منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#30983

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



فرنسا الممجدة لتاريخها الاستعماري


في الثالث والعشرين من فبراير من العام 2005 اعتمدت الجمعية الوطنية الفرنسية (ذات الأغلبية اليمينية المحافظة) قانونا (القانون 158-2005) لم تعترض على بنوده الثلاثة عشر إلا المجموعة النيابية الاشتراكية وبعض من الوجوه المستقلة التي لا تتوانى في إبداء رأيها الخاص حتى وإن تنافى في جوهره مع فلسفة الانتماء الحزبي.

يقول القانون في مادته الأولى: ” تعبر الأمة (الفرنسية) عن عرفانها للنساء والرجال الذين شاركوا في المهمة التي أنجزتها فرنسا في مقاطعاتها السابقة بالجزائر والمغرب وتونس والهند الصينية وفي كل البلدان التي كانت تحت السيادة الفرنسية. وتعترف الأمة (الفرنسية) بالآلام التي كابدها والتضحيات التي بذلها المرحلون، الأعضاء السابقون في التشكيلات الإضافية والمدمجون والمفقودون والضحايا المدنيون والعسكريون خلال الأحداث المتعلقة بمسار استقلال هذه المقاطعات والأقاليم السابقة وتعرب لهم ولعائلاتهم بصورة علنية عن عرفانها…”.

لم يكتف القانون إياه بمجرد “إعادة الاعتبار المعنوية” لهؤلاء، بل عمدت جمعية في ظله ( تمهيدا له أو بامتداد مع مضمونه) إلى إقامة نصب تذكاري بمقبرة “مارينيان” (جنوب فرنسا) ” للإشادة بالمعدومين والمقاتلين الذين سقطوا من أجل أن تحيا الجزائر فرنسية”.

وكما لو أن القانون بدا لمعتمديه غير كاف ومنصف، عمدوا إلى التنصيص (بالفصل الرابع) على ضرورة إدخال مقررات دراسية (وبالبحوث الجامعية أيضا) تبرز، بما لا يدع مجالا للتأويل، “الإيجابيات الحضارية والدور الإيجابي للحضور الفرنسي فيما وراء البحر وخاصة بشمال إفريقيا”.

وعلى الرغم من تحفظ الرئيس الفرنسي (وهو يميني محافظ كأغلبية حكومته بالبرلمان) على الفصل الرابع كونه قد يكون مثار ” تأويل خاطئ”، فإن فلسفة النص لا تقبل كبير تأويل ليس فقط على اعتبار تمجيدها ” للحضور” الفرنسي بشمال إفريقيا كما بالهند الصينية، ولكن أيضا باعتبارها تمجيدا للاستعمار بكل أشكاله الاستيطاني المباشر منه (كما بحالة الجزائر لأكثر من 130 عاما)، الحامل لصفة “الحماية” (كما بحالة المغرب لما يناهز النصف قرن) أو باعتباره استعمارا تقليديا كما بحالة الهند الصينية أو بما سواها.

وإذا كان ثمة من تباين يذكر بين حالات الاستعمار الثلاث فبالمظهر والشكل لا غير، إذ الجوهر هو ذاته بكل الأحوال: جوهر استصدار سيادة دول وشعوب ومصادرة قرارها وارتهان حاضرها ومستقبلها من لدن القوة المستعمرة أو “الحامية” أو ذات الطبيعة الاستيطانية المباشرة.

وإذا كان الرئيس الجزائري قد اعتبر القانون إياه “هذيانا عقليا يضاهي إنكار الجرائم”، فإن ما سواه من حكام (بالمغرب كما بتونس كما بالهند الصينية) تجاهلوا المسألة جملة وتفصيلا كما لو أن لا قيمة من لدنهم للذاكرة أولا حاجة للتعليق حتى وإن بلغ الاستفزاز أقصى حالاته.

قد يسلم المرء تجاوزا بأن ما أقدمت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية إنما هو من قبيل رد الاعتبار لفئة من أبناء فرنسا قضت أو طردت (الأرجل السود بحالة الجزائر مثلا) أو نكل ب” ممتلكاتها” أو ” تم التنكر لتضحياتها”، فاستوجب الأمر جراء ذلك، “الاعتراف” بما قامت به وتعليم الأجيال القادمة كيف تصون ذلك ولا تزايد بشأنه بمرور الزمن.

وقد يسلم المرء أيضا (ولو من باب الجدل والمزايدة) بأن ما قامت به فرنسا بمستعمراتها ومستوطناتها تجاوز بكثير ما قامت به عقود الاستقلال المزيف ونخبه المرتشية، غير الوطنية والمرتمية بأحضان مصالحها الذاتية الضيقة مقابل تفريطها الكلي في قضايا وطنها وهموم مواطنيها.

ويتم الاستدلال على ذلك، في الغالب الأعم، بحجم ما شيدت فرنسا من طرق وموانئ وسكك حديدية وما استصلحت من أراضي قاحلة وما بنت من مدارس ومستشفيات ومحاكم وما زينت من شوارع وحدائق بهذا البلد المستعمر أو ذاك.

قد يكون، بالقول الأول كما بالثاني، بعض من عناصر الصواب والحقيقة:

+ ففرنسا تحترم الذاكرة (وذاك حقها) ولا تتنكر للضحايا من أبنائها ولا تفرط في ذويهم من بعدهم ولا تتوانى في الحديث عنهم كلما أتيحت لها السبل أو استوجب ذلك السياق العام.

+ وفرنسا بنت، بمستعمراتها ومستوطناتها، الطرق والموانئ والسكك الحديدية كما أنها علمت وطببت وحولت الأراضي القاحلة إلى ضيعات عصرية عالية الإنتاج.

+ وفرنسا استنبتت الكثير من القيم والبنى التحتية العلمية والتقنية وأساليب العمل والتنظيم لم تعمل عقود الاستقلال إلا على تقويض جزء كبير منها وترك الجزء الآخر للإهمال والتعرية… لدرجة جعلت الملايين من سكان هذه المستعمرة القديمة أو تلك تتحسر على سنين الاستعمار والحماية وتمني النفس بعودتها يوما لتريها ما فعلت بإنجازاتها نخب الاستقلال وأبنائها.

كل ذلك يضمر حقا بعضا من عناصر الصواب. لكنه يصطدم بحقيقة التحامل المطلقة على الطرف الآخر:

+ ففرنسا لم تستصلح الأراضي بالجزائر والمغرب وتونس إلا بعد مصادرتها لها والزج بأصحابها الشرعيين بالجبال يقتاتون على الأعشاب والرعي… وفي أحسن الأحوال تستقطبهم كأجراء لديها هم وأبناؤهم بمقابل مادي رمزي أو بمقابل طبيعي لسد رمق الجوع.

+ وفرنسا لم تشيد الطرق والموانئ وشبكات السكك الحديدية إلا بغرض ربط المناطق النافعة وتحويل خيراتها (الفلاحية والمنجمية) إليها وليس حبا في تجهيز المستعمرات أو إقامة البنى التحتية لتنميتها الذاتية.

+ ومعمرو فرنسا لم يأتوا للدول إياها بغرض تحضير هذه الشعوب أو حكمها (” مادامت لا تستطيع حكم نفسها بنفسها” تقول الإيديولوجيا الكولونيالية)، بل بغرض استنزاف خيرات ذات المستعمرات وتحسين ظروف عيشهم وضمان مستقبل أبنائهم (المعمرين أعني).

+ وفرنسا ب”إعادة الاعتبار” لمعمريها (عسكرا ومدنيين) لم تقتصر على إهانة ذاكرة الآخر (الشعوب المستعمرة)، بل ذهبت لحد إهانة الملايين ممن قضوا من أجل استقلال بلدانهم والدفاع عن شرفهم ودينهم وحقهم في اتخاذ القرار بأنفسهم.

كل هذه الأمور لم يستحضرها القانون 158-2005 ليس فقط لأنه جاهل بها، بل لكونه تجاهلها ولم يتجرأ للدفع ببنوده إلى حد الاعتراف بما اقترفته فرنسا من انتهاكات وإهانات وتقتيلات جماعية وتشريدات بالجملة وقس على ذلك.

إننا لا نطلب من فرنسا (بلد الحرية والتسامح وحقوق الإنسان) لا نطلب منها الاعتذار، بل نرجو أن تطلع ألمانيا يوما بقانون يمجد حقبة استعمار فرنسا من لدن النازية… حينها، وحينها فقط، ستحس فرنسا مقدار الجور والإهانة الذي يستتبع تمجيد ماضي الاستعمار حتى وإن اشتد حنين البعض إلى “أمجاده” …