العالم، فضلاً عن بقية الثروات المعدنية والزراعية. لقد كانت صادرات البترول العراقي في سنة 2001 تبلغ 15.5 مليار دولار على الرغم من الحصار الأمريكي، فأين كل ذلك الآن؟! لقد ذكر تقرير التنمية البشرية لعام 2005 أن نسبة الفقر في العراق تجاوزت 60%، وأن البطالة المعلنة أكثر من 38%، هذا إضافةً إلى 22% من البطالة المقنَّعة، مما يعني أن 60% من الشعب المتبقي بعد القتل لا يجد عملاً أصلاً، فضلاً عن فقر الدولة وانتكاسها.
أمريكا تشعل الفتنة بين السنة والشيعة بالعراق
ثامنًا: دعمت أمريكا الفتنة الطائفية في العراق، وأعلنت بمجرَّد دخولها عن رغبتها في رفع الظلم عن الطوائف المقهورة أيام صدام، وبذلك فتحت مجالاً واسعًا للشيعة بشكل خاص، وصاغت الدستور العراقي بالطريقة التي تجعل خروج رئيس الوزراء شيعيًّا بشكل إلزامي، والدستور يعطي رئيس الوزراء صلاحيات اختيار الوزراء، إضافةً إلى شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، وبذلك يستطيع رئيس الوزراء الشيعي أن يختار من يشاء من طائفته في المناصب السيادية، ولن يمر هذا بهدوء في الشعب العراقي السُّنِّي، وسيحدث صراع وقتال وتصادم. ومع أن هذا التصادم لم يحدث على مدار عشرات السنين إلا أنه حدث - وبضراوة - في ظل الاحتلال الأمريكي.
وقد يتساءل بعض القُرّاء عن سر ميل أمريكا للشيعة، وذلك له خلفيات كثيرة، ومسائل توازنات في المنطقة، ولعلَّنا نتحدث عن هذا الأمر في المقالات القادمة. لكن ينبغي أن نلفت انتباه القراء إلى خداع الأمريكان للعالم الإسلامي عن طريق التهديدات الوهميَّة لدولة إيران، وراجعوا مقالي السابق "بعبع تحت السيطرة"، الذي يتحدث عن هذا الجانب من الصورة. كما ينبغي أن نلفت انتباهكم كذلك إلى أن أوباما قد أبلغ الزعيم الديني الإيراني الشهير خامنئي بتهانيه بمناسبة عيد النيروز الفارسي!! (الجزيرة 9 من إبريل 2009م).
وعودة إلى الفتنة الطائفيَّة، فقد حصدت أرواح الآلاف والآلاف من أبناء الشعب العراقي، ودخل الجميع في نفق مظلم طويل.
تاسعًا: سمعنا كثيرًا من الزعماء الأمريكان أنهم سيخرجون بعد فترة قصيرة جدًّا من تحرير العراق من رئيسه صدام! ومرَّ شهر وشهران وثلاثة، ومرت سنة وسنتان وثلاثة، والآن مرت ست سنوات، والقوات الأمريكية ما زالت قابعة في الأرض العراقية، ويبلغ عدد القوات الأمريكية في أرض العراق فقط حوالي 146 ألف مقاتل، فضلاً عن القوات الأمريكية في الكويت وقطر، ودعَّم أوباما - الذي وعد كثيرًا بسحب القوات الأمريكية من العراق - هذه القوات بزيارته لها بشكل مفاجئ، وذلك في 8 من إبريل 2009 بعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه الرئاسة! مما يعني أن عملية سحب القوات - إن كانت حقيقيَّة - فهي ليست في القريب العاجل.
سحق وتدمير الشعب العراقي
عاشرًا: بهذا السحق للشعب العراقي وحكومته، وبهذا التدمير الرهيب للجيش والدولة، فقدت المنطقة توازنها التاريخي، وبدأت إيران في التدخُّل المباشر في أرض العراق، بل وقامت بالتهديد السافر الواضح للبحرين والإمارات. ويجب على الجميع أن يتوقع أنه عند خروج الجيش الأمريكي فإنَّ معظم الأنظمة التي تحيط بإيران لن تقوى بحال على صَدِّها، خاصةً إذا وضعنا في الحسبان التنامي المستمر لحزب الله في لبنان، إضافةً إلى السيطرة العَلَويَّة في سوريا، وهذا كله يشير إلى مستقبل خطير لا بُدَّ من دراسته بعمق.
كانت هذه هي الكارثة العاشرة لاحتلال أمريكا للعراق.. فتلك عشرة كاملة!!
يبقى أن نقول إننا لا نذكر كل هذه الحقائق والإحصائيات ليشعر المسلمون بالإحباط واليأس، فإن الجيوش المحتلة حتمًا ستخرج، وإنَّ البلاد العراقية حتمًا ستحرَّر، ولكننا ذكرنا كل هذه الحقائق لنخرج بالعِبْرة الكبرى من كل هذه
القصة.. وهذه العبرة هي أنه مهما تفاقم ظلم الظالمين في البلاد المسلمة فإنَّ البديل لا يكون أبدًا في الاحتلال الأجنبي لهذه البلاد، ولقد رأينا أن الأمريكان أنفقوا في هذه الحرب حتى الآن أكثر من خمسمائة مليار دولار، فهل ساهمت أمريكا بهذا المبلغ شفقةً على أهل العراق من صدام؟! أم أن الأجندة الأمريكية تحمل أهدافًا أخرى، في مقدمتها تدمير هذه القوة المتنامية في العراق، وحفظ أمن الصهاينة، ونهب المقدرات البترولية الثمينة، والاقتراب من العدو التقليدي روسيا، والتمركز في داخل بلاد الإسلام، وغير ذلك من أهداف عدوانيَّة لا تمتّ للشرف والفضيلة والأخلاق بشيء؟!
إننا بعد أن رأينا هذه الصورة المفجعة للواقع العراقي لا نطالب الشعوب العربية بقبول حكامها الطغاة، ولا نطالب بالرضا بأمثال صدام حسين، ولكن نطالب كل شعب أن يبحث عن الآليات المناسبة للخروج من أزمته، ولرفع الظلم عن كاهله، على ألاّ تكون هذه الوسيلة هي جلب قوات محتلة إلى البلاد قد لا تخرج قبل عشرات السنين.
إنها رسالة واضحة إلى الشعب العراقي، وإلى الشعوب المسلمة في كل مكان
وترقب كثير من أبناء الشعب العراقي يوم الخلاص من الطاغية الجبار، وفعلوا كما يفعل الناس يوم القيامة، فإنهم من هول ذلك اليوم يظنون أن النار أهون، فيسألون الله الحساب ولو إلى النار!
وهكذا ظن كثيرٌ من أفراد الشعب العراقي أن الخلاص من صدام هو الغاية، ولو إلى الأمريكان!
وحدث ما تمناه البعض، وما يتمناه كذلك الكثير من أبناء الدول العربية الأخرى، حيث تعاني الشعوب من قهر حكامها فيلجئون إلى الزعامات ذات
التوجُّه الأمريكي الواضح؛ أملاً في أن تنظر أمريكا إلى البلد بعين الرأفة بعد إزاحة طغاتها. ولقد سمعتُ بأذني أكثر من واحد يقولون: يا ليت أمريكا تأتي إلى بلادنا كما ذهبت إلى العراق، فتقيم حكمًا ديمقراطيًّا، وتُقِرّ انتخابات نزيهة، وتزيل طُغمة حاكمة ظالمة، وتسمح للشعب أن يختار قيادته وممثليه، بل إنني قابلتُ عراقيًّا في أيرلندا يلومني بعد إلقائي محاضرة هناك؛ لأنني في آخر المحاضرة دعوت الله أن يحرِّر العراق، ووجهُ اللوم أنه يرى أن الجيوش الأمريكية جيوش صديقة أتت برضا النظام الحاكم، وقد أزالت الطاغية صدام الذي استحالت الحياة تحت حكمه!!
وأنا لا أتعجب من سعادته لذهاب صدام، فقد كان طاغية حقًّا، ولكني أتعجب من أنه لا يرى الحال الذي آلت إليه العراق بعد الاحتلال الأمريكي.
إننا عند سرد النظريات نتكلم كما نشاء، ونفترض كما نشاء، ونحلِّل كما نشاء، ولكن بعد مرور ست سنوات على الاحتلال خرج الأمر من طور التنظير والتوقع إلى طور تحليل الواقع المرئيّ، والأحوال المشاهدة.
إننا نستطيع الآن أن نقوِّم التجربة، وأن نرى النتائج، وأن نعلم حالة الشعب العراقي بعد ست سنوات من دخول أمريكا إلى الأرض العراقية..
أولاً: قتلى الشعب العراقي في هذه السنوات الست بلغ عددًا لا يمكن تخيله!
قدَّر مركز استطلاعات الرأي الإنجليزي orb عدد القتلى العراقيين من إبريل 2003 إلى أغسطس 2007 (قبل ما يقرب من عامين) بمليون وثلاثة وثلاثين قتيلاً!! وهو رقم هائل، ولكنه ليس عجيبًا بالقياس إلى عدد القتلى الذي نشاهدهم على شاشات التليفزيون كل يوم، وقد تعددت أسباب الوفاة، ولكن الموت واحد. وقد ذكر مركز الاستطلاع أن عدد القتلى الذين قتلوا برصاص الأمريكان وصل إلى 40% من القتلى، إضافةً إلى 8% قُتلوا عن طريق غارات جوية. ولا شكَّ أن هذه الأرقام المفزعة أكثر بكثير مما كنا نراه أيام صدام، مع بشاعة ما كان يحدث أيام صدام، فقد دأبت المصادر على تصوير إجرام صدام عندما قتل خمسة آلاف في قرية حلبجة الكردية، وهو رقم كبير ولا شكَّ، ولكن أين هو من المليون؟!
التعذيب في سجون الاحتلال
ثانيًا: ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها عن العراق عام 2008 أن عدد المحتجزين في السجون العراقية بشأن قضية الاحتلال ومقاومة المحتل الأمريكي بلغ عدد 24 ألف معتقل في عام 2008، وليست المشكلة فقط في مجرد الاحتجاز، ولكننا جميعًا شاهدنا ما يحدث في سجن أبي غريب من إهانة وامتهان لكرامة المسلمين، وذلك بصورة لفتت أنظار العالم أجمع، كما نعلم.
ثالثًا: بلغ عدد المشردين العراقيين 4.8 مليون عراقي! وقد ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها أن حوالي 2 مليون من هؤلاء مشرَّد خارج الحدود العراقية، وأغلبهم في سوريا والأردن، وهذا يعني أن خُمس الشعب العراقي المتبقي بعد القتل أصبح مشردًا. كما أن مستقبل الجميع في خطر شديد، ليس أمنيًّا فقط، وليس اقتصاديًّا فحسب، ولكن لأن الكثير منهم من الأطفال الذين فقدوا عائلهم، وقد ذكرت إحصائيات اليونيسيف أن هذا القتل البشع في العراق قد خلَّف من 4 إلى 5 ملايين يتيم تعولهم 1.5 مليون أرملة!
رابعًا: حالة الفوضى الأمنية التي تتعرض لها العراق الآن غير مسبوقة في تاريخ العراق كله، بل لعلها غير مسبوقة في تاريخ المنطقة بكاملها. ولعلَّنا إذا قارنا الوضع بما يحدث في فلسطين لأدركنا الكارثة، فإن فلسطين تتعرض لمشكلة كبيرة جدًّا تحت الاحتلال الصهيوني، ومع ذلك فمصابهم أقل بكثير مما نراه في أرض العراق، وليس هذا تقليلاً من الأزمة الفلسطينية، ولكنْ لفت الانتباه لحجم المشكلة العراقية.
خامسًا:كيف كان الجيش العراقي قديمًا، وكيف صار الآن؟ اسألوا أنفسكم يا من توقعتم الخير للعراق بعد دخول الأمريكان! لقد سُرِّح الجيش العراقي بأكمله تقريبًا، وبعد أن كانت العراق القوة السادسة عسكريًّا على مستوى العالم، وكان جيشها أقوى جيوش الشرق الأوسط، وكان يبلغ من العدد أكثر من مليون جندي سنة 1990م، وهو بذلك رابع جيش في العالم من ناحية العدد، صارت دولة
الجيش العراقي السادس عالميًّا وقت حكم صدام
بلا جيش أصلاً. ولا يخفى على أحد أن ما يسمَّى الآن بالجيش العراقي، والذي تقوم القوات الأمريكية المحتلة بتدريبه، ما هو إلا قوات هزيلة تهدف إلى حفظ الأمن الأمريكي قبل العراقي، وهذه القوات لا تملك بحالٍ من الأحوال طاقات الجيوش، ولو خرج الأمريكان في يوم ما فإنَّ هذا الجيش لا يقوى على دفع أي جيش محتل آخر، سواء كان صهيونيًّا أو إيرانيًّا.
سادسًا:من الناحية العلمية أصبحت دولة العراق متخلفة بمعنى الكلمة، فقد دُمِّرت البنية التحتية العلمية تمامًا، وأغلقت الجامعات الكبرى، بل ودمرت الآلاف من المدارس، وتسابقت العقول العراقية المتميزة في الخروج من العراق، والهجرة إلى أي مكان في العالم. والعجيب أن الدول التي احتلت العراق هي من أكثر الدول التي تستقبل
المهاجرين العراقيين من العلماء، وقد بلغ عدد الأطباء العراقيين الذين هاجروا إلى بريطانيا فقط أكثر من ألفي طبيب، فإذا أخذنا في الاعتبار أن الطبيب العراقي كان يكلِّف دولته في السبعينيات حولي 45 ألف دولار لكي يُنهي دراسته التخصصية، علمنا أن الخسارة المادية بلغت نحو 100 مليون دولار (بحساب السبعينيات) في بريطانيا فقط، وبسبب هجرة الأطباء فحسب، فضلاً عن الخسارة العلمية بمغادرة هؤلاء للعراق، فضلاً عن الخسارة الصحيَّة الناتجة عن فَقْد الأطباء، فإذا أضفت إلى ذلك هجرة العلماء والمهندسين والفلكيين والمحاسبين وغيرهم من التخصصات علمت مدى الفاجعة التي نكبت بها دولة العراق.
وقد وصل الأمر إلى أن تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر من القاهرة، والذي يشرح الحالة العلمية في الدول العالمية، ويعتمد على تقريرات من البنك الدولي، قد فشل في معرفة عدد العلماء أو الفنيين في العراق بالنسبة إلى عدد السكان، وذلك للندرة الشديدة لهم، إضافةً إلى فقْد الوسائل العلمية للإحصاء في ظل الوضع الأمني المتردي في الدولة.
سابعًا: الوضع الاقتصادي في العراق لا يحتاج إلى تعليق، فبعد أن كانت العراق من أغنى دول العالم، ومن الدول التي تستقبل العمال والفلاحين والمهنيين الراغبين في الثراء، تبدَّل الحال تمامًا حتى أصبحت من أفقر دول العالم! مع أنها تعوم على بحيرة من النفط تختزن ثاني مخزون بترولي في العالم، فضلاً عن بقية الثروات المعدنية والزراعية. لقد كانت صادرات البترول العراقي في سنة 2001 تبلغ 15.5 مليار دولار على الرغم من الحصار الأمريكي، فأين كل ذلك الآن؟! لقد ذكر تقرير التنمية البشرية لعام 2005 أن نسبة الفقر في العراق تجاوزت 60%، وأن البطالة المعلنة أكثر من 38%، هذا إضافةً إلى 22% من البطالة المقنَّعة، مما يعني أن 60% من الشعب المتبقي بعد القتل لا يجد عملاً أصلاً، فضلاً عن فقر الدولة وانتكاسها.
أمريكا تشعل الفتنة بين السنة والشيعة بالعراق
ثامنًا: دعمت أمريكا الفتنة الطائفية في العراق، وأعلنت بمجرَّد دخولها عن رغبتها في رفع الظلم عن الطوائف المقهورة أيام صدام، وبذلك فتحت مجالاً واسعًا للشيعة بشكل خاص، وصاغت الدستور العراقي بالطريقة التي تجعل خروج رئيس الوزراء شيعيًّا بشكل إلزامي، والدستور يعطي رئيس الوزراء صلاحيات اختيار الوزراء، إضافةً إلى شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، وبذلك يستطيع رئيس الوزراء الشيعي أن يختار من يشاء من طائفته في المناصب السيادية، ولن يمر هذا بهدوء في الشعب العراقي السُّنِّي، وسيحدث صراع وقتال وتصادم. ومع أن هذا التصادم لم يحدث على مدار عشرات السنين إلا أنه حدث - وبضراوة - في ظل الاحتلال الأمريكي.
وقد يتساءل بعض القُرّاء عن سر ميل أمريكا للشيعة، وذلك له خلفيات كثيرة، ومسائل توازنات في المنطقة، ولعلَّنا نتحدث عن هذا الأمر في المقالات القادمة. لكن ينبغي أن نلفت انتباه القراء إلى خداع الأمريكان للعالم الإسلامي عن طريق التهديدات الوهميَّة لدولة إيران، وراجعوا مقالي السابق "بعبع تحت السيطرة"، الذي يتحدث عن هذا الجانب من الصورة. كما ينبغي أن نلفت انتباهكم كذلك إلى أن أوباما قد أبلغ الزعيم الديني الإيراني الشهير خامنئي بتهانيه بمناسبة عيد النيروز الفارسي!! (الجزيرة 9 من إبريل 2009م).
وعودة إلى الفتنة الطائفيَّة، فقد حصدت أرواح الآلاف والآلاف من أبناء الشعب العراقي، ودخل الجميع في نفق مظلم طويل.
تاسعًا: سمعنا كثيرًا من الزعماء الأمريكان أنهم سيخرجون بعد فترة قصيرة جدًّا من تحرير العراق من رئيسه صدام! ومرَّ شهر وشهران وثلاثة، ومرت سنة وسنتان وثلاثة، والآن مرت ست سنوات، والقوات الأمريكية ما زالت قابعة في الأرض العراقية، ويبلغ عدد القوات الأمريكية في أرض العراق فقط حوالي 146 ألف مقاتل، فضلاً عن القوات الأمريكية في الكويت وقطر، ودعَّم أوباما - الذي وعد كثيرًا بسحب القوات الأمريكية من العراق - هذه القوات بزيارته لها بشكل مفاجئ، وذلك في 8 من إبريل 2009 بعد أقل من ثلاثة أشهر من توليه الرئاسة! مما يعني أن عملية سحب القوات - إن كانت حقيقيَّة - فهي ليست في القريب العاجل.
سحق وتدمير الشعب العراقي
عاشرًا: بهذا السحق للشعب العراقي وحكومته، وبهذا التدمير الرهيب للجيش والدولة، فقدت المنطقة توازنها التاريخي، وبدأت إيران في التدخُّل المباشر في أرض العراق، بل وقامت بالتهديد السافر الواضح للبحرين والإمارات. ويجب على الجميع أن يتوقع أنه عند خروج الجيش الأمريكي فإنَّ معظم الأنظمة التي تحيط بإيران لن تقوى بحال على صَدِّها، خاصةً إذا وضعنا في الحسبان التنامي المستمر لحزب الله في لبنان، إضافةً إلى السيطرة العَلَويَّة في سوريا، وهذا كله يشير إلى مستقبل خطير لا بُدَّ من دراسته بعمق.
كانت هذه هي الكارثة العاشرة لاحتلال أمريكا للعراق.. فتلك عشرة كاملة!!
يبقى أن نقول إننا لا نذكر كل هذه الحقائق والإحصائيات ليشعر المسلمون بالإحباط واليأس، فإن الجيوش المحتلة حتمًا ستخرج، وإنَّ البلاد العراقية حتمًا ستحرَّر، ولكننا ذكرنا كل هذه الحقائق لنخرج بالعِبْرة الكبرى من كل هذه
القصة.. وهذه العبرة هي أنه مهما تفاقم ظلم الظالمين في البلاد المسلمة فإنَّ البديل لا يكون أبدًا في الاحتلال الأجنبي لهذه البلاد، ولقد رأينا أن الأمريكان أنفقوا في هذه الحرب حتى الآن أكثر من خمسمائة مليار دولار، فهل ساهمت أمريكا بهذا المبلغ شفقةً على أهل العراق من صدام؟! أم أن الأجندة الأمريكية تحمل أهدافًا أخرى، في مقدمتها تدمير هذه القوة المتنامية في العراق، وحفظ أمن الصهاينة، ونهب المقدرات البترولية الثمينة، والاقتراب من العدو التقليدي روسيا، والتمركز في داخل بلاد الإسلام، وغير ذلك من أهداف عدوانيَّة لا تمتّ للشرف والفضيلة والأخلاق بشيء؟!
إننا بعد أن رأينا هذه الصورة المفجعة للواقع العراقي لا نطالب الشعوب العربية بقبول حكامها الطغاة، ولا نطالب بالرضا بأمثال صدام حسين، ولكن نطالب كل شعب أن يبحث عن الآليات المناسبة للخروج من أزمته، ولرفع الظلم عن كاهله، على ألاّ تكون هذه الوسيلة هي جلب قوات محتلة إلى البلاد قد لا تخرج قبل عشرات السنين.
إنها رسالة واضحة إلى الشعب العراقي، وإلى الشعوب المسلمة في كل مكان